المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌پروتوكولات حكماء صهيون: - حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية

[عمرو كامل عمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة بقلم الدكتور محمد بن موسى الشريف

- ‌تعقيب

- ‌{مقدمة المؤلف}

- ‌الباب الأول حصان رومي

- ‌الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

- ‌الاتجاه الأول (وحدة الأديان):

- ‌الاتجاه الثاني (توحيد الأديان):

- ‌الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان):

- ‌الخصائص الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والملاحظ عليها:

- ‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

- ‌الدولة الفاطمية الثانية:

- ‌تأييد آية الله التسخيري:

- ‌دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر:

- ‌تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ:

- ‌1 - مصطفى السباعي:

- ‌2 - محمد رشيد رضا:

- ‌3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل:

- ‌4 - محمد الأمين الشنقيطي:

- ‌5 - يوسف القرضاوي:

- ‌دافعي لبحث مسألة التشيع:

- ‌الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

- ‌فتح القسطنطينية وتبعاته:

- ‌اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي:

- ‌الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد:

- ‌العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية:

- ‌زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر):

- ‌صمويل هنتجتون يتقدم:

- ‌نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام:

- ‌هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي

- ‌غزوة مانهاتن

- ‌عودة إلى ساحة التنظير السياسي:

- ‌أوربان الأمريكي يعلن حربًا صليبية جديدة:

- ‌حرب العراق:

- ‌فرصة ذهبية:

- ‌بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي:

- ‌تعديل في المسار:

- ‌حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول:

- ‌شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي):

- ‌توماس فريدمان و (حرب الأفكار):

- ‌أندرو ترنبُل و (عملية المنافسة):

- ‌أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة):

- ‌الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

- ‌{مدخل}

- ‌الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي:

- ‌پروتوكولات حكماء صهيون:

- ‌{الصهيونية .. رؤية مغايرة}

- ‌اصطفاء مشروط لبني إسرائيل:

- ‌وعد أولاهما:

- ‌ورسولا إلى بني إسرائيل:

- ‌وعد الآخرة:

- ‌فائدة:

- ‌يهود الدياسپورا:

- ‌نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل:

- ‌العقيدة المشَّيحانية Messianism:

- ‌علاقة اليهود بالأغيار:

- ‌الجيتو اليهودي:

- ‌واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية:

- ‌الصَدْع اللوثري:

- ‌ورهبانية ابتدعوها:

- ‌الكنيسة تجني أرباحًا كبيرة:

- ‌صراع الأباطرة والبابوات:

- ‌تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية:

- ‌مهزلة صكوك الغفران:

- ‌عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا:

- ‌مارتن لوثر: ترجمة:

- ‌مارتن لوثر واليهود:

- ‌أفكار لوثر أحدثت ثغرًا لا يزال يتسع حتى اليوم:

- ‌المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي:

- ‌ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد:

- ‌يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا:

- ‌مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل):

- ‌الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌إنجلترا تتلقف الراية:

- ‌جذور المسألة اليهودية:

- ‌ونعود إلى إنجلترا

- ‌لورد پالمرستون الثالث:

- ‌كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي:

- ‌حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف:

- ‌هرتزل: ترجمة:

- ‌الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية:

- ‌المرحلة البلفورية:

- ‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

- ‌أمريكا تتلقف الراية:

- ‌الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية:

- ‌ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967

- ‌نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي:

- ‌قضية تامارين:

- ‌الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي

- ‌الموقف حيال القتل الجماعي

- ‌زواج مصالح…ولكن

- ‌العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي:

- ‌اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة:

- ‌الباب الثاني حصان فارسي

- ‌الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

- ‌أيُكسَر الباب أم يُفتَح

- ‌حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

- ‌جذور البلاء:

- ‌القذيفة الأولى:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌وهذه المسائل الأربعة هي:

- ‌ أولًا: تدوين التاريخ

- ‌ثانيًا: عدالة الصحابة:

- ‌تعريف الصحابي:

- ‌طبقات الصحابة:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌عقيدتنا في الصحابة:

- ‌حكم سب الصحابة:

- ‌ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌وقعة الجمل (36ه

- ‌معركة صِفِّين (37ه

- ‌قضية التحكيم (37 ه

- ‌رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة:

- ‌عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي رضي الله عنه

- ‌ولكن من هم (الشيعة الأولى)

- ‌تبرؤ شيعي:

- ‌عام الجماعة (41ه

- ‌مناقب أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه

- ‌الشيعة بعد عام الجماعة:

- ‌وفاة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وخلافة يزيد:

- ‌ولماذا أوصى معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد بالخلافة

- ‌موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية:

- ‌رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين رضي الله عنه

- ‌جيش التوابين:

- ‌أسباب فشل حركة التوابين:

- ‌في ثقيف كذاب ومبير:

- ‌انحراف عقدي:

- ‌مع الاثني عشرية:

- ‌وبداية: متى كانت بداية ظهورهم

- ‌الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

- ‌الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

- ‌«والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تُحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي]

- ‌عقيدة الإمامة:

- ‌أصل عقيدة الإمامة:

- ‌ولماذا اثنا عشر إمامًا

- ‌اعتقاد الرافضة في أئمتهم:

- ‌مغالطات واضحة:

- ‌المتتبع لسلسلة الأئمة يلاحظ الآتي:

- ‌حيرة

- ‌ولماذا اختفى

- ‌في السرداب:

- ‌كم مدة غيبته

- ‌وعرفت هذه بالغيبة الكبرى

- ‌الثورة الخمينية وولاية الفقيه:

- ‌أولًا: بيان رابطة العالم الإسلامي:

- ‌ثانيًا: بيان مفتي جمهورية تونس الحبيب بلخوجة:

- ‌ثالثًا: فتوى علماء المغرب:

- ‌رابعًا: بيان رابطة العلماء في العراق:

- ‌خامسًا: فتوى الشيخ الألباني:

- ‌متى تكون التقية

- ‌التقية عند الرافضة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة البداء:

- ‌من أقوال الرافضة في البداء:

- ‌عقيدة الرافضة في القرآن:

- ‌عقيدة الطينة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة الرافضة في أهل السنة:

- ‌اعتقاد أهل السنة في آل البيت رضي الله عنهم

- ‌ثناء آل البيت على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:

- ‌وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله

- ‌بل أنتم الناصبة

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف:

- ‌عقيدة الرجعة:

- ‌من الراجعون

- ‌وما مهام المهدي الراجع

- ‌إباحة الرافضة زواج المتعة:

- ‌من أدلة تحريم المتعة:

- ‌نظرية الخُمس:

- ‌الخمس عند الرافضة:

- ‌من أقوال علماء أهل السنَّة في الرافضة:

- ‌الفصل الثالث: شبهات وردودها

- ‌الشبهة الأولى: حديث الغدير:

- ‌الشبهة الثانية: حادثة فَدَك والإرث:

- ‌الشبهة الثالثة: آية المودة:

- ‌الشبهة الرابعة: آية التطهير:

- ‌الشبهة الخامسة: آية الولاية:

- ‌الشبهة السادسة: حديث المنزلة:

- ‌الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»:

- ‌الشبهة الثامنة: «يا رب أصحابي

- ‌الشبهة التاسعة: آية الفتح:

- ‌الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية:

- ‌الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»:

- ‌الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌پروتوكولات حكماء صهيون:

أرثوذكسي وآخر حسيدي صوفي وثالث صهيوني ديني أو إثني أو إصلاحي أو ملحد

إلخ، فمن زاوية حديثنا هنا نقول: إنه لا مشاحة في الاصطلاح، وليس بعد الكفر ذنب، وطالما أن المرء ارتضى لنفسه الانتساب إلى اليهودية، تحت أي فلسفة أو أيديولوچية كانت، فهو يهودي شمله كتاب الله تعالى بالذكر، ونعامله كما أمر ربنا جل وعلا، كلٌ حسب حاله، والقاعدة العامة عندنا هي قول الله تعالى:{لَيْسُوا سَوَاء} (1). وعليه، وخطابنا هنا على المستوى العام، فإن ما يثار اليوم من القول بأن عداءنا مع الصهاينة لا مع اليهود هو كلام ديپلوماسي أجوف، وتقييد لما أطلقه الله تعالى في قوله:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (2)؛ ذلك أن الخلاف بين التيار اليهودي الصهيوني والآخر المناهض له (المتقلِّص) هو خلاف أيديولوچي مرحلي، وكفانا أنه حينما ينطق الحجر والشجر في آخر الزمان فلن يقول:«يا مسلم، يا عبد الله، هذا صهيوني خلفي فتعال فاقتله» ! وراجع ما أخرجه مسلم وغيره إن شئت، والله أعلم.

‌پروتوكولات حكماء صهيون:

بقي لنا أن نتحدث عن حقيقة الوثيقة المعروفة باسم (پروتوكولات حكماء صهيون)، والتي كثر حولها اللغط بين مشكك في صدق نسبتها إلى اليهود، وبين مثبت لذلك ..

يقول سرچي نيلوس Sergei Nilus (1862 - 1929 م)، وهو أول ناشر للپروتوكولات كاملة باللغة الروسية (3): «لقد تسلمت من صديق شخصي [يقصد ألكسيس نيكولايفيتش Alexis Nicholaeivich كبير جماعة أعيان روسيا الشرقية القيصرية]- وهو الآن ميت - مخطوطًا يصف بدقة ووضوح عجيبين خطة وتطور مؤامرة

(1) آل عمران: 113

(2)

المائدة: 82

(3)

قاله في كتابه المترجم تحت عنوان: الخطر اليهودي، پروتوكولات حكماء صهيون، انظر ص (127).

ص: 182

عالمية مشئومة، موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى التفكك والانحلال المحتوم. هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات (1901م)، وهي بالتأكيد القطعي صورة حقة في النقل من وثائق أصلية سرقتها سيدة فرنسية من أحد الأكابر ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء الماسونية الحرة، وقد تمت السرقة في نهاية اجتماع سري بهذا الرئيس في فرنسا حيث وكر المؤتمر الماسوني اليهودي هناك» اهـ.

وقوله هذا مشهور، ولكن على النقيض منه يقول الباحث الروسي الدكتور ياكوف رابكن (1):«پ روتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة مزيفة أخرجت منذ قرن على أمر من شرطة قيصر روسيا السرية» اهـ.

والمسألة اشتد فيها النزاع، وتضاربت فيها الأقوال، وما زال .. ولعل من أوائل من طرحوا رؤية مغايرة لما عهدناه نحن (على الأقل في عالمنا العربي) هو الصحافي الإنجليزي فيليپ جرافز Philip Graves (1876 - 1953 م)؛ فعلى مدار ثلاثة أيام، في الفترة من 16 إلى 18 أغسطس عام 1921م، نشر جرافز ثلاث مقالات في صحيفة (التايمز) اللندنية، ينقب فيها عن حقيقة هذه الپروتوكولات. وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله (1889 - 1964م) إلى هذه المقالات في تقديمه لترجمة التونسي العربية للپروتوكولات، وكان مما قاله عنها (2):«وأغلب الظن بعد هذا كله - على ما نرى - أن الپروتوكولات من الوجهة التاريخية محل بحث كثير، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن السيطرة الخفية قائمة بتلك الپروتوكولات أو بغير تلك الپروتوكولات» اهـ.

كما أشار إليها الدكتور المسيري في مواطن عدة من أبحاثه. ولقد اجتهدت في البحث عن أصلها حتى وقفت على نسخة أصلية لهذه المقالات الثلاثة (3) نستعرض في الصفحات التالية أهم ما جاء فيها.

(1) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، مقدمته للطبعة العربية، ص (8). Yakov M. Rabkin: Au nom de la Torah: Une histoire de l'opposition juive au Sionisme

(2)

محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (17).

(3)

محفوظة بصيغة pdf.

ص: 183

يقول جرافز في مقالته الأولى (1): «إن الوثيقة المسماة بپروتوكولات حكماء صهيون، والتي نشرت في لندن العام الماضي تحت عنوان (الخطر اليهودي The Jewish Peril)، هي ترجمة لكتاب نشره سرچي نيلوس في روسيا عام 1905م، ونيلوس موظف حكومي ادَّعى تسلُّمه من صديق له نسخة من محضر اجتماع سري عقدته منظمة يهودية في پاريس كانت تخطط لتدمير الحضارة وإقامة حكومة يهودية عالمية.

هذه الپروتوكولات لم تحظَ باهتمام كبير حتى قيام الثورة الروسية في عام 1917م وظهور البلاشفة (2)، والذين ضموا في صفوفهم الكثير من اليهود أظهروا معتقدات سياسية تلتقي في بعض النقاط مع تلك المذكورة في الپروتوكولات، مما أدى بالكثير إلى الاقتناع بأن اكتشاف نيلوس المزعوم كان حقيقة.

انتشرت الپروتوكولات على نطاق واسع وترجمت إلى عدة لغات أوروپية. ولكن العديد من المناقشات عقدت كذلك من أجل محاولة إثبات زيفها» اهـ.

ثم ينتقل جرافز لاستعراض أدلته؛ فيذكر أنه حينما كان يعمل مراسلًا لصحيفته في القسطنطينية (أو إسطنبول كما صار اسمها بعد عام 1930م)، دفع إليه أحد المراسلين رفض ذكر اسمه - غالبًا لأسباب متعلقة بزمانه، وكناه بمستر إكس Mr. X.، وذكر أنه أرثوذكسي روسي مؤيد للنظام الملكي ومهتم بالمسألة اليهودية الروسية - دفع إليه نسخة من كتاب للأديب والمحامي الفرنسي موريس چولي (1829 - 1878م) اسمه (حوار في الجحيم بين مكيافيللي ومنوتيسكيو، أو سياسة مكيافيللي في القرن التاسع عشر، بواسطة معاصر)(3)، طبع لأول مرة في چنيف عام 1864م، ثم ظهرت منه طبعات أخرى في بروكسل (4)، وفيه ينتقد چولي نظام ناپليون الثالث الفاسد Napoléon III (1808 -

(1) The Times: Tuesday، August 16، 1921

(2)

البلاشفة، أو البلشفيك: أي الكثرة أو الأكثرية. وقد أطلقت جماعة الجناح اليساري من أنصار لينين في حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي هذا التعبير على نفسها عام 1903م.

(3)

Maurice Joly: Dialogue aux enfers entre Machiavel et Montesquieu، ou la politique de Machiavel au XIXe siècle، par un contemporain

(4)

ويحتوي المتحف البريطاني The British Museum على نسخة كاملة منه، وكذلك احتفظت المكتبة الوطنية في پاريس Bibliothèque Nationale ببعض النسخ، منها طبعة بروكسل (1868م) التي اعتمدْت عليها في هذا البحث.

ص: 184

1873 م). ولقد صاغه بأسلوبه الساخر في صورة خمسة وعشرين حوارًا دار بين روح كل من نيكولو مكيافيللي وشارلز مونتيسكيو (1689 - 1755م) مقسمة إلى أربعة أقسام. وفيه يمثل مونتيسكيو التيار الليبرالي في حين يمثل مكيافيللي الطغيان والاستبداد، ويقرن چولي بأسلوبه بين الاتجاهين ويصف الطرق السرية التي من خلالها تتمخض الليبرالية عن طاغية مثل ناپليون الثالث (1).

وترتب على تأليف چولي للكتاب أنه تم اعتقاله من قبل شرطة ناپليون الثالث وحكم عليه بالسجن لمدة [خمسة عشر شهرًا، وبغرامة مالية قدرها مائتي فرانك](2)، وصادرت الشرطة ما توصلت إليه من نسخ، وحظرت طباعة أو نشر الكتاب [وذلك حتى عام 1933م].

يذكر (إكس) هذا أن كتاب چولي - الذي قد حصل عليه بالصدفة - قد أزال الغموض المحيط بحقيقة الپروتوكولات، يقول جرافز:«منذ عدة أشهر اشترى المراسل إكس عددًا من الكتب القديمة من ضابط سابق في الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا Okhrana) كان قد فر هاربًا إلى القسطنطينية وأقام فيها. وكان من بين هذه الكتب الكتاب الفرنسي المذكور. وعند الاطلاع عليه لاحظ (إكس) التماثل المريب بين نَصه وبين نَص فقرات الپروتوكولات، خاصة الحوارات (1 - 17) والپروتوكولات (1 - 19) مع وجود بعض الفروق الطفيفة» اهـ.

ويعرض فيليپ جرافز في مقالته الثانية (الأربعاء 17 أغسطس 1921م) عدة مقارنات بين نصوص الكتاب الفرنسي والپروتوكولات، نذكر هنا بعضها، وذلك بعد مطابقتها بنسخة بروكسل لعام 1868م من كتاب موريس چولي.

جاء في الپروتوكول الأول: «يجب أن يلاحظ أن ذوي الطبائع الفاسدة من الناس أكثر

(1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Maurice Joly.

(2)

حسب ما جاء في مقدمة طبعة بروكسل لعام 1868م، في حين أن جرافز يذكر في مقالته أنه قد حُكِم على چولي بالسجن ثمانية عشر شهرًا ولم يذكر الغرامة المالية.

ص: 185

عددًا من ذوي الطبائع النبيلة

ماذا كبح الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس؟ وماذا حكمها حتى الآن؟ لقد خضعوا في الطور الأول من الحياة الاجتماعية للقوة الوحشية العمياء، ثم خضعوا للقانون».

وجاء في الحوار الأول على لسان مكيافيللي: «إن الطبائع الفاسدة في الإنسان هي الغالبة على الطبائع النبيلة

من يكبح هذه الوحوش المفترسة التي نسميها بشر عن أن تتصارع فيما بينها؟ في بداية نشأة المجتمعات كانت القوة الغاشمة المطلقة، ثم بعد ذلك كان القانون».

وهذا هو نص ما جاء في الحوار الأول (1):

«L'instinct mauvais chez l'homme est plus puissant que le bon

Qui contient entre eux ces animaux dévorants qu'on appelle les hommes? A l'origine des sociétés، c'est la force brutale et sans frein; plus tard، c'est la loi».

جاء في الپروتوكول الثاني عشر: «ستكون لنا جرائد شتى تؤيد الطوائف المختلفة: من أرستقراطية وجمهورية، وثورية، بل فوضوية أيضًا

وستكون هذه الجرائد مثل الإله الهندي فشنو، لها مئات الأيدي، وكل يد ستجس نبض الرأي العام المتقلب».

وجاء في الحوار الثاني عشر على لسان مكيافيللي: «مثل الإله فشنو، سيكون لصحافتي مائة ذراع، وسوف تمد هذه الأذرع يد العون لكل الآراء المختلفة الموجودة على الساحة في البلاد مهما كانت» .

وهذا هو نص ما جاء في الحوار الثاني عشر (2):

«Comme le dieu Wishnou، ma presse aura cent bras، et ces bras donneront la main à toutes les nuances d'opinion quelconque sur la surface entière du pays» .

(1) Maurice Joly: Dialogue aux Enfers، premier dialogue، p(6)

(2)

ibid.، douzième dialogue، p(106)

ص: 186

جاء في الپروتوكول العشرين: «القرض هو إصدار أوراق حكومية توجب التزام دفع فائدة تبلغ نسبة مئوية من المبلغ الكلي للمال المقترض. فإذا كان القرض بفائدة قدرها خمسة من مائة، ففي عشرين سنة ستكون الحكومة قد دفعت بلا ضرورة مبلغًا يعادل القرض لكي تغطي النسبة المئوية. وفي أربعين سنة ستكون قد دفعت ضعفين، وفي ستين سنة ثلاثة أضعاف المقدار، ولكن القرض سيبقى ثابتًا كأنه دين لم يسدد» .

وجاء في الحوار العشرين على لسان مونتيسكيو: «كيف تمارس القروض؟ تمارس عن طريق إصدار سندات مالية تحوي التزامًا من الحكومة بدفع فوائد محددة من قيمة رأس المال المدفوع. فلو كان القرض بفائدة 5% على سبيل المثال، ستكون الدولة بعد عشرين سنة قد دفعت مبلغًا يعادل رأس المال المقترض، وبعد أربعين سنة ستكون قد دفعت الضعف، وبعد ستين سنة ستكون قد دفعت ثلاثة أضعاف. ومع ذلك تبقى دائمًا مدينة بنفس قيمة رأس المال» .

وهذا هو نص ما جاء في الحوار العشرين (1):

«Comment se font les emprunts? par des émissions de titres contenant obligation de la part du gouvernement، de servir des rentes proportionnées au capital qui lui est versé. Si l'emprunt est de 5 p. c. [%]، par exemple، l'Etat، au bout de vingt ans، a payé une somme égale au capital emprunté; au bout de quarante ans une somme double; au bout de soixante ans une somme triple، et، néanmoins، il reste toujours débiteur de la totalité du même capital» .

أما عن فقرات الپروتوكولات التي لم تقتبس من كتاب موريس چولي فيُرَجِّح جرافز في مقالته الثالثة (الخميس 18 أغسطس 1921م) أنها «صيغت من قبل الپوليس السياسي

(1) ibid.، vingtième dialogue، p(185 - 6)

ص: 187

الروسي (أوخرانا) بالاستعانة بعملاء يهود مجندين للتجسس على إخوانهم في الدين Coreligionists» اهـ.

لقد سعى جرافز سعيًا مشكورًا لإزاحة الستار عن الأصل الذي اعتمده المحرِّف المحترف، ولكن ما زالت هناك بعض المسائل الغامضة التي لم تكشفها مقالاته الثلاثة، وما زالت هناك عدة تساؤلات حول كيفية وصول الپروتوكولات إلينا على هذا الوجه، وهذا ما سنفصل فيه الحديث في الصفحات التالية ..

يذكر موريس چولي في مذكراته (عام 1870م) جلوسه إحدى الليالي على ضفاف نهر السين Seine حينما ألهم بكتابة (حواره) المذكور (1). إلا أنه، كما تذكر الموسوعة الحرة، تشير الأبحاث العلمية المدققة إلى زيف ادعاء چولي، وأن (حواره) منتحل من رواية (ألغاز الشعب Les Mystères du Peuple) الشهيرة للروائي الفرنسي أوچين سُو Eugène Sue (1804 - 1857 م)، والتي صدرت قبل كتاب چولي بسبع سنوات، وفيها نسج (سُو) من وحي خياله شخصيات عرَّفها بأنها مجموعة متآمرة من (اليسوعيين الشيطانيين)(2).

ولكن لم يقف الأمر عند هذا، إنما نسج على منوال موريس چولي كاتب آخر، وهو الألماني هيرمان جويدشي Hermann Goedsche (1815 - 1878 م)، وكان عميلًا للپوليس السري الپروسي ومعروفًا بمعاداته للسامية. فكتب في روايته (بياريتز Biarritz) الصادرة عام 1868م (3) فصلًا بعنوان (عند المقبرة اليهودية في پراج At the Jewish Cemetery in Prague)، يصور فيه انعقاد مجلس لجمعية سرية من الحاخامات الممثلين لقبائل إسرائيل الاثنتي عشرة [الباقي منهم اثنتان فقط!]، حيث يجتمعون مرة كل عام في منتصف الليل عند مقابر اليهود، وذلك كي يناقشوا ما تم إنجازه في مؤامرتهم الطويلة الأمد للسيطرة على العالم. وفي نهاية المجلس يعرب رئيسهم عن رغبته في أن

(1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Maurice Joly.

(2)

انظر، السابق، مادة: Eugène Sue.

(3)

والتي كتبها (لأسباب خاصة) باسم مستعار - أو اسم القلم Pen Name - وهو سير چون رتكليف Sir John Retcliffe.

ص: 188

يصبح اليهود ملوك العالم خلال المائة عام المقبلة. ولقد اقتبس جويدشي هذا الفصل من روايتي چولي وسُو؛ حيث استبدل جماعة الحاخامات السرية بالمتآمرين اليسوعيين في رواية سُو، وجعل (حوار) چولي هو نتاج هذا الاجتماع السري.

ولقد اجتُزئ هذا الفصل من كتابه وترجم إلى الروسية وطبع مفردًا في سان بطرسبرج ولاقى رواجًا كبيرًا (1)، ولعل هذا ما أشار إليه فيليپ جرافز في مقالته الثالثة في جريدة (التايمز) اللندنية بصورة مقتضبة حينما قال:«وقبل الثورة الروسية الأولى بعدة سنوات كانت هناك إشاعة رائجة عن وجود مجلس سري للأحبار اليهود يخطط بصورة متواصلة ضد الأرثوذكس» اهـ.

ولكن كيف تحول (حوار) چولي إلى (پروتوكولات) حكماء صهيون كما نشرها نيلوس؟

لقد ناقشت عدة أبحاث هذا الإشكال، وسعت لكشف ذلك الغموض، منها ما أشار إليه الدكتور حسن ظاظا رحمه الله، وهو كتاب للروائي الفرنسي إدموند فليجنهيمر Edmond Flegenheimer (1874 - 1963 م) بعنوان (مختارات يهودية Anthologie Juive) صدر عام 1923م، وقد أعاد فيه نشر ما سجله الحاخام الفرنسي موريس ليبر Maurice Liber (1884 - 1956 م) في مجلة (الإيمان والوعي Foi et Réveil) اليهودية الفرنسية، وذلك في الجزء الثاني من كتاب (فليج) المذكور، والذي وصف الدكتور حسن ظاظا كاتبه بأنه «يستعمل الأسلوب العلمي في التهويش، بالإكثار من الأسماء والتواريخ والإحالات إلى نصوص يعتبرها أصل الپروتوكولات، دون أن يكون هناك أي توثيق لمزاعمه، ولا محاولة لذكر نص واحد من النصوص الكثيرة المتهمة وإثبات أنها انتقلت إلى الپروتوكولات» (2)، كما وصف الحاخام موريس ليبر بأنه «يحاول إضفاء نوع من التحقيق العلمي على روايته بذكر شخصين من النكرات

وأقواله تظل محصورة في

(1) كما نشر في ألمانيا النازية وطبع عدة طبعات. [انظر السابق، مادة: Sir John Retcliffe].

(2)

د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (96).

ص: 189

نطاق الخبر المحتمل للصدق والكذب، بل في نطاق الأسطورة التي تدعو إلى الشك في كل ما يقول» اهـ (1).

وأحسب أن المسلك الذي اتبعناه لتحقيق المسألة يجنبنا مثل هذا القول ..

كان مما علمته كذلك من الدراسات التي تناقش حقيقة الپروتوكولات كتاب المؤرخ البريطاني نورمان كون Norman Cohn (1915 - 2007 م)(مذكرة عن جرائم الإبادة الجماعية Warrant for Genocide) الصادر عام 1996م وقد اطلعت على بعض فقراته. وكتاب آخر للمؤرخ الفرنسي المعاصر پيير أندريه تاجياف Pierre-André Taguieff وهو بعنوان (التزوير واستخداماته Faux et Usages d'un Faux) صدر عام 1992م، والذي وصفه إريك كونان الصحافي بمجلة (الإكسپريس) الفرنسية بأن تاجياف قدم فيه «التحليل الأقرب إلى الكمال» (2).

كذلك بحث مؤرخ الأدب الروسي ميخائيل ليپيخين Mikhail Lépekhine؛ وليپيخين هو باحث محقق في تواريخ المطبوعات الصادرة عن مكتبة أكاديمية العلوم في سان بطرسبرج، متخصص في المطبوعات الروسية الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكان أمينًا لأرشيف المعهد الأدبي في روسيا، ومشرفًا على معجم الأعلام Biographic Dictionary الروسي الضخم المكون من 33 مجلدًا والذي يضم عددًا هائلًا من رجال الطباعة والنشر الروس خاصة في نهاية العهد القيصري (3). ولقد نشر الصحافي الفرنسي إريك كونان نتائج بحثه في مقالته المذكورة سابقًا بمجلة (الإكسپريس)، الصادرة في 18 نوفمبر عام 1999م بعنوان (أسرار مناورة ضد السامية).

(1) السابق، ص (94 - 5) باختصار.

(2)

Eric Conan: Les secrets d'une manipulation antisémite، L'Express، Novembre 18، 1999

(3)

انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Mikhail Lépekhine.

ص: 190

أيضًا، بحث القاضية الإسرائيلية هداسا بن-إيتو Hadassa Ben-Itto وهو بعنوان (الأكذوبة التي لا تموت، پروتوكولات حكماء صهيون The Lie that Wouldn't Die، The Protocols of The Elders of Zion)، والذي صدر بالعبرية عام 1998م، ثم صدرت منه نسخة إنجليزية مؤخرًا عام 2005م. ولقد قدمت فيه بن-إيتو دراسة تصفها الباحثة أليسا لاپن Alyssa A. Lappen بأنها الدراسة (المستحيل نقضها Impossible to put down)، وهذا في مقال لها بعنوان (أكذوبة التاريخ الكبرى: التشخيص الأخير) (1). وعند قراءتي لدراسة ليپيخين التي نقلها عنه إيرك كونان، وملخص دراسة بن-إيتو التي نقلتها أليسا لاپن، حيث وجدت مشقة في الحصول على أصل الكتاب، وجدت أن الدراستين تُكمل إحداهما الأخرى، إضافة إلى تغليق بن-إيتو لبعض المسائل التي وجدتها معلقة عند ليپيخين، والعكس من ذلك أيضًا.

وخلاصة ما كشفت عنه وأجمعت عليه هذه الأبحاث هو ما تقدم به قول ياكوف رابكن بأن «پروتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة مزيفة أخرجت منذ قرن على أمر من شرطة قيصر روسيا السرية» .

ولقد تبين ذلك من خلال نبش الباحثين للأرشيفات الروسية والفرنسية والسويسرية وغيرها، ومن خلال محاضر محاكمة برن الشهيرة (2)، كذلك من خلال المقابلات التي أجريت مع عشرات الشهود على الأحداث. وكانت تحديدًا سجلات هنري بينت

(1) Alyssa A. Lappen: History's greatest lie: The latest incarnation، FrontPage Magazine (frontpagemag.com)، August 11، 2006

(2)

محاكمة برن: هي محاكمة عقدت في مدينة برن بسويسرا في الفترة من 1934 إلى 1935م أقامها المحامي السويسري چورچ برونشفيج (1908 - 1973م) رئيس (الاتحاد السويسري للجماعات الإسرائيلية Fédération Suisse des Communautés Israélites FSCI) وزميله إيميل راس Emil Raas، ضد حركة (الجبهة الوطنية Nationale Front) السويسرية المؤيدة للنازية، والتي قامت بتوزيع منشورات في الشوارع معادية للسامية منها (الپروتوكولات). وفي تلك المحاكمة أقام برونشفيج حججه الدالة على زيف الپروتوكولات. وتعد المحاكمة بمثابة مادة ثرية للأدباء والمؤرخين الباحثين في مسألة الپروتوكولات. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Berne Trial، ومادة: Georges Brunschvig].

ص: 191

Henri Bint عميل الپوليس السياسي الروسي المحنك في پاريس لمدة سبعة وثلاثين عامًا هي التي أفصحت عن هذا الأمر؛ فيذكر ميخائيل ليپيخين وهداسا بن-إيتو أن هنري بينت استقبل في پاريس عام 1917م سرچي سفاتيكوف Serge Svatikov، مبعوث الحكومة الروسية الجديدة برئاسة ألكسندر كيرينسكي Alexander Kerensky (1881 - 1970 م)، المكلف بفضَّ مكاتب الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا) خارج القيصرية - وذلك بعد تنازل نيكولا الثاني Nicholas II (1868 - 1918 م) عن العرش في عام 1917م -، فخلال هذه المقابلة بيَّن بينت لسفاتيكوف حقيقة الأمر، وهي أن صانع الپروتوكولات هو عميل محترف يدعى ماتفي/ماتيو جولوفينسكي Matvei/Mathieu Golovinski (1865 - 1920 م)، وأن بينت نفسه كان هو المكلف بمجازاته ماديًا.

كان ممن أكدوا دور جولوفينسكي في هذه المؤامرة كذلك هو - كما تذكر بن-إيتو - فلاديمير بورتسيف Vladimir Burtsev (1862 - 1942 م) مؤسس جريدة (الماضي / Byloe) التاريخية الروسية، وأحد المهاجرين الروس إلى پاريس، حيث هناك أصدر كتابه (پروتوكولات حكماء صهيون، تزوير مؤكد)(1)، وذلك عام 1938م.

يذكر إريك كونان أن هذا الأمر قد تأكد ثبوته بعد الإفصاح عنه (رسميًا)[رغم أن الخبر قد تسرب قبل ذلك بزمن] بعد انهيار الشيوعية والإفراج عن أرشيفاتها السرية، وذلك عام 1992م؛ فنظرًا لانخراط المزوِّر جولوفينسكي في صفوف البلاشفة منذ عام 1917م حتى وفاته عام 1920م، تستر عليه السوفييت، ولم يرغبوا في الإفصاح عن أمره الذي لا يزال يحير الكثير حتى يومنا هذا، خاصة وأن بحث ميخائيل ليپيخين الذي أفصح عنه في أغسطس عام 1999م لفيكتور لوپان Victor Loupan الصحافي بجريدة (لوفيجارو Le Figaro) - وذلك بعد خمس سنوات من البحث - لم يُثر حماسة الصحف الفرنسية الكبرى.

وماتيو جولوفينسكي - كما يذكر ليپيخين - هو صحافي روسي-فرنسي ينحدر من

(1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Vladimir Burtsev.

ص: 192

عائلة أرستقراطية (1) عريقة تمتد جذورها إلى الصليبي الكونت هنري دي مون Le Comte Henri de Mons، وهي أسرة معروف أفرادها على مدار تاريخها بالشغب وإثارة الفتن، ومعلوم اشتراكهم في المؤامرات والدسائس - وذكر لذلك أمثلة -. تصفه بن-إيتو بأنه «عميل أوخرانا معادٍ للسامية شديد التعصب، يؤمن بالمؤامرة اليهودية العالمية» اهـ.

وكان جولوفينسكي على علاقة بالكونت فورونتسوف داكوف Vorontsov-Dahkov أحد وزراء القيصر ألكسندر الثاني Alexander II (1818 - 1881 م) المقربين، والذي قد أسس بعد حادثة اغتيال القيصر منظمة سرية سماها (الأخوة المقدسة La Sainte-Fraternité)، كانت إحدى أوائل المنظمات السرية التي اعتمدت في نشاطها على التزوير وإصدار المنشورات الثورية المزيفة. ولقد أسسها داكوف اعتقادًا منه في وجود مؤامرة يهودية-ماسونية تهدد أمن القيصرية.

وفي عام 1890م عمل جولوفينسكي في سان بطرسبرج لصالح قسطنطين پوبيدونوستسيف Konstantin Pobiedonostsev (1827 - 1907 م)، الوكيل العام للمجلس المقدس، وأحد المستشارين المقربين لألكسندر الثالث Alexander III (1845 - 1894 م)، والذي كان يؤمن كذلك بوجود مؤامرة يهودية تسعى لتقويض نظام الدولة، وكانت مهمة جولوفينسكي تتلخص في توجيه الصحف الروسية عن طريق إمدادها بمقالات تدعم النظام القيصري المحافظ. وكان المشرف عليه في مهمته تلك هو ميشال سولوفييف Michel Soloviev، وكان معروفًا بتدينه وبمعاداته للسامية وتعصبه الشديد. وكما يصف ليپيخين، كان جولوفينسكي بارعًا أدى مهمته طيلة خمس سنوات بسهولة واقتدار. ولقد ظل في وظيفته حتى مات سولوفييف، ولم يعد لپوبيدونوستسيف

(1) الأرستقراطية Aristocracy: هي كلمة يونانية تعني سُلطة خواص الناس، أو كما يسميهم الفيلسوف أفلوطين Plotinus (205 - 270 م) بـ (الطبقة الذهبية). وهي مشتقة من الكلمة اليونانية (أريستوس Aristos/Excellent) أي: الممتازة، و (كراتوس Kratos/Power) أي: السُلطة. ويقابلها في المعنى (الديمقراطية Democracy) أي: سلطة الشعب، اشتقاقًا من كلمتي (ديموس Demos/People) أي: الشعب، و (كراتوس) أي: السلطة.

ص: 193

المنزلة نفسها عند القيصر الجديد نيكولا الثاني .. إذن، فبعد أن انحسرت تلك الأيادي الخفية، وبعد كذلك أن فضح ماكسيم جوركي Maxim Gorky (1868 - 1936 م)[الأديب الماركسي المعروف] ألاعيبه ووصفه بالجاسوس الخائن، اضطر جولوفينسكي إلى الارتحال إلى پاريس.

وهناك، دفع به هنري بينت للعمل - في نفس المجال الذي احترفه - مع پيوتر راتشكوفسكي Pyotr Rachkovsky (1853 - 1910 م) رئيس مكتب الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا) في پاريس، والذي كان - كما تذكر بن-إيتو- مسئولًا عن تتبع الثوار المشتبه فيهم وعمل ملفات لكل المهاجرين الروس إلى پاريس. وقد كلف جولوفينسكي هذه المرة بتوجيه الصحف الفرنسية فيما يتعلق بمناقشتها للسياسة الروسية القيصرية، فكان - كما يذكر ليپيخين - يكتب المقالات التي كانت تنشر في كبرى الصحف الپاريسية بتوقيع صحافيين فرنسيين!

وكان راتشكوفسكي من الزمرة الأرثوذكسية المتعصبة، وأحد مؤسسي منظمة الأخوة المقدسة المؤمنة بوجود مؤامرة يهودية-ماسونية تتستر وراء التيار الليبرالي والإصلاحي في روسيا، وكان منشغلًا بكيفية إقناع نيكولا الثاني بصحة معتقده وبضرورة إصدار القرارات الوقائية لمواجهة ذلك الخطر الداهم، ذلك لأن نيكولا الثاني لم يكن يصغي لهذه الأفكار كإصغاء من سبقه من القياصرة، بل كان [رغم اتباعه لسياسة ألكسندر الثالث الرجعية] منشغلًا بالانتقادات الغربية الموجهة للسياسة الروسية لتمييزها ضد اليهود.

ومن ثم لجأ راتشكوفسكي إلى الحيلة؛ فكلف عميله الماهر ماتيو جولوفينسكي بإعداد وثيقة توحي بوجود مخططات يهودية سرية تقضي بالإطاحة بالتيار الروسي الأرثوذكسي المحافظ. وبالفعل توجه جولوفينسكي إلى المكتبة الوطنية في پاريس وعكف على تزوير كتاب (حوار في الجحيم) لموريس چولي. وقد أتم جولوفينسكي عمله - كما يرجح ليپيخين - في نهاية عام 1900 أو في عام 1901م. وتذكر هداسا بن-إيتو أن الوثيقة عرفت في دوائر أوخرانا وقتها بـ (العَرَض الصهيوني The Zion Syndrome) كما لاحظ ذلك سرچي سفاتيكوف.

يذكر ميخائيل ليپيخين أن راتشكوفسكي كان يهدف إلى توجيه الوثيقة إلى القيصر على

ص: 194

وجه الخصوص في محاولة منه لإقناعه بالأمر، وفيما يبدو لي أن هذه الوثيقة لم تكن موجهة للقيصر على وجه الخصوص، بل لإثارة الرأي العام كذلك - وإن كانت أعدت للقيصر في المقام الأول -، وما دعم ذلك في نظري ما ذكرته الموسوعة الحرة من أن هذه الوثيقة التي انتقلت من پاريس إلى روسيا عن طريق إحدى عميلات راتشكوفسكي تدعى يوليانا جلينكا Yuliana Glinka (1844 - 1918 م)(1)، ورد ذكرها لأول مرة في الصحف الروسية في إپريل من عام 1902م، في جريدة سان بطرسبرج (التايمز الجديدة Novoye Vremya)، حيث ذكر الصحافي المحافظ ميخائيل منشيكوف Mikhail Menshikov (1859 - 1918 م) - في سلسلته (رسائل إلى الجيران) تحت عنوان (مخططات ضد الإنسانية) - التقاءه بيوليانا جلينكا (ولكنه لم يسمها في حينه)، وهي التي عرضت عليه الوثيقة وحاولت إقناعه بصحة ما جاء فيها، ولكنه بعد أن قرأ بعض فقراتها رابه الشك في صحتها ومن ثم لم ينشرها. ثم بعد ذلك نُشرت الوثيقة عام 1903م مقسمة على تسع مقالات متتالية في جريدة (الراية Znamya) الروسية في الفترة من 28 أغسطس إلى 7 سپتمبر (2)، ثم نشرها سرچي نيلوس في كتابه عام 1905م كما سيأتي.

يقول ليپيخين: «لا أظن أن جولوفينسكي كان يقدِّر مدى خطورة عمله هذا، فهو في وقت الإعداد كان يحدِّث به إحدى صديقات والدته، وهي الأميرة كاترين رادزيفيل Catherine Radziwill (1858 - 1941 م)، وكان يقرأ لها بعض فقراته. وكانت هي الوحيدة في فترة العشرينات التي صرحت لإحدى الصحف اليهودية بأن جولوفينسكي هو مؤلف الپروتوكولات الحقيقي. ولكن كلامها لم يستند إلى دليل، وشهادتها اشتملت على بعض المغالطات، ومن ثم لم يعتد بقولها» اهـ.

ولعل المغالطة التي وقعت فيها رادزيفيل - على حد اطلاعي - هي تحديد الفترة الزمنية التي كتب فيها جولوفينسكي هذه الوثيقة، حيث ذكرت أنه أعدها في الفترة ما بين عامي 1904 و1905م حينما كان يعمل في جريدة (لوفيجارو) الفرنسية بمرافقة

(1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Pyotr Rachkovsky.

(2)

انظر السابق، مادة: Znamya.

ص: 195

شارلز چولي Charles Joly ابن موريس چولي صاحب (الأصل) المنتحل (1)، وعند التدبر لا أظن أن هذا يمنع من الاستئناس بقولها، خاصة أنه حين اقتران شهادتها مع ما تقدم ذكره يتقوى القول المثبت لدور جولوفينسكي الرئيس في هذه المؤامرة، فضلًا عن دور پيوتر راتشكوفسكي؛ والذي بدوره - وظنًا منه بأن المتصوف سرچي نيلوس المعروف بكرهه الشديد لليهود ربما يصير كاهن الاعتراف الجديد الخاص بالقيصر - رأى أن يمرر هذه المخطوطة المزورة لنيكولا الثاني عن طريق هذا الوسيط المؤتمن.

ولكن سرعان ما خاب ظنه، حيث لم يعيِّن نيكولا نيلوس كاهنًا له. ولكن المفارقة التي حدثت هي أنه بعد اطلاع نيلوس على مخطوطة جولوفينسكي التي تسلمها في فرنسا - حسب قول بن-إيتو - تحمس لها جدًا، حتى أردفها بكتابه (الضئيل يحتوي العظيم، والمسيح الدجال، كحادث سياسي وشيك، مذكرات رجل أرثوذكسي Velikoe v malom i Antikhrist، kak blizkaia politicheskaia vozmozhnost. Zapiski pravoslavnago)، والذي يصف فيه الثورة الفرنسية (1789 - 1799م) بأنها نذير شؤم بخروج المسيح الدجال. فجعل الوثيقة فصلًا في الكتاب (2)، ودفع بنسخة منه إلى نيكولا الثاني ليطلع عليها هو وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا Alexandra Feodorovna (1872 - 1918 م).

وكان ممن اطلعوا على كتابه أخت ألكسندرا المتدينة الأميرة إليزافيتا Elizaveta Feodorovna (1864 - 1918 م) ووصيفتها إلينا ألكسندروفنا أوزيروفا Yelena Alexandrovna Ozerova - والتي صارت فيما بعد زوجة نيلوس -، وقد أبدتا تأثرًا شديدًا بما جاء في الپروتوكولات.

كذلك كان من بين المطلعين على كتاب نيلوس الكونت ألكسندر دي شيْلا Alexandre du Chayla (1885 - 1945 م)، أحد النبلاء الفرنسيين المتحولين إلى الأرثوذكسية، والذي مكث في عام 1909م تسعة أشهر كاملة في دير الرهبان الروسي

(1) انظر السابق، مادة: Catherine Radziwill.

(2)

كانت الفصل الثاني عشر من طبعة عام 1905م، وكان تاريخ صدور الطبعة الأولى من الكتاب عام 1901 أو 1902م.

ص: 196

الأرثوذكسي (أوپتينا پوستين Optina Pustyn) حيث ربطته هناك علاقة قوية مع سرچي نيلوس. ولكنه حينما قرأ كتابه أصابه الشك في صحة الپروتوكولات، ولما قام بمراجعة نيلوس في أمرها وجد نفسه مصطدمًا بشخص متعصب يجيب بسذاجة:«نحن نسلم أن الپروتوكولات مزورة، ولكن أليس من مهام الرب أن يكشف لنا عما يدبَّر من شرور؟ أليس في استطاعته، وفقًا لاعتقادنا، أن يحيي عظام الكلب؟ إذن فبإمكانه أن يخرج نذير الحق من فمٍ كاذب!» اهـ.

وحينما راجت الپروتوكولات وأثارت القلاقل في داخل روسيا، أمر رئيس مجلس الوزراء الروسي پيوتر ستوليپن Pyotr Stolypin (1862 - 1911 م) بإجراء بعض التحريات السرية حولها، والتي كشفت خيوط (المؤامرة الپاريسية). حينها أخبر ستوليپن نيكولا الثاني بالأمر، والذي رغم ولعه الشديد بها، أصدر قراره بمصادرة نسخ الپروتوكولات ومنع نشرها في روسيا، وقال:«إن الدوافع الطيبة لا ينبغي أن تدعم بمثل هذه المسالك الحقيرة» (1). ولكن رغم ذلك، وبسبب تلك الدوافع الطيبة! استمرت الپروتوكولات في الانتشار، خاصة - كما تذكر بن-إيتو - وقد نجحت الضغوط التي مارستها الأميرة إليزافيتا ووصيفة أختها إلينا أوزيروفا على هيئة مراقبة المطبوعات الروسية للعدول عن قرارات القيصر ورفع حظر النشر.

وبعد اندلاع الثورة الروسية في عام 1917م التي عرفت بأنها ثورة يهودية من الدرجة الأولى، راجت الپروتوكولات في أوروپا، وترجمت إلى عدة لغات، ثم انتقلت إلى أمريكا وقد تبنى نشرها هنري فورد Henry Ford (1863 - 1947 م) رائد صناعة السيارات الأمريكية. وظهرت أول نسخة عربية عام 1926م في دورية الرومان الكاثوليك في القدس المعروفة باسم (رقيب صهيون)، وتوالت بعدها الترجمات العربية التي من أشهرها ترجمة محمد خليفة التونسي الصادرة في عام 1951م (2).

(1) انظر السابق، مادة: The Protocols of The Elders of Zion.

(2)

انظر السابق نفسه، ومادة: Henry Ford.

ص: 197

هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الأدبية: فقد أفاض وأجاد الدكتور المسيري في الحديث عنها وفي كشف عوارها، وأحيلك على المجلد الثاني من موسوعته لعدم الإطالة ..

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي هيأ الأجواء الأوروپية لقبول هذه المناورة السياسية الروسية التي نتج عنها ما عرف في التاريخ بالپوجرومز Pogroms أو المذابح المنظمة التي شهدها يهود روسيا في الفترة من 1903 إلى 1906م وما تبعها من إبادة نازية على يد أدولف هتلر (1)،

وغيرها من مظاهر ما يعرف في العالم باسم (معاداة السامية)؟

(1) يقول الدكتور المسيري: «يرد في وسائل الإعلام الغربية رقم (ستة ملايين) باعتباره عدد ضحايا الإبادة النازية لليهود. وقد استقر الرقم تمامًا حتى أصبح من البدهيات، ولكن هناك رفضًا مبدئيًا للرقم في الأوساط العلمية اليهودية وغير اليهودية

». وبعد أن طرح عدة أمثلة يقول: «وفي جميع الحالات، لا يمكن أن يزيد عدد من اختفوا على أربعة ملايين. ومؤخرًا، ذكر المؤرخ الإسرائيلي يهودا باور Yehuda Bauer، مدير قسم دراسات الهولوكوست في معهد دراسات اليهود في العصر الحديث التابع للجامعة العبرية، أن الرقم ستة ملايين لا أساس له من الصحة، وأن الرقم الحقيقي أقل من ذلك» . ثم يشير المسيري إلى نقطة مهمة وهي أنه «بغض النظر عن الرقم مليون أو الأربعة أو الستة ملايين، فإن ثمة خللًا أساسيًا في المنطق الصهيوني يمكن تلخيص بعض جوانبه فيما يلي

»، وكان من الجوانب التي ذكرها «التركيز على اليهود بالذات دون الجماعات الأخرى؛ فمع أن اليهود عانوا، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من ضحايا النازية، إلا أن سياسة هتلر في الإبادة كانت موجهة أيضًا نحو الغجر والكاثوليك والمعارضين السياسيين والمرضى والمتخلفين عقليًا والسلاف عامةً والپولنديين والروس على وجه الخصوص. وقد بلغ عدد ضحايا الحرب ما بين خمسة وثلاثين مليونًا وخمسين مليون» اهـ[للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ ستة ملايين يهودي: عدد ضحايا الإبادة النازية ليهود أوروپا؟)] .. ومعلوم أن إنكار الهولوكوست في بلاد الغرب يعد جريمة لا تغتفر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها قرار الحرمان الكنسي الذي أصدره مؤخرًا بنديكت بابا الفاتيكان ضد الأسقف ريتشارد وليامسون Richard Williamson بسبب ما صرح به من إنكاره لأفران الغاز وأن حصيلة من ماتوا في معسكرات النازي لا يزيدون عن مائتي أو ثلاثمائة ألف، وأنهم لم يموتوا بأفران الغاز كما يشاع. ولقد رفض المجلس القضائي الكنسي العفو عن ويليامسون، بدعوى أن ذلك قد يوحي بأن نفي المحرقة (أمر مسموح به)! وجاء ذلك بعد أن هدد وزير الشئون الدينية الإسرائيلية إسحاق كوهين Yitzhak Cohen «بقطع كامل العلاقات مع الهيئة التي تضم بين أعضائها منكرين للهولوكوست ومعادين للسامية» ، وذلك في تصريحه لمجلة (دير شپيجل Der Spiegel) الألمانية الأسبوعية، عدد 2 فبراير 2009م. الأمر الذي أثار الصحافي روبرت فيسك ودفع به إلى التساؤل حول موقف بابا الفاتيكان الحريص كل الحرص على إرضاء اليهود، وذلك في مقالته بجريدة (الإندپندنت) في 28 فبراير 2009م بعنوان:(أخضعوا كلمات البابا للاختبار، ولن تستنتجوا إلا شيئًا واحدًا Examine the Pope's words، and there's only one thing to conclude).

ص: 198

ويجيب عن هذا الدكتور المسيري بقوله: «في تصوري أن إحساس الإنسان الأوروپي في أواخر القرن التاسع عشر بأزمته، وإدراكه السطحي المباشر لها بعد تزايد معدلات العلمنة والتصنيع في الغرب، ومع هيمنة القيم الداروينية والرأسمالية الجشعة، وبعد تفكك المجتمع التقليدي الذي كان يوفر له قدرًا كبيرًا من الطمأنينة، حتى وإن سلبه حريته وفرصه في الحراك الاقتصادي، أقول: إن الإدراك السطحي هو الذي جعل الجماهير في الغرب تتبنى نموذجًا تفسيريًا بسيطًا اختزاليًا يفسر كل ما يدور حولها ببساطة شديدة؛ فالمجتمع الذي يحاول اليهود فرضه على العالم، والذي تصوره الپروتوكولات، ليس عالمًا شريرًا بشكل شيطاني ميتافيزيقي (1)، وإنما هو في الواقع العالم الغربي الصناعي في القرن التاسع عشر، عالم سادت فيه القيم العَلْمانية الشاملة بتأكيدها على قيم مثل المنفعة واللذة، وبدأت تحل فيه علاقات التعاقد محل علاقات التراحم، ومن هنا كان الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية باعتبارهما نظامين يبشر بهما اليهود، فكلاهما ثورة على المجتمع التقليدي بكل ما فيه من خير وشر. ومن هنا أيضًا الجمع بين نيتشه وماركس Karl Marx [1818 - 1883 م]، فكلاهما فيلسوف مادي يرفض المجتمعات التقليدية.

فبرغم الاختلافات العميقة بين الرأسمالية والاشتراكية وبين نيتشه وماركس وداروين Charles Darwin [1809 - 1882 م]، فإن العامل المشترك الأعظم (أو نقطة البدء أو التلاقي) بين هذه الأفكار والنُّظُم المتناقضة إنها كلها تعبير عن زحف المجتمع الحديث على المجتمع التقليدي الذي بدأ بالثورة الفرنسية ووصل قمته في الثورة البلشفية» (2).

ولقد «وجد الإنسان الغربي العادي نفسه في وسط هذا الزلزال، ولم يجد له تفسيرًا،

(1) الميتافيزيقا Metaphysics هي فرع من الفلسفة يبحث عن الحقيقة الأولية للوجود، سمَّاها أرسطو الفلسفة الأولى، وموضوعها هو ما يتجاوز الخبرة، كما يبحث في ماهية الإله والعالم والإنسان، وفيما وراء الطبيعة والحس.

(2)

د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (37 - 8) باختصار.

ص: 199

ولكنه لاحظ وجود أعضاء الجماعات اليهودية في مختلف القطاعات والاتجاهات، شأنهم في ذلك شأن أعضاء أية أقلية أخرى، فكانت توجد أعداد كبيرة من كبار المموِّلين الرأسماليين اليهود، كما كان كثير من أعضاء الجماعات اليهودية يشتغلون بالتجارة الصغيرة والربا، وكان من بينهم عدد كبير من المفكرين الليبراليين بل والرجعيين الذين يدافعون عن حرية التجارة وعن أكثر الأفكار الداروينية الاجتماعية تطرفًا، كما تركَّز أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد كبيرة في قطاعات اقتصادية مشينة مثل البغاء ونشر المجلات والمطبوعات الإباحية

وإلى جانب ذلك، كانت هناك أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية في حركة اليسار أيضًا: فقد كان أكبر حزب اشتراكي في أوروپاهو حزب البوند Bund اليهودي. وقد انخرط الشباب اليهودي بأعداد كبيرة في الحركات الثورية (1)،

وكانت هناك أعداد كبيرة من المفكرين الاشتراكيين والشيوعيين من أصل يهودي. كما كان لليهود حضور واضح في الفكر الفوضوي. وفي نهاية الأمر، كان كل من روتشيلد Rothchild رمزًا للارتباط العضوي بين اليهود والرأسمالية، وماركس رمزًا للارتباط العضوي أيضًا بين اليهود والاشتراكية. ولذا، كان من الممكن تفسير كل

(1) حول تفسير هذه الظاهرة يقول المسيري في موضع آخر: «يُلاحَظ وجود كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية الاشتراكية في كثير من بلاد العالم بنسبة تفوق نسبة انخراط السكان الأصليين في هذه الحركات

وليس هذا بمستغرب، فكثير من أعضاء الأقليات ينجذبون إلى الحركات الثورية العَلْمانية على أمل أن يحقق لهم المجتمع الثوري العَلْماني الجديد الحرية الكاملة والمساواة التامة

ويمكن تفسير انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية بشكل ملحوظ على الأساس التالي: (1) كان اليهود يشكلون نسبة كبيرة من القطاع المتعلم في المدن، وهو القطاع الذي يساهم في الحركات الثورية أكثر من القطاعات الأخرى. (2) كان كثير من الشباب اليهودي محرومًا من دخول الجامعات الروسية، فالتحقوا بالجامعات في أوروپاحيث تم تسييسهم وتثويرهم بدرجة أعلى من أقرانهم. (3) كان اليهود أقلية مُضطهَدة محرومة من حقوقها المدنية .. ولذا، نجد أن المثقفين اليهود الذين كان من الممكن في ظروف عادية أن يتحولوا إلى مهنيين عاديين (وهو الأمر الذي حدث فيما بعد)، وقد انخرطوا، بدلًا من ذلك، في صفوف القواعد الثورية، كما يحدث في كثير من الحركات الثورية في العالم، حيث نجد أن أعضاء الأقليات المضطهدة يشكلون نسبة عالية فيها» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (3/ انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الاشتراكية والثورية) باختصار].

ص: 200

شيء بالرجوع إلى مقولة (يد اليهود الخفية).

ولعل ما ساعد على إشاعة هذا النموذج التفسيري الساذج أن الوجدان المسيحي كان يجعل من اليهودي قاتل الرب رمزًا لكل الشرور. وقد شهدت نهاية القرن التاسع عشر عصر الهجرة اليهودية الكبرى، ولذا كان هناك يهود في كل مكان، يهود لا جذور لهم في طريقهم من شرق أوروپاإلى الولايات المتحدة. وكما هو معروف، فإن الإنسان المهاجر المتنقل لا يلتزم بكثير من القيم. ولكل هذا، أصبح اليهودي رمزًا متعينًا لعملية ضخمة لم يكن الإنسان الأوروپي يفهمها جيدًا رغم شقائه الناجم عنها، وهي الثورة العَلْمانية الشاملة الكبرى (بشقيها الاشتراكي والرأسمالي)، وهي ثورة لم يكن اليهودي يشكل فيها سوى جزء بسيط من كلٍّ ضخم مُركَّب. بل إن العقيدة اليهودية ذاتها سقطت ضحية هذه الثورة، وفقدت قطاعات كبيرة من الجماعات اليهودية هويتها نتيجةً لها» (1).

«فبإدراكه السطحي للأمور، بدأ الإنسان الغربي يبحث عن سبب واضح مباشر، وحيث إنه تصور أن اليهود كتلة واحدة متماسكة، وحيث إن اليهودي هو قاتل الرب وهو الشحاذ الذي يتسول، والثري الذي احتكر الأسواق، والثوري الذي يقلب نظام الحكم، والحاخام الذي يتمسك بشعائر دينه، والقوَّاد الذي يصطاد الفتيات ويقودهن للدعارة، وهو شيلوك [التاجر اليهودي المرابي]، وهو دراكيولا Dracula [مصاص الدماء]

كان من الطبيعي أن يصبح رمزًا متعينًا لعملية انقلابية بنيوية ضخمة سببت البؤس والشقاء له، ولكنه لم يدرك أسبابها أو عمقها أو شمولها أو تركيبتها. وجاءت الپروتوكولات وزودته بهذا النموذج التفسيري البسيط، فأراحته وهدأت من روعه وضللته وأخفت عنه الأسباب الحقيقية المؤدية لاغترابه وشقائه» اهـ (2).

نهاية، فهذا اجتهاد قد يصيب أو يخطئ، وعلى كلٍّ، فقد يقال في حق اليهود، إن جاز لنا القول:«رب ضارة نافعة» !؛ فإن الترويج لهذه الپروتوكولات خدم كثيرًا - وما زال -

(1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ پروتوكولات حكماء صهيون) باختصار.

(2)

د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (39) بتصرف يسير.

ص: 201

المصالح الصهيونية من الناحية العملية، والتي صار واضح للعيان طغيانها وهيمنتها على مقدرات الكثير من البلاد، وذلك لجملة من الأسباب نذكرها في الصفحات التالية، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل المعلِّق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس Yoel Marcos يقول:«إن الپروتوكولات [بسبب أثرها هذا الذي يولِّد الرهبة في النفوس ويدفع الناس لمغازلة إسرائيل واليهود] تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصًا معاديًا لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد النظر!» اهـ (1).

(1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (8 - 9)، نقلًا عن مقالة يوئيل ماركوس في جريدة (هآرتس Haaretz)، بتاريخ 31 ديسمبر 1993م.

ص: 202