المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق - حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية

[عمرو كامل عمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة بقلم الدكتور محمد بن موسى الشريف

- ‌تعقيب

- ‌{مقدمة المؤلف}

- ‌الباب الأول حصان رومي

- ‌الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

- ‌الاتجاه الأول (وحدة الأديان):

- ‌الاتجاه الثاني (توحيد الأديان):

- ‌الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان):

- ‌الخصائص الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والملاحظ عليها:

- ‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

- ‌الدولة الفاطمية الثانية:

- ‌تأييد آية الله التسخيري:

- ‌دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر:

- ‌تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ:

- ‌1 - مصطفى السباعي:

- ‌2 - محمد رشيد رضا:

- ‌3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل:

- ‌4 - محمد الأمين الشنقيطي:

- ‌5 - يوسف القرضاوي:

- ‌دافعي لبحث مسألة التشيع:

- ‌الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

- ‌فتح القسطنطينية وتبعاته:

- ‌اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي:

- ‌الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد:

- ‌العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية:

- ‌زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر):

- ‌صمويل هنتجتون يتقدم:

- ‌نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام:

- ‌هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي

- ‌غزوة مانهاتن

- ‌عودة إلى ساحة التنظير السياسي:

- ‌أوربان الأمريكي يعلن حربًا صليبية جديدة:

- ‌حرب العراق:

- ‌فرصة ذهبية:

- ‌بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي:

- ‌تعديل في المسار:

- ‌حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول:

- ‌شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي):

- ‌توماس فريدمان و (حرب الأفكار):

- ‌أندرو ترنبُل و (عملية المنافسة):

- ‌أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة):

- ‌الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

- ‌{مدخل}

- ‌الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي:

- ‌پروتوكولات حكماء صهيون:

- ‌{الصهيونية .. رؤية مغايرة}

- ‌اصطفاء مشروط لبني إسرائيل:

- ‌وعد أولاهما:

- ‌ورسولا إلى بني إسرائيل:

- ‌وعد الآخرة:

- ‌فائدة:

- ‌يهود الدياسپورا:

- ‌نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل:

- ‌العقيدة المشَّيحانية Messianism:

- ‌علاقة اليهود بالأغيار:

- ‌الجيتو اليهودي:

- ‌واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية:

- ‌الصَدْع اللوثري:

- ‌ورهبانية ابتدعوها:

- ‌الكنيسة تجني أرباحًا كبيرة:

- ‌صراع الأباطرة والبابوات:

- ‌تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية:

- ‌مهزلة صكوك الغفران:

- ‌عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا:

- ‌مارتن لوثر: ترجمة:

- ‌مارتن لوثر واليهود:

- ‌أفكار لوثر أحدثت ثغرًا لا يزال يتسع حتى اليوم:

- ‌المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي:

- ‌ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد:

- ‌يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا:

- ‌مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل):

- ‌الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌إنجلترا تتلقف الراية:

- ‌جذور المسألة اليهودية:

- ‌ونعود إلى إنجلترا

- ‌لورد پالمرستون الثالث:

- ‌كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي:

- ‌حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف:

- ‌هرتزل: ترجمة:

- ‌الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية:

- ‌المرحلة البلفورية:

- ‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

- ‌أمريكا تتلقف الراية:

- ‌الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية:

- ‌ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967

- ‌نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي:

- ‌قضية تامارين:

- ‌الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي

- ‌الموقف حيال القتل الجماعي

- ‌زواج مصالح…ولكن

- ‌العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي:

- ‌اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة:

- ‌الباب الثاني حصان فارسي

- ‌الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

- ‌أيُكسَر الباب أم يُفتَح

- ‌حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

- ‌جذور البلاء:

- ‌القذيفة الأولى:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌وهذه المسائل الأربعة هي:

- ‌ أولًا: تدوين التاريخ

- ‌ثانيًا: عدالة الصحابة:

- ‌تعريف الصحابي:

- ‌طبقات الصحابة:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌عقيدتنا في الصحابة:

- ‌حكم سب الصحابة:

- ‌ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌وقعة الجمل (36ه

- ‌معركة صِفِّين (37ه

- ‌قضية التحكيم (37 ه

- ‌رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة:

- ‌عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي رضي الله عنه

- ‌ولكن من هم (الشيعة الأولى)

- ‌تبرؤ شيعي:

- ‌عام الجماعة (41ه

- ‌مناقب أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه

- ‌الشيعة بعد عام الجماعة:

- ‌وفاة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وخلافة يزيد:

- ‌ولماذا أوصى معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد بالخلافة

- ‌موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية:

- ‌رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين رضي الله عنه

- ‌جيش التوابين:

- ‌أسباب فشل حركة التوابين:

- ‌في ثقيف كذاب ومبير:

- ‌انحراف عقدي:

- ‌مع الاثني عشرية:

- ‌وبداية: متى كانت بداية ظهورهم

- ‌الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

- ‌الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

- ‌«والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تُحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي]

- ‌عقيدة الإمامة:

- ‌أصل عقيدة الإمامة:

- ‌ولماذا اثنا عشر إمامًا

- ‌اعتقاد الرافضة في أئمتهم:

- ‌مغالطات واضحة:

- ‌المتتبع لسلسلة الأئمة يلاحظ الآتي:

- ‌حيرة

- ‌ولماذا اختفى

- ‌في السرداب:

- ‌كم مدة غيبته

- ‌وعرفت هذه بالغيبة الكبرى

- ‌الثورة الخمينية وولاية الفقيه:

- ‌أولًا: بيان رابطة العالم الإسلامي:

- ‌ثانيًا: بيان مفتي جمهورية تونس الحبيب بلخوجة:

- ‌ثالثًا: فتوى علماء المغرب:

- ‌رابعًا: بيان رابطة العلماء في العراق:

- ‌خامسًا: فتوى الشيخ الألباني:

- ‌متى تكون التقية

- ‌التقية عند الرافضة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة البداء:

- ‌من أقوال الرافضة في البداء:

- ‌عقيدة الرافضة في القرآن:

- ‌عقيدة الطينة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة الرافضة في أهل السنة:

- ‌اعتقاد أهل السنة في آل البيت رضي الله عنهم

- ‌ثناء آل البيت على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:

- ‌وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله

- ‌بل أنتم الناصبة

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف:

- ‌عقيدة الرجعة:

- ‌من الراجعون

- ‌وما مهام المهدي الراجع

- ‌إباحة الرافضة زواج المتعة:

- ‌من أدلة تحريم المتعة:

- ‌نظرية الخُمس:

- ‌الخمس عند الرافضة:

- ‌من أقوال علماء أهل السنَّة في الرافضة:

- ‌الفصل الثالث: شبهات وردودها

- ‌الشبهة الأولى: حديث الغدير:

- ‌الشبهة الثانية: حادثة فَدَك والإرث:

- ‌الشبهة الثالثة: آية المودة:

- ‌الشبهة الرابعة: آية التطهير:

- ‌الشبهة الخامسة: آية الولاية:

- ‌الشبهة السادسة: حديث المنزلة:

- ‌الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»:

- ‌الشبهة الثامنة: «يا رب أصحابي

- ‌الشبهة التاسعة: آية الفتح:

- ‌الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية:

- ‌الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»:

- ‌الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

؟!

ننتقل إلى ألمانيا لنناقش مسألة هي من الأهمية بمكان وقد تكون غائبة عن أذهان الكثيرين؛ ألا وهي حقيقة العلاقة بين الصهيونية والنازية ..

فعلى الرغم من الدعاية الصهيونية الشرسة وتأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة التي قام بها النازيون ضد كثير من الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعرْقية، فإن ثمة علاقة وطيدة بين الصهيونية والنازية تستحق الدراسة، خاصة وأن الموضوع يثير الآن شيئًا من الدهشة على الرغم من أنه لم يكن كذلك في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين.

فنقول: من الملاحظ أنه توجد أصول فكرية مشتركة وتماثل بنيوي بين كلتا الأيديولوچيتين النازية والصهيونية؛ فأدولف هتلر، الزعيم النازي (1) الذي كان يؤمن بتفوق الجنس الآري على باقي الأجناس، كان يرى أن «العقيدة الدينية اليهودية تشتمل على توجيهات بعضها يتعلق بحفظ الدم اليهودي نقيًا» (2)، وكان كذلك يصف الدولة اليهودية [أو المشروع الصهيوني] أنها «الجهاز الحي المُعَدّ لحفظ العرق وإنمائه» (3).

ولكن على الرغم من هذا الإعجاب الواضح بالمشروع، كان هتلر يكن كراهية عميقة لليهود كأفراد؛ يقول (4): «كنت أعتبر اليهود مواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولكن اختلاطي بأعداء السامية من مفكرين وساسة جعلني أشد تحفظًا في الحكم على أعداء اليهود، وما لبثت أن وجدتني في عداد المعنيين بالمسألة اليهودية بعد أن لمست بنفسي

(1) كلمة (نازي NAZI) مأخوذة بالاختصار والتصرف من أول مقطعين من العبارة الألمانية (ناشيونال سوشياليزمس Nationalsozialismus) أو (الاشتراكية القومية)، والتي تشير إلى (الحزب القومي الاشتراكي العمالي الألماني Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei NSDAP) الذي ترأسه أدولف هتلر.

(2)

أدولف هتلر: كفاحي، ص (175).

(3)

السابق، ص (171).

(4)

السابق، ص (19).

ص: 354

تكتل الإسرائيليين وتجمعهم في حي واحد من أحياء فيينا، ومحافظتهم الشديدة على تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم. وقد زاد في اهتمامي بمسألتهم ظهور الحركة الصهيونية وانقسام يهود فيينا إلى فئتين: فئة تحبذ الحركة الجديدة وتدعو لها، وفئة تشجبها. وقد أطلق خصوم الصهيونية على أنفسهم اسم (اليهود الأحرار)، إلا أن انقسامهم هذا لم يؤثر في التضامن القائم بينهم، مما حملني على الاعتقاد أن انقسامهم مصطنع وأنهم يلعبون لعبتهم، لا في النمسا فحسب، بل في العالم كله. وهي لعبة سداها ولحمتها الكذب والرياء مما يتنافى والطهارة الخلقية، طهارة الذيل التي يدعيها اليهود. وطهارة الذيل هذه، وكل طهارة أخرى يدعيها اليهود، هي ذات طابع خاص، فبعدهم عن النظافة البعد كله أمر يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي، وقد اضطررت لسد أنفي في كل مرة ألتقي أحد لابسي القفطان، لأن الرائحة التي تنبعث من أردائهم تنم عن العداء المستحكم بينهم وبين الماء والصابون» اهـ (1).

كذلك ففي أثناء محاكمات نورمبرج Nürnberger Prozesse (2) كان الزعماء النازيون يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية، خصوصًا كتابات مارتن بوبر Martin Buber (1878 - 1965 م) عن الدم والتربة. وقد أشار ألفريد روزنبرج Alfred Rosenberg (1893 - 1946 م)، أهم المنظِّرين النازيين، إلى أن «بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا، فهناك فقط يمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي» . ولعله، بهذا، كان يشير إلى حديث بوبر عن اليهود باعتبارهم آسيويين حيث يقول «لأنهم إذا كانوا

(1) وقد سُئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، فكانت إجابته قصيرة، بقدر ما كانت قاسية وواضحة، قال:«لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران، ونحن وحدنا شعب الإله المختار. هل هذه إجابة شافية عن السؤال؟» . [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية الصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتماثل البنيوي)].

(2)

تعد محاكمات نورمبرج (20/ 11/1945 - 1/ 10/1946م) من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ المعاصر، وقد عقدت لمقاضاة قادة ألمانيا النازية على أعمالهم العدوانية الوحشية وتجاربهم الطبية غير الإنسانية التي أجروها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م).

ص: 355

قد طُردوا من فلسطين، ففلسطين لم تُطرَد منهم».

وكان سترايخر Julius Streicher (1885 - 1946 م) يؤكد أثناء محاكمته أنه تعلم فكرة النقاء العرْقي من النبي عزرا: «لقد أكدت دائمًا حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل الأجناس، فلقد خلقوا قانونًا عنصريًا لأنفسهم، قانون موسى الذي يقول "إذا دخلت بلدًا أجنبيًا فلن تتزوج من نساء أجنبيات" (1)» . وكانت الأدبيات الصهيونية الخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوروپاحتى نهاية الثلاثينات (2).

وفي المقابل، كما سبق لنا القول، فإن هرتزل - كما يرى ناحوم جولدمان - قد توصل إلى فكرته القومية من خلال معرفته بالفكرة والحضارة الألمانية. وكان رواد الصهيونية من اليهود ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احترامًا كبيرًا للحضارات السلافية، وقد غيَّر هرتزل اسمه من (بنيامين) إلى (ثيودور) حتى (يؤلمن) اسمه، وسمَّى ماكس نوردو Max Nordau (1849 - 1923 م) نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين .. ولا يختلف زعماء يهود اليديشية عن ذلك، فلغتهم اليديشية هي رطانة ألمانية أساسًا. وكذلك كانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية، كما توجه الزعماء الصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشروع الصهيوني

وهكذا (3).

ولكن العلاقة بين النازية والصهيونية تتعدى مجرد التماثل البنيوي، والتأثير والتأثر الفكري، إذ ثمة علاقة فعلية وُجدت على عدة مستويات: وأدناها هو كيفية استغلال النازيين للدعاية الصهيونية في الترويج لرؤيتهم الإجرامية. وقد تناول الكاتب الأمريكي اليهودي بنيامين ماتوفو Benyamin Matuvo هذا الجانب من العلاقة في دراسته (الرغبة الصهيونية والفعل النازي The Zionist Wish

(1) يقصد ما جاء في عزرا: 10: 10 - 12

(2)

د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية الصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتماثل البنيوي) باختصار وتصرف يسير.

(3)

انظر السابق.

ص: 356

and The Nazi Deed)، حيث يؤكد أن الصهيونية مسئولة - إلى حد كبير - عن الجريمة النازية، لأن الصهاينة نشروا في ألمانيا ذاتها المزاعم الصهيونية الخاصة بالتميز اليهودي العرقي والانفصال القومي عن كل أوروپا. ويوثق الكاتب مقولته بالإشارة إلى عدد من التصريحات التي أدلى بها زعماء الصهاينة، فيشير - على سبيل المثال - إلى خطبة ألقاها ناحوم جولدمان في جامعة هايدلبرج Heidelberg عام 1920م (ثلاثة عشر عامًا قبل ظهور كتاب هتلر كفاحي). وقد زعم جولدمان، في خطبته هذه «أن اليهود شاركوا، بشكل ملاحظ للغاية، في الحركة التخريبية، وفي إسقاط الحكومة في نوفمبر 1918م» . وقد أكد جولدمان أيضًا أنه لا توجد أية عوامل مشتركة بين يهود ألمانيا والألمان، وأن الألمان عندهم الحق في أن يمنعوا اليهود من الاشتراك في شئون (الفولك) الألماني (1).

وقد قام الصهاينة الألمان بتطوير الأيديولوچيا الصهيونية والوصول بأطروحاتها إلى نتائجها المنطقية، أي تصفية الجماعات اليهودية في المنفى (أي العالم) تمامًا وإنشاء الدولة الصهيونية. وابتداءً من العشرينات، بدأ الزعماء الصهاينة في ألمانيا يطلقون التصريحات الصهيونية التي تؤكد الهوية اليهودية العضوية الخالصة وتنكر على اليهود انتماءهم إلى الأمة الألمانية.

ولقد شبه وايزمان علاقة الألمان باليهود بصورة مجازية استقاها من عملية الهضم، فقال:«إن أي بلد يود تحاشي الاضطرابات المعوية عليه أن يستوعب عددًا محدودًا فقط من اليهود» . وكان يرى أن عدد اليهود في ألمانيا أكبر من اللازم، أو بعبارة أخرى يوجد فائض بشري يهودي.

وفي الفترة نفسها، وصف چاكوب كلاتزكين Jakob Klatzkin (1882 - 1948 م) اليهود بأنهم جسم مغروس وسط الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها، ولذا فإن من حقهم أن يحاربوا ضد اليهود من أجل تماسُكهم القومي. وهذه كلها موضوعات قديمة مطروحة في كتابات هرتزل ونوردو، الأبوين الروحيين للصهيونية على وجه العموم والصهيونية الألمانية على وجه الخصوص، ولكنها اكتسبت أهمية خاصة من سياقها الزماني

(1) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (156) بتصرف.

ص: 357

والمكاني في ضوء ما حدث بعد ذلك. وهي لا تختلف في جوهرها عن قول إرنست يونجر Ernst Jünger (1895 - 1998 م)(المفكر القومي العضوي الذي ألهم النازيين) أن «اليهود يتوهمون أن بوسعهم أن يصبحوا ألمانيين في ألمانيا، ولكن هذا أمر غير قابل للتحقق. فاليهود يواجهون خيارًا نهائيًا: إما أن يكونوا يهودًا في ألمانيا، أو لا يكونوا» اهـ.

وفي ضوء هذا التوجه الصهيوني، لم يكن من الغريب أن يرى هتلر حين وصل إلى الحكم أن كثيرًا من الصهاينة على استعداد لتَفهُّم وجهة نظره، فقد صرح الحاخام الصهيوني يواكيم پرنز في يناير 1933م أنه لا مكان يمكن لليهود أن يختبئوا فيه. وقال:«بدلًا من الاندماج، نرى نحن الصهاينة أنه يجب الاعتراف بالأمة اليهودية وبالعرْق اليهودي» . وحينما قام النازيون في 31 يناير 1933م بحرق الكتب التي كانوا يرونها هدامة، كتبت يوديش روندشاو Jüdische Rundschau (المجلة الناطقة باسم الاتحاد الصهيوني) تقول إن «كثيرًا من المؤلفين اليهود خونة تنكَّروا لجذورهم لأنهم شتتوا جهودهم بإسهامهم في الثقافة الألمانية غير اليهودية» . وفي نبرة ترحيب واضحة، صرح إميل لودفيج Emil Ludwig [الكاتب اليهودي الألماني (1881 - 1948م)] بأن ظهور النازيين دفع بالآلاف من اليهود إلى حظيرة اليهودية مرة أخرى بعد أن كانوا قد ابتعدوا عنها. وقال:«ولذا، فأنا شخصيًا ممتن لهم» . وترد نفس الفكرة النازية الصهيونية على لسان الشاعر الصهيوني حاييم بياليك Hayyim Nahman Bialik (1873 - 1934 م) إذ يرى أن الهتلرية أنقذت يهود ألمانيا، ويضيف:«أنا أيضًا مثل هتلر أُومِنُ بفكرة الدم» .

ولم تكن هذه المقالات والتصريحات سوى افتتاحيات تمهيدية للإعلان الصهيوني الألماني الرسمي الذي أصدرته المنظمة الصهيونية في ألمانيا، في 21 يونيو 1933م، بعد وصول النازيين إلى السلطة (إعلان الاتحاد الصهيوني بشأن وضع اليهود في دولة ألمانيا الجديدة Ausserung der Zionistischen Vereinigung für Deutschland zur Stellung der Juden im Neuen Deutschen Staat)،

ص: 358

والذي حدَّد طبيعة علاقة الصهاينة بالنظام النازي بشكل واضح لا إبهام فيه. وقد اتخذ الإعلان شكل مذكرة أُرسلت مباشرةً إلى الحزب النازي وهتلر وتم من خلالها تحديد المقولات المشتركة بين النازيين والصهاينة.

ولقد أوضحت المذكرة نقط الالتقاء الفلسفية والنظرية بين الصهيونية والنازية؛ فأكدت أن الصهيونية مثل النازية تمزج الدين بالقومية، فالأصل والدين ووحدة المصير والوعي الجماعي يجب أن تكون كلها ذات دلالة حاسمة في صياغة حياة اليهود. وتؤكد المذكرة أن المنظمة تقبل مبدأ العرْق، أحد ثوابت الرؤية النازية، كأساس لتصنيف الأفراد والجماعات المختلفة، ولإنشاء علاقة واضحة مع الشعب الألماني وحقائقه القومية والعرْقية. كما تقوم المذكرة بتعريف اليهود تعريفًا عرْقيًا، مبينة أن هدف الصهيونية هو التصدي للزيجات المختلطة والحفاظ على نقاء الجماعة اليهودية. وقد طرحت المنظمة الصهيونية نفسها باعتبارها الحركة الوحيدة القادرة على أن تأتي بحل للمسألة اليهودية يحوز رضا الدولة النازية الجديدة ويتفق مع خُططها، حل يهدف إلى بعث اليهود من الناحية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في إطار فكرة الشعب العضوي ويتبع النموذج النازي.

وتمضي المذكرة قائلة إن الصهيونية تأمل أن تحظى بالتعاون مع حكومة معادية لليهود بشكلٍ أساسي، إذ لا مجال للعواطف عند تناول المسألة اليهودية، فهي مسألة تهم كل الشعوب (وخصوصًا الشعب الألماني) في الوقت الراهن.

وفي نهاية المذكرة/الإعلان، شجب الصهاينة جهود القوى المعادية للنازية وهتلر، والتي كانت قد طالبت في ربيع عام 1933م بمقاطعة ألمانيا النازية اقتصاديًا.

ومما يجدر ذكره أن هذه الوثيقة لم تُكتَشف إلا عام 1962م ولم تُعط الذيوع الذي تستحقه، رغم أنها تلقي الكثير من الضوء على علاقة النازيين بالصهاينة. وربما لو عرف مؤرخو الإبادة النازية في الشرق والغرب بها لنظروا إلى الإبادة النازية لليهود نظرة مختلفة بعض الشيء.

وحينما استولى النازيون على السلطة، سمحوا للصهاينة بالقيام بنشاطاتهم الحزبية، سواء اتخذت شكل اجتماعات أو إصدار منشورات أو جمع تبرعات أو تشجيع الهجرة أو

ص: 359

التدريب على الزراعة والحرف، أي إنهم سمحوا لهم بنشاط صهيوني خارجي كامل. كما كانت المجلات الصهيونية هي المجلات الوحيدة غير النازية المسموح لها بالصدور في ألمانيا. وقد تمتعت هذه المجلات بحريات غير عادية؛ فكان من حقها أن تدافع عن الصهيونية كفلسفة سياسية مستقلة. وحتى عام 1937م، لم يتأثر عدد صفحات يوديش روندشاو بالقرارات الاقتصادية التقشفية التي تقرر بمقتضاها إنقاص عدد صفحات كل المجلات (وضمنها المجلات الآرية). كما نشرت دور النشر الألمانية أعمال حاييم وايزمان ودافيد بن جوريون David Ben-Gurion (1886 - 1973 م) وآرثر روپين Arthur Ruppin (1876 - 1943 م) .. وكما يذكر إدوين بلاك Edwin Black مؤرخ (اتفاقية النقل/الهعفراه)(1)، إن «الصهيونية هي الفلسفة السياسية المستقلة الوحيدة التي وافق عليها النازيون» اهـ (2).

ولكن يُثير بعض الدارسين تساؤلًا بخصوص المقاومة اليهودية والصهيونية للنازيين؛ فيُبيِّن ماريك إيديلمان Marek Edelman (1919/ 1922 - 2009 م)، أحد قواد تمرد جيتو وارسو Warsaw Ghetto، في حديث له مع مجلة هآرتس أن الأبطال الحقيقيين للمقاومة كانوا أعضاء حزب البوند واليهود المعادين للصهيونية والشيوعيين والتروتسكيين والصهاينة اليساريين، أما أعضاء التيار الصهيوني الأساسي فكان موقفهم هو موقف الحياد إياه. وكلما كان النضال ضد النازية يزداد ضراوة، كان الصهاينة يزدادون ابتعادًا عن بقية اليهود.

(1) اتفاقية النقل/الهعفراه The Transfer Agreement/Haavrah: هي معاهدة وقَّعها المستوطنون الصهاينة مع النازيين عام 1933م، وكانت تقضي بأن تسمح السلطات الألمانية لليهود الذين يقررون الهجرة من ألمانيا إلى فلسطين بنقل جزء من أموالهم إلى هناك، ثم يسمح باستعمال هذا المبلغ فقط لشراء تجهيزات وآلات زراعية مختلفة من ألمانيا ويتم تصديرها إلى فلسطين. وهناك تقوم الشركة ببيع هذه البضائع وتسدد بأثمانها المبالغ المستحقة لمودعيها بعد وصولهم كمهاجرين إلى فلسطين، وتحتفظ بالفرق كعمولة أو ربح لها. [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ معاهدة الهعفراه (الترانسفير))].

(2)

د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية والصهيونية: العلاقة الفعلية) باختصار وتصرف يسير.

ص: 360

كذلك، فثمة نظرية تذهب إلى أن المقاومة لم تكن على أية حال لتجدي فتيلًا، وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الألماني لم تكن تمانع في الإبادة، فضلًا عن أن آلة الحرب والمخابرات والإبادة الألمانية كانت على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على الفتك (1).

والموضوع خلافي للغاية، وقد بيَّنا عدم اكتراث الصهاينة بالمقاومة اليهودية وغير اليهودية للنازيين. ولكن يبدو أن المسألة كانت تتخطى مجرد عدم الاكتراث بمصير اليهود وعدم الاشتراك في المقاومة، إذ يبدو أن الصهاينة اكتشفوا، أثناء الإرهاب النازي ضد اليهود، ذلك التناقض العميق بين فكرة الدولة اليهودية ومحاولة إنقاذ اليهود.

وقد حدد بن جوريون القضية بشكل قاطع (في 7 ديسمبر 1937م) حين أكد أن المسألة اليهودية لم تَعُد مشكلة آلاف اليهود المهدَّدين بالإبادة وإنما هي مشكلة الوطن القومي أو المستوطن الصهيوني. وقد أدرك بن جوريون خطورة فصل مشكلة اللاجئين اليهود عن المشروع الصهيوني والتفكير في توطين اللاجئين في أي مكان إن لم تستوعبهم فلسطين. وأكد بن جوريون أنه «إن استولت الرحمة على شعبنا ووجه طاقاته إلى إنقاذ اليهود في مختلف البلاد فإن ذلك سيؤدي إلى شطب الصهيونية من التاريخ» . وفي العام التالي صرح بن جوريون أمام زعماء الصهيونية العمالية: «لو عرفت أن من الممكن إنقاذ كل أطفال ألمانيا بتوصيلهم إلى إنجلترا، في مقابل أن أنقذ نصفهم وأنقلهم إلى فلسطين فإني أختار الحل الثاني، إذ يتعين علينا أن نأخذ في اعتبارنا، لا حياة هؤلاء الأطفال وحسب، بل كذلك تاريخ شعب إسرائيل» .

وإذا كان بن جوريون على استعداد بالتضحية بنصف الأطفال اليهود من أجل الوطن القومي الصهيوني فإن إسحق جرونباوم Yitzhak Gruenbaum (1879 - 1970 م)(رئيس لجنة الإنقاذ بالوكالة اليهودية) قد تجاوز الحدود تمامًا؛ ففي حديث له أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية في 18 فبراير 1943م، صرح قائلًا أنه لو سُئل إن كان من الممكن

(1) السابق (2/ مقاومة الجماعات اليهودية للنازية) باختصار وتصرف يسير.

ص: 361

التبرع ببعض أموال النداء اليهودي الموحد لإنقاذ اليهود فإن إجابته ستكون «كلَاّ ثم كلَاّ» بشكل قاطع. وأضاف: «يجب أن نقاوم هذا الاتجاه نحو وضع النشاط الصهيوني في المرتبة الثانية

إن بقرة واحدة في فلسطين أثمن من كل اليهود في پولندا». وكان وايزمان قد عبَّر عن نفس الفكرة النفعية عام 1937م حينما قال: «إن العجائز سَيَمُتْن، فهنَّ تراب وسيتحمَّلْن مصيرهنَّ، وينبغي عليهنَّ أن يفعلن ذلك» .

وانطلاقًا من هذه الرؤية المتمركزة حول المشروع الصهيوني وليس الإنسان اليهودي، أدَّت الحركة الصهيونية دورًا حاسمًا في تدمير جميع المحاولات الرامية إلى توطين اليهود في أماكن مختلفة من العالم، حتى يضمن الصهاينة تدفق المادة البشرية اليهودية على فلسطين. ولهذا، التزمت جولدا مائير، مندوبة الحركة الصهيونية في فلسطين، الصمت الكامل حيال مداولات مؤتمر إفيان Evian Conference (6 - 15 يوليو 1938م) باعتبارها أمرًا لا يخصها، وقد فسَّرت موقفها هذا فيما بعد، بأنها لم تكن تدري شيئًا عن عمليات الإبادة النازية!!

وقد اكتشف النازيون أيضًا عمق تناقض مصالح الصهاينة مع اليهود واتفاق الموقف النازي مع الموقف الصهيوني؛ فاليهودي الصهيوني الذي يخدم هويته العضوية هو شخص يستحق الاحترام، على عكس اليهودي المتألمن المندمج الذي يتمسح في الهويات العضوية للآخرين ولا ينجح بطبيعة الحال في اكتسابها، لأنه حبيس هويته اليهودية، شاء أم أبى. ولعل هذا يُفسِّر السبب في أن النازيين اعتبروا أن عدوهم الحقيقي هو اليهود الأرثوذكس والجماعة المركزية للمواطنين اليهود من أتباع العقيدة اليهودية. ولعله يفسر أيضًا لم كانت علاقة الدولة النازية بالمنظمات الصهيونية تتسم بشيء من الود والتفاهم؛ فبينما كان الأرثوذكس والإصلاحيون يطالبون بمنح اليهود حقوقهم كمواطنين، وباندماجهم في مجتمعاتهم، كان الصهاينة يعارضون الاندماج ويعارضون منح اليهود أي حق، إلا حق الهجرة إلى الوطن القومي اليهودي.

لكل هذا قام النظام النازي بتشجيع النشاط الصهيوني ودعم المؤسسات الصهيونية

ص: 362