المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جذور المسألة اليهودية: - حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية

[عمرو كامل عمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة بقلم الدكتور محمد بن موسى الشريف

- ‌تعقيب

- ‌{مقدمة المؤلف}

- ‌الباب الأول حصان رومي

- ‌الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

- ‌الاتجاه الأول (وحدة الأديان):

- ‌الاتجاه الثاني (توحيد الأديان):

- ‌الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان):

- ‌الخصائص الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والملاحظ عليها:

- ‌مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي:

- ‌الدولة الفاطمية الثانية:

- ‌تأييد آية الله التسخيري:

- ‌دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر:

- ‌تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ:

- ‌1 - مصطفى السباعي:

- ‌2 - محمد رشيد رضا:

- ‌3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل:

- ‌4 - محمد الأمين الشنقيطي:

- ‌5 - يوسف القرضاوي:

- ‌دافعي لبحث مسألة التشيع:

- ‌الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

- ‌فتح القسطنطينية وتبعاته:

- ‌اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي:

- ‌الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد:

- ‌العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية:

- ‌زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر):

- ‌صمويل هنتجتون يتقدم:

- ‌نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام:

- ‌هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي

- ‌غزوة مانهاتن

- ‌عودة إلى ساحة التنظير السياسي:

- ‌أوربان الأمريكي يعلن حربًا صليبية جديدة:

- ‌حرب العراق:

- ‌فرصة ذهبية:

- ‌بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي:

- ‌تعديل في المسار:

- ‌حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول:

- ‌شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي):

- ‌توماس فريدمان و (حرب الأفكار):

- ‌أندرو ترنبُل و (عملية المنافسة):

- ‌أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة):

- ‌الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

- ‌{مدخل}

- ‌الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي:

- ‌پروتوكولات حكماء صهيون:

- ‌{الصهيونية .. رؤية مغايرة}

- ‌اصطفاء مشروط لبني إسرائيل:

- ‌وعد أولاهما:

- ‌ورسولا إلى بني إسرائيل:

- ‌وعد الآخرة:

- ‌فائدة:

- ‌يهود الدياسپورا:

- ‌نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل:

- ‌العقيدة المشَّيحانية Messianism:

- ‌علاقة اليهود بالأغيار:

- ‌الجيتو اليهودي:

- ‌واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية:

- ‌الصَدْع اللوثري:

- ‌ورهبانية ابتدعوها:

- ‌الكنيسة تجني أرباحًا كبيرة:

- ‌صراع الأباطرة والبابوات:

- ‌تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية:

- ‌مهزلة صكوك الغفران:

- ‌عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا:

- ‌مارتن لوثر: ترجمة:

- ‌مارتن لوثر واليهود:

- ‌أفكار لوثر أحدثت ثغرًا لا يزال يتسع حتى اليوم:

- ‌المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي:

- ‌ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد:

- ‌يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا:

- ‌مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل):

- ‌الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية:

- ‌إنجلترا تتلقف الراية:

- ‌جذور المسألة اليهودية:

- ‌ونعود إلى إنجلترا

- ‌لورد پالمرستون الثالث:

- ‌كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي:

- ‌حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف:

- ‌هرتزل: ترجمة:

- ‌الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية:

- ‌المرحلة البلفورية:

- ‌الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق

- ‌أمريكا تتلقف الراية:

- ‌الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية:

- ‌ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967

- ‌نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي:

- ‌قضية تامارين:

- ‌الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي

- ‌الموقف حيال القتل الجماعي

- ‌زواج مصالح…ولكن

- ‌العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي:

- ‌اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة:

- ‌الباب الثاني حصان فارسي

- ‌الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

- ‌أيُكسَر الباب أم يُفتَح

- ‌حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

- ‌جذور البلاء:

- ‌القذيفة الأولى:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌وهذه المسائل الأربعة هي:

- ‌ أولًا: تدوين التاريخ

- ‌ثانيًا: عدالة الصحابة:

- ‌تعريف الصحابي:

- ‌طبقات الصحابة:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌عقيدتنا في الصحابة:

- ‌حكم سب الصحابة:

- ‌ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌وقعة الجمل (36ه

- ‌معركة صِفِّين (37ه

- ‌قضية التحكيم (37 ه

- ‌رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة:

- ‌عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي رضي الله عنه

- ‌ولكن من هم (الشيعة الأولى)

- ‌تبرؤ شيعي:

- ‌عام الجماعة (41ه

- ‌مناقب أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه

- ‌الشيعة بعد عام الجماعة:

- ‌وفاة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وخلافة يزيد:

- ‌ولماذا أوصى معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد بالخلافة

- ‌موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية:

- ‌رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين رضي الله عنه

- ‌جيش التوابين:

- ‌أسباب فشل حركة التوابين:

- ‌في ثقيف كذاب ومبير:

- ‌انحراف عقدي:

- ‌مع الاثني عشرية:

- ‌وبداية: متى كانت بداية ظهورهم

- ‌الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

- ‌الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

- ‌«والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تُحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي]

- ‌عقيدة الإمامة:

- ‌أصل عقيدة الإمامة:

