المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي: - حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية

[عمرو كامل عمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة بقلم الدكتور محمد بن موسى الشريف

- ‌تعقيب

- ‌{مقدمة المؤلف}

- ‌الباب الأول حصان رومي

- ‌الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

- ‌الاتجاه الأول (وحدة الأديان):

- ‌الاتجاه الثاني (توحيد الأديان):

- ‌الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان):

- ‌الخصائص الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والملاحظ عليها:

- ‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

- ‌الدولة الفاطمية الثانية:

- ‌تأييد آية الله التسخيري:

- ‌دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر:

- ‌تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ:

- ‌1 - مصطفى السباعي:

- ‌2 - محمد رشيد رضا:

- ‌3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل:

- ‌4 - محمد الأمين الشنقيطي:

- ‌5 - يوسف القرضاوي:

- ‌دافعي لبحث مسألة التشيع:

- ‌الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

- ‌فتح القسطنطينية وتبعاته:

- ‌اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي:

- ‌الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد:

- ‌العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية:

- ‌زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر):

- ‌صمويل هنتجتون يتقدم:

- ‌نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام:

- ‌هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي

- ‌غزوة مانهاتن

- ‌عودة إلى ساحة التنظير السياسي:

- ‌أوربان الأمريكي يعلن حربًا صليبية جديدة:

- ‌حرب العراق:

- ‌فرصة ذهبية:

- ‌بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي:

- ‌تعديل في المسار:

- ‌حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول:

- ‌شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي):

- ‌توماس فريدمان و (حرب الأفكار):

- ‌أندرو ترنبُل و (عملية المنافسة):

- ‌أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة):

- ‌الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

- ‌{مدخل}

- ‌الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي:

- ‌پروتوكولات حكماء صهيون:

- ‌{الصهيونية .. رؤية مغايرة}

- ‌اصطفاء مشروط لبني إسرائيل:

- ‌وعد أولاهما:

- ‌ورسولا إلى بني إسرائيل:

- ‌وعد الآخرة:

- ‌فائدة:

- ‌يهود الدياسپورا:

- ‌نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل:

- ‌العقيدة المشَّيحانية Messianism:

- ‌علاقة اليهود بالأغيار:

- ‌الجيتو اليهودي:

- ‌واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية:

- ‌الصَدْع اللوثري:

- ‌ورهبانية ابتدعوها:

- ‌الكنيسة تجني أرباحًا كبيرة:

- ‌صراع الأباطرة والبابوات:

- ‌تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية:

- ‌مهزلة صكوك الغفران:

- ‌عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا:

- ‌مارتن لوثر: ترجمة:

- ‌مارتن لوثر واليهود:

- ‌أفكار لوثر أحدثت ثغرًا لا يزال يتسع حتى اليوم:

- ‌المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي:

- ‌ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد:

- ‌يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا:

- ‌مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل):

- ‌الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌إنجلترا تتلقف الراية:

- ‌جذور المسألة اليهودية:

- ‌ونعود إلى إنجلترا

- ‌لورد پالمرستون الثالث:

- ‌كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي:

- ‌حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف:

- ‌هرتزل: ترجمة:

- ‌الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية:

- ‌المرحلة البلفورية:

- ‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

- ‌أمريكا تتلقف الراية:

- ‌الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية:

- ‌ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967

- ‌نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي:

- ‌قضية تامارين:

- ‌الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي

- ‌الموقف حيال القتل الجماعي

- ‌زواج مصالح…ولكن

- ‌العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي:

- ‌اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة:

- ‌الباب الثاني حصان فارسي

- ‌الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

- ‌أيُكسَر الباب أم يُفتَح

- ‌حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

- ‌جذور البلاء:

- ‌القذيفة الأولى:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌وهذه المسائل الأربعة هي:

- ‌ أولًا: تدوين التاريخ

- ‌ثانيًا: عدالة الصحابة:

- ‌تعريف الصحابي:

- ‌طبقات الصحابة:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌عقيدتنا في الصحابة:

- ‌حكم سب الصحابة:

- ‌ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌وقعة الجمل (36ه

- ‌معركة صِفِّين (37ه

- ‌قضية التحكيم (37 ه

- ‌رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة:

- ‌عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي رضي الله عنه

- ‌ولكن من هم (الشيعة الأولى)

- ‌تبرؤ شيعي:

- ‌عام الجماعة (41ه

- ‌مناقب أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه

- ‌الشيعة بعد عام الجماعة:

- ‌وفاة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وخلافة يزيد:

- ‌ولماذا أوصى معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد بالخلافة

- ‌موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية:

- ‌رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين رضي الله عنه

- ‌جيش التوابين:

- ‌أسباب فشل حركة التوابين:

- ‌في ثقيف كذاب ومبير:

- ‌انحراف عقدي:

- ‌مع الاثني عشرية:

- ‌وبداية: متى كانت بداية ظهورهم

- ‌الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

- ‌الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

- ‌«والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تُحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي]

- ‌عقيدة الإمامة:

- ‌أصل عقيدة الإمامة:

- ‌ولماذا اثنا عشر إمامًا

- ‌اعتقاد الرافضة في أئمتهم:

- ‌مغالطات واضحة:

- ‌المتتبع لسلسلة الأئمة يلاحظ الآتي:

- ‌حيرة

- ‌ولماذا اختفى

- ‌في السرداب:

- ‌كم مدة غيبته

- ‌وعرفت هذه بالغيبة الكبرى

- ‌الثورة الخمينية وولاية الفقيه:

- ‌أولًا: بيان رابطة العالم الإسلامي:

- ‌ثانيًا: بيان مفتي جمهورية تونس الحبيب بلخوجة:

- ‌ثالثًا: فتوى علماء المغرب:

- ‌رابعًا: بيان رابطة العلماء في العراق:

- ‌خامسًا: فتوى الشيخ الألباني:

- ‌متى تكون التقية

- ‌التقية عند الرافضة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة البداء:

- ‌من أقوال الرافضة في البداء:

- ‌عقيدة الرافضة في القرآن:

- ‌عقيدة الطينة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة الرافضة في أهل السنة:

- ‌اعتقاد أهل السنة في آل البيت رضي الله عنهم

- ‌ثناء آل البيت على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:

- ‌وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله

- ‌بل أنتم الناصبة

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف:

- ‌عقيدة الرجعة:

- ‌من الراجعون

- ‌وما مهام المهدي الراجع

- ‌إباحة الرافضة زواج المتعة:

- ‌من أدلة تحريم المتعة:

- ‌نظرية الخُمس:

- ‌الخمس عند الرافضة:

- ‌من أقوال علماء أهل السنَّة في الرافضة:

- ‌الفصل الثالث: شبهات وردودها

- ‌الشبهة الأولى: حديث الغدير:

- ‌الشبهة الثانية: حادثة فَدَك والإرث:

- ‌الشبهة الثالثة: آية المودة:

- ‌الشبهة الرابعة: آية التطهير:

- ‌الشبهة الخامسة: آية الولاية:

- ‌الشبهة السادسة: حديث المنزلة:

- ‌الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»:

- ‌الشبهة الثامنة: «يا رب أصحابي

- ‌الشبهة التاسعة: آية الفتح:

- ‌الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية:

- ‌الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»:

- ‌الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

الارتباك المتزايدة أدت بالكثيرين إلى جعل الأمر الإلهي بالتبشير غير مسموع وغير مؤثر. وكثيرًا ما يُنظر إلى أي محاولة لإقناع الغير بالمسائل الإيمانية على أنه تعدٍّ على حريته»، كذلك نبهت الوثيقة إلى «أن مهمة الرسل التبشيرية وتلازمها مع مهمة الكنيسة المبكرة تظل دائمًا النموذج الأصلي للتبشير في كل العصور، فهي مهمة قد تتكلف الشهادة في سبيل الدين» (1).

فهل تدبر دعاتنا من أهل السنة هذه الأقوال؟ أم كان الجواب هو إتباع الرسالة بأخرى، إلى نفس الجهة، للتهنئة بميلاد المسيح عليه السلام؟! ورحمة الله على شيخنا الندوي!! (2).

‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

هذا باختصار فيما يتعلق بالعالم الكاثوليكي، ولكن الكيان الفاتيكاني كما أسلفنا الذكر هو كيان قديم متصدع، أنهكته الفضائح الأخلاقية المتوالية، فلا ينبغي إذن تعميم القول وتعليق الحكم على هذا الجانب فقط من العالم النصراني الذي لا يحكم قبضته على شعبه، وإنما لإعطاء صورة أشمل لا بد أن نتعرض ولو بشيء من الإجمال إلى الجانب الأخطر المتمثل فيما يعرف بمجلس الكنائس العالمي، والذي يمثل الطوائف النصرانية غير الكاثوليكية، ويتمتع بنفوذ واسع يضاهي نفوذ الفاتيكان، وتنضوي تحته جميع الكنائس الپروتستانتية والإنجليكانية والأرثوذكسية. وقد ولد المجلس نتيجة لتلاقح عدة اتجاهات في الحركة المسكونية العالمية Ecumenical Movement، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بغية توحيد العمل التبشيري في البلدان غير النصرانية.

فبعد فترة حَمْلٍ دامت قرنًا كاملًا، تمخضت الحركة المسكونية عن ولادة مجلس الكنائس العالمي عام 1947م. وقد انضمت الكنائس الأرثوذكسية إلى المجلس في مؤتمر نيودلهي New Delhi عام 1961م. أما الموقف الكاثوليكي للبابوية الرومانية فظل يصر على أنه ليس هناك سوى كنيسة واحدة، فلا مبرر إذن لطرح (اتحاد الكنائس)،

(1) انظر نص الوثيقة على موقع الفاتيكان الرسمي.

(2)

راجع كلامه في المقدمة.

ص: 51

وأن على المنشقين العودة إلى الكنيسة الأم (حظيرة بطرس). إلا أن البابا يوحنا الثالث والعشرين أرسل وفدًا مراقبًا إلى مؤتمر نيودلهي.

ولكن هذا التجمع المتعدد الأطراف والاتجاهات، لا يعتمد البناء التنظيمي الهيكلي الذي تسير عليه الكنيسة الكاثوليكية بدقة وتراتبية وصرامة، بل يكتفي باللقاء حول جوامع مشتركة في العمل التبشيري، وإصدار توصيات ليس لها صفة الإلزام.

وفيما يخص المساعي الحوارية التي نتناولها في هذا الفصل، نسجل الملاحظات الآتية، وهي (1):

أن قطب رحى هذا المجلس يدور حول هدفين بارزين:

- توحيد الكنائس النصرانية.

- تعزيز العمل التبشيري في العالم أجمع.

وقد فرض هذا الأخير على المجلس ضرورة دراسة العلاقة بالديانات العالمية الحية التي يحتك بأتباعها حيثما حلَّت إرسالياته في أي مكان في العالم، وواجه المجلس في مقابل ذلك الإشكالية ذاتها؛ إشكالية الحوار والبشارة، أو موقف النصرانية من الديانات الأخرى، وكيفية التعامل مع أتباعها، وحملت بذور الخلاف اللاهوتي العميق إلى ردهات المجلس الجديد ..

فلقد تبلور داخل أروقة مجلس الكنائس العالمي جراء مناقشة هذه الإشكالية ثلاثة تيارات:

- التيار الحصري الضيق: وهو الأكثر قوة وسيطرة؛ إذ أنه يستند إلى القناعة الثابتة بأن يسوع المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص.

- الاتجاه الاشتمالي الاحتوائي: وقد قال أتباع هذا التيار بتأكيد الوجود والنشاط الخلاصي لله في جميع الأديان. وفي نفس الوقت بالتجلي أو التجسد الكامل والنهائي لله في يسوع المسيح وحده والمسيحية فريدة ونهائية، ولكن هذا لا يعني أن أعضاءها

(1) مستفاد من، د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (2/ 463 - 99)، مبحث:(حقيقة التقريب بين الأديان عند مجلس الكنائس العالمي)، باختصار وتصرف.

ص: 52

وحدهم يستطيعون أو يستحقون الخلاص. إنها الطريق العادي نحو الخلاص، مع وجود طرق (غير عادية) ظاهرة في العالم، وناجمة عن القوة الخلاصية ليسوع المبثوثة في التاريخ البشري.

- تيار التعددية: وأتباع هذا التيار لا يرون في المسيحية الطريق الوحيد للخلاص، ولا يعتبرون أنها تشتمل وتحتوي وتكمل بقية الديانات، بل يؤمنون بتعدد طرق الخلاص.

وبين قطبي رحى الحصرية Exclusivism والاحتوائية Inclusivism تطاحنت مختلف التيارات. وطوال نصف قرن منذ تأسيس المجلس عام 1947م حتى الآن لم يصدر عن جمعيته العمومية، أو لجنته المركزية، أو الوحدة التي أنشأها للحوار مع أصحاب العقائد والمثل الحية، قرار ذو صفة عقدية يؤيد التقارب أو ينفيه، وذلك بسبب التجاذبات المختلفة بين أجنحة المجلس ومنظِّريه. وإنما ظهر تنوع المواقف حيال قضية الحوار، بصرف النظر عن وجود مسوغ عقدي له.

وقد يكون من المفيد لنا إلقاء الضوء على المحاضرة التي ألقاها چورچ ليونارد كاري George Leonard Carey رئيس أساقفة كانتربري Canterbury في الفترة ما بين (1991 - 2002م)، والتي ألقاها في جامعة الأزهر الشريف في الرابع من أكتوبر عام 1995م تحت عنوان (تحديات في مواجهة الحوار المسيحي-الإسلامي Challenges Facing Christian-Muslim Dialogue)، فنظرًا للمنزلة الكبيرة التي يتبوأها (كاري) في العالم غير الكاثوليكي، ولحداثة هذه المحاضرة بعض الشيء، فإنها تصلح نموذجًا لاستقراء ما آلت إليه النظرة النصرانية غير الكاثوليكية تجاه العلاقة بالمسلمين.

والذي يعنينا في محاضرته تلك قوله (1): «والواقع أن الإسلام والمسيحية ديانتان لهما رسالة يؤديانها؛ فكلاهما تطرح فرضيات مطلقة، وكلانا لديه الرغبة القوية في نشر دينه. وهذا جزء لا يتجزأ من دياناتنا وهي حقيقة لا تتطلب الاعتذار عنها أو إنكارها، فقد أمر القرآن الكريم المسلمين بهذا في الآية {لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (2)، تمامًا

(1) انظر نص خطابه بموقعه الرسمي على الرابط: http://www.glcarey.co.uk/Speeches/1995/Cairo.html

(2)

البقرة: 143

ص: 53

كما أمر الكتاب المقدس المسيحيين قائلًا: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"(1)» اهـ.

ولعل هذا الكلام يفصح عن القناعة التي توصل إليها مجلس الكنائس العالمي أخيرًا، من إخراج الحوار من أطره الدينية إلى (مفاوضات) في أسلوب العيش المشترك، كما يتحاور سائر البشر على قضايا حياتية مشتركة، إذ لا جدوى من الحوار اللاهوتي - حسب تعبيرهم - بين ديانتين كل منهما (تطرح فرضيات مطلقة)، وتمتلكان (الرغبة القوية في نشر دينها).

ولعل هذه القناعة هي التي آلت بمجلس الكنائس العالمي إلى إلغاء اللجنة الخاصة بالحوار مؤخرًا، وجعل اللقاء بالمسلمين يندرج في إطار العلاقات الدولية. وهو إصلاح إداري يتناسب مع القناعة المشار إليها.

ولكن لا نغفل عن الإشارة إلى أن هذه المحاضرة المفعمة بعبارات الصداقة والسلام والتعاون والتفهم والانفتاح، ألقيت في الوقت الذي كان التعصب الصليبي الحاقد يحصد أرواح المسلمين العزل في بلاد البوسنة والهرسك، ويدك المآذن والمنازل على رؤوس المصلين والسكان الأبرياء. هذا لون، ولون آخر يتمثل في ضراوة النشاط التنصيري الذي تمارسه الإرساليات النصرانية على اختلاف طوائفها في أوساط المسلمين المشردين، مستغلين ضعفهم وبؤسهم وحاجتهم، لتعميدهم باسم الآب والابن والروح القدس! فأين النزاهة والاحترام وحماية الحريات الدينية يا ترى؟ أم أن لغة المحافل والمؤتمرات تختلف عن لغة الميدان والواقع؟ وصدق الله:{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَابَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (2).

هذا من الناحية الحوارية النظرية، والواقع أن هذه (الحيل الطروادية) لم تجنِ ثمارها ولم تحد من انتشار الإسلام الذي هو الأكثر انتشارًا اليوم في الغرب، بلا سيف كما يزعم بنديكت، بل وفي زمان استضعاف للمسلمين كما هو مشاهد، ولله الفضل والمنة .. بل

(1) متى 28: 19

(2)

التوبة: 8

ص: 54

كذلك، فإن هذه المسالك الحوارية لم تنل التأييد العام المطلوب. ومن ثم، فأراه من التغافل المتعمد القول بأن (التعايش والحوار) هما السمة الأساسية لواقع المسلمين اليوم في الغرب، والأمر لا يزال يحتاج إلى كثير بيان، وهذا ما سنفرد له الفصول الباقية من هذا الباب ..

ولكن بعد ذلك نقول: ما المسلك المختار لدعوة الحوار؟؟

قد تقدم بنا القول بأن المنهج الرباني في هذا الباب يتبين في قول الله جل جلاله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1). فالكلمة السواء هي قضية التوحيد المطلق لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونبذ مظاهر الشرك وعبودية ما سوى الله تعالى، وهو ما أشرنا إليه بقولنا:(العودة إلى الأصل)؛ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (2)، وهو تعالى القائل:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} (3)، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم:«الأنبياء إخوة لعَلَاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (4)،

فدينهم هو الإسلام وإن اختلفت شرائعهم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (5)، حتى جاءت شريعة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع، وفيها قال رب العزة جل جلاله:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6)، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (7)، {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (8).

غير ذلك، فإن من مقاصد الحوار الشرعي هو الدعوة إلى التعايش السلمي المجرد بين الطرفين سواء أكان على المستوى الداخلي أو الخارجي، الجماعي أو الفردي، وهذا

(1) آل عمران: 64

(2)

النساء: 48

(3)

آل عمران: 19

(4)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء:3443. وأولاد العَلَاّت: هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى، أما الإخوة من الأبوين فيقال لهم أبناء الأعيان ..

(5)

المائدة: 48

(6)

آل عمران: 85

(7)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: 153

(8)

آل عمران: 32

ص: 55

مقصد محمود في ذاته، بل تقتضيه السياسة الشرعية لمصلحة الأمة الإسلامية. وقد رافق هذا اللون من حوار التعايش نشأة الأمة الإسلامية منذ عهد النبوة، كما جرى في المعاهدات النبوية مع يهود المدينة وغيرهم، وزخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغيرهم، خاصة وأن الاختلاف الاعتقادي الحاصل هو اختلاف كوني قدري قضى الله تعالى بوقوعه، فقال جل جلاله:{وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (1).

ومع قضاء الله عز وجل بوقوع هذا الاختلاف أطلق تبارك وتعالى أمره فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (2)، بل وفرض علينا عز وجل حسن الجوار ولم يخصص، فقال:{وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (3)، ولقد اختار الطبري رحمه الله في معنى (الْجُنُب):«الغريب البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا» (4).

فهذه كلها أمور تعبدية يثاب فاعلها ويأثم تاركها، ولكن ينبغي ملاحظة الآتي:

أنه في وقت شاع فيه ما عرف (بالإسلاموفوبيا Islamophobia) أو الهلع من الإسلام، وذلك نتيجة عدة أمور يتقاسمها الطرفان: فعلى الجانب الإسلامي فأعزوها - باختصار - إلى سوء الفهم عن الله ورسوله؛ وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: «إن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة» (5)، ولقد أخبر ربنا جل جلاله فقال:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (6)، ولله در ابن القيم إذ يقول (7): «سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول

(1) المائدة: 48

(2)

البقرة: 83

(3)

النساء: 36

(4)

تفسير الطبري (8/ 339).

(5)

أخرجه الطبراني في (الكبير)(9/ 166)، وقال الهيثمي (ت. 807هـ):«ورجاله رجال الصحيح» [الهيثمي: مجمع الزوائد (1/ 433)].

(6)

التوبة: 100

(7)

ابن قيم الجوزية: الروح، ص (71).

ص: 56

والفروع، وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟!» اهـ.

أما على الجانب الآخر، فأردها إلى ما تطرحه السلطات الفكرية المهيمنة على ساحة التنظير السياسي والثقافي على السواء، وتبثه عبر إعلامها المضلل، عملًا بقاعدة:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (1)، ويتأثر به عوامهم أتباع كل ناعق:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (2)، وانظر ما يتمخض عن ذلك من إساءات بالغة وتضييق شديد على دعوة الإسلام وأهله، معلوم أمرها ومشاهد ..

إذن، ففي هذا الوقت العصيب، يزداد الإلحاح على مثل هذه الدعوة إلى الحوار والتعايش السلمي، وذلك على المستوى الشعوبي، بعيدًا عن الديباجات السياسية الخادعة. وهي وفق هذا المفهوم - كما تقدم - دعوة محمودة شرعًا ومطلوبة، ولكن شريطة الوعي بأمرين:

- الأول: هو الفقه بأحكام التعامل مع غير المسلمين.

- والثاني: هو الوعي بأيديولوچية المخالف.

فعن الأول: لقد «حكم الإسلام في أهل الكتاب حكمين: أحدهما: حكم علمي: في بيان حقيقة ما هم عليه من الاعتقادات والأعمال، وتعيين مسمَّاهم في باب أسماء الدين والإيمان، وبيان جزائهم في باب وعيد الله. الثاني: حكم عملي: في وصف معاملتهم، وما يختصون به من أحكام دون سائر الناس. فالأول: ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان والحال. والثاني: أصله ثابت كذلك، لكن قد تتغير بعض أحكامه بتغير الأحوال، وفق ما تقتضيه السياسة الشرعية» (3).

ولقد زخرت كتب التراث الإسلامي فضلًا عن الكتابات الغربية المنصفة، بالآثار

(1) العنكبوت: 12

(2)

لقمان: 21

(3)

د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 143).

ص: 57

الغزيرة الدالة على حسن معاشرة المسلمين لجيرانهم، وتسامح الفاتحين المسلمين مع أهل البلاد التي يغزونها، فكما يقول جوستاف لوبون (1): «أُكرِهَت مصر على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دركات الانحطاط مقدارًا فمقدارًا إلى أن جاء الفتح العربي

ولقد فتح القائد عمرو بن العاص بلاد مصر في السنة الثامنة عشرة من الهجرة (639م)

وهو لم يتعرض إلى ديانتهم ولا إلى نظمهم ولا عاداتهم، ولم يطالبهم بغير جزية سنوية قدرها خمسة عشر فرنكًا عن كل رأس مقابل حمايتهم، فرضي المصريون بذلك شاكرين»، ويقول ألفرد بُتلر (1850 - 1936م) (2):«إن فتح العرب لمصر كان بركة على المصريين خفض عنهم وطأة الضرائب» (3).

وقارن هذا بما صرح به الأنبا بيشوي، مكرم إسكندر، سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة المصرية والرجل الثاني فيها، معتبرًا المسلمين بأنهم:«ضيوف حلُّوا علينا ونزلوا في بلدنا» ، وأضاف مستنكرًا:«ألا يكفي أن الجزية فرضت علينا وقت الفتح العربي؟» (4).

ولكن دع عنك هذا الافتراء (5)، وتأمل بركة الفتح الإسلامي فيما يشير إليه الإمام ابن خلدون رحمه الله (732 - 808هـ) في قوله (6): «من الغريب الواقع أن حَمَلة العِلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، [وليس في العرب حملة علم]، لا [في] العلوم الشرعية ولا [في] العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في

(1) جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص (208) باختصار.

(2)

ألفرد بُتلر: فتح العرب لمصر، ص (468). Alfred J. Butler: The Arab Conquest of Egypt

(3)

وللتوسع في هذا الباب أحيلك على دراسة للدكتور محمد بن منقذ السقار بعنوان: التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم. وهي ورقة بحث تقدم بها للمشاركة في الندوة الدولية التي عقدتها منظمة (إيسيسكو)، بالتعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في الجمهورية التونسية، تحت عنوان: الحضارات والثقافة الإنسانية: من الحوار إلى التحالف. والتي عقدت في تونس في الفترة من 30/ 1 إلى 1/ 2/2006م. تجدها على موقع المنظمة. www.isesco.org.ma

(4)

انظر حواره مع جريدة (المصري اليوم)، بتاريخ 15/ 9/2010م، ص (15).

(5)

ولدحضه، أحيلك على دراسة المهندس فاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

(6)

مقدمة ابن خلدون، ص (747)، وما بين الأقواس زيادات في نُسَخ أخرى.

ص: 58

لغته، ومَرْباه ومشيختِه، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي» اهـ.

ولكن كي يستقيم هذا الأمر شرعًا لا بد لنا من التفريق بين مفهومي (البِر) و (الوُد)؛ فقد قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1)، كذلك قال عز وجل:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2)، فالمتأمل في الآيات يلاحظ أن البِر شيء والوُد شيء آخر؛ فالبِر من أعمال الجوارح، أما الوُد فهو من أعمال القلوب، وهو منتف في التعامل بيننا وبين غير المسلمين لآية المجادلة، أما البِر فهو جائز في التعامل بيننا وبين بعضهم، وذلك لقوله تعالى في سورة الممتحنة، وهذا أصل قَلَّ من انتبه إليه (3)،

وأراه واجبًا على العلماء والدعاة الربانيين المخلصين، الذين أخذ الله ميثاقهم أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه، والذين حملوا على عاتقهم هم الدعوة إلى سماحة الإسلام وتحسين أوضاع المسلمين وكشف شبهات المخالفين، أن تكون هذه الحقيقة واضحة في أقوالهم وأفعالهم، وأن لا تميع العلاقات إلى حد الترحُّم على من هلك والتهنئة بما هو ديني (بدعي أو كفري)

إلى آخر مثل هذه الأمور المنافية لصحيح الاعتقاد.

هذا باختصار فيما يتعلق بالأمر الأول، وهو (الفقه بأحكام التعامل مع غير المسلمين)، أما الأمر الثاني: وهو (الوعي بأيديولوچية المخالف)، فقد تقدم الحديث فيه، وسيزداد بيانًا في الفصول التالية.

(1) الممتحنة: 8 - 9

(2)

المجادلة: 22

(3)

انظر في ذلك رسالة الدكتور سعيد عبد العظيم: الغلو في التكفير، ص (41). وأما الود الذي قد يكون فطريًا، مثل إنسان له أقارب كفار، أبوه أو أمه أو

إلخ، فهو عنده المحبة الفطرية لهم فيجب أن تُصرَف هذه المحبة الفطرية إلى حب إسلامهم - أن يسلموا -، مع وجود البغض لما هم عليه من كفر ..

ص: 59

عودة إلى البدء ..

فهذا كان خبر المستوى الأول (الإسلامي-الكتابي)، أما عن المستوى الثاني (السنِّي-الشيعي)، تحديدًا الرافضي الاثني عشري:

ففيما يتعلق بموجبات التعايش السلمي، فهذا يمكن الاستدلال عليه مما أصَّلناه فيما سبق، فلا نطيل المقام بإعادة ذكره. ولكن فيما اشترطناه حول ما يتعلق بضرورة (الوعي بأيديولوچية المخالف)، فهنا موضع البحث ..

فإن مما يجعل الأمر يبدو مشكلًا، تعداد القوم في دائرة الفرق الإسلامية (1)، مما أغرى البعض إلى المبالغة في تبسيط المسألة إلى الحد الذي نتج عنه عدم الانضباط في إطلاق الأحكام، وتنزيل العام على الخاص والعكس. أضف إلى ذلك براعة القوم في (فن التلون الحربائي)، والذي ما سلكوا طريقه إلا ابتغاء مرضات الله؛ فالتقية دينهم ودين آبائهم، كما يفترون القول على الإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى ورضي عنه (83 - 148هـ)(2)، بل وتاركها كتارك الصلاة، كما يضعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! (3) .. فتقنُّع القوم بقناع التقية في محاولة لستر قبيح ما تحويه أسفارهم، والتي «لا يصل الكيد الاستشراقي والتبشيري إلى مستوى ما وصلت إليه من محاولات لتغيير دين الله وشرعه باسم الإسلام، بل إن الاستشراق والتبشير من معينها يرتوي وعلى شبهاتها وأساطيرها يعتمد في إفساده وتآمره على الدين وأهله» (4)، فهذا الأمر مع ما يقابله من حالة فجة من الكسل الفكري وفقر التتبُّع لدى قطاع عريض من أهل السنة، مع عدم اعتبار بما هو تاريخي - كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «استدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه» (5)

- بل والركون إلى هذه الحالة المؤقتة من (التَّعَلْمُن الجزئي) لدى العامة، قد أدى بالبعض إلى التغني بالحاجة إلى الوقوف على كلمة سواء والإعراض عما

(1) وهو اجتهاد سائغ عند أهل السنة.

(2)

انظر، محمد بن يعقوب الكليني: الأصول من الكافي (2/ 219)، قوله:«قال أبو جعفر عليه السلام: التقية من ديني ودين أبائى ولا إيمان لمن لا تقية له» .

(3)

انظر، تاج الدين الشعيري: جامع الأخبار، ص (95)، الفصل الثالث والخمسون:(في التقية)، قوله:«وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تارك التقية كتارك الصلاة» .

(4)

د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 277).

(5)

انظر، علاء الدين المتقي الهندي (888 - 975هـ): كنز العمال (16/ 180) ..

ص: 60