- ‌ولماذا اثنا عشر إمامًا

- ‌اعتقاد الرافضة في أئمتهم:

- ‌مغالطات واضحة:

- ‌المتتبع لسلسلة الأئمة يلاحظ الآتي:

- ‌حيرة

- ‌ولماذا اختفى

- ‌في السرداب:

- ‌كم مدة غيبته

- ‌وعرفت هذه بالغيبة الكبرى

- ‌الثورة الخمينية وولاية الفقيه:

- ‌أولًا: بيان رابطة العالم الإسلامي:

- ‌ثانيًا: بيان مفتي جمهورية تونس الحبيب بلخوجة:

- ‌ثالثًا: فتوى علماء المغرب:

- ‌رابعًا: بيان رابطة العلماء في العراق:

- ‌خامسًا: فتوى الشيخ الألباني:

- ‌متى تكون التقية

- ‌التقية عند الرافضة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة البداء:

- ‌من أقوال الرافضة في البداء:

- ‌عقيدة الرافضة في القرآن:

- ‌عقيدة الطينة:

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌عقيدة الرافضة في أهل السنة:

- ‌اعتقاد أهل السنة في آل البيت رضي الله عنهم

- ‌ثناء آل البيت على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:

- ‌وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله

- ‌بل أنتم الناصبة

- ‌واقرأ معي هذه النصوص:

- ‌موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف:

- ‌عقيدة الرجعة:

- ‌من الراجعون

- ‌وما مهام المهدي الراجع

- ‌إباحة الرافضة زواج المتعة:

- ‌من أدلة تحريم المتعة:

- ‌نظرية الخُمس:

- ‌الخمس عند الرافضة:

- ‌من أقوال علماء أهل السنَّة في الرافضة:

- ‌الفصل الثالث: شبهات وردودها

- ‌الشبهة الأولى: حديث الغدير:

- ‌الشبهة الثانية: حادثة فَدَك والإرث:

- ‌الشبهة الثالثة: آية المودة:

- ‌الشبهة الرابعة: آية التطهير:

- ‌الشبهة الخامسة: آية الولاية:

- ‌الشبهة السادسة: حديث المنزلة:

- ‌الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»:

- ‌الشبهة الثامنة: «يا رب أصحابي

- ‌الشبهة التاسعة: آية الفتح:

- ‌الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية:

- ‌الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»:

- ‌الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌جذور المسألة اليهودية:

ومنذ ذلك الحين بدأ ما وصفه وليام آر. پولك William R. Polk في كتابه (الستار الخلفي للتراچيديا Backdrop to Tragedy) بـ «الاتحاد العجيب بين سياسة الإمپراطورية ونوع من الصهيونية المسيحية الأبوية التي تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد» (1).

والمتأمل يجد أن «المقدمات التي وضعوها وتتابع الأحداث السياسية والعسكرية أضفت على آرائهم عن الآخرة صبغة من الواقعية وولدت بين الجماهير اعتقادًا بأن ما كان يحدث أمام أبصارهم هو تسلسل أحداث سفر الرؤيا التي وردت في النبوءات على آخر الزمان» (2).

ولكن ما لا شك فيه أن تطور المسألة اليهودية في أوروپازاد من الضغط على إنجلترا لاتخاذ خطوات سياسية أكثر إيجابية، ونحن لا يمكننا وضع تصور صحيح لمجريات الأحداث دون التوقف بعض الشيء لنبش جذور هذه المسألة اليهودية، والتي نمت بذرتها الأولى بين يهود پولندا وروسيا، أو يهود اليديشية (3) أو شرق أوروپاكما يطلق عليهم ..

‌جذور المسألة اليهودية:

يرجع تواجد اليهود في روسيا إلى القرن التاسع الميلادي حين توسعت مملكة الخزر اليهودية في وادي فولجا Volga ومناطق أخرى من روسيا. وقد اشترك يهود الخزر، حسبما ورد في الموروثات الشعبية الروسية، في المناظرة الدينية التي عقدت بين ممثلي الديانات الثلاث عام 986م أمام أمير كييف Kiev، وقد اعتنق بعدها المسيحية وأصبحت الأرثوذكسية هي الدين الرسمي لروسيا. وبعد أن استقر اليهود في المدينة

(1) انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (63).

(2)

السابق، ص (58 - 9).

(3)

يهود اليديشية: هو مصطلح استخدمه يهود إنجلترا من السفارد وغيرهم، للإشارة إلى المهاجرين الأشكناز الجدد من روسيا وپولندا. واللهجة اليديشية التي تميز بها يهود شرق أوروپا، هي خليط من اللغة الألمانية أضيف إليها بعض الكلمات السلافية والعبرية، وكتبت بالحروف العبرية حتى أصبح يشار إليها باللغة اليديشية Yiddish language. وأصبحت هذه اللهجة، التي يُقال لها لغة، سمتهم الثقافية الأساسية التي حملوها معهم أينما ذهبوا.

ص: 310

باعتبارها مركزًا تجاريًا يربط بين منطقة البحر الأسود وآسيا وغرب أوروپاوأصبح لهم جيتو خاص بهم، قوبلوا بعداوة شديدة من بلد اعتنق المسيحية لتوه ويضم طبقة تجار بدائية للغاية (1).

أما في پولندا، فتعود أصول اليهود إلى القرن الثاني عشر - أي وقت الحروب الصليبية -، حين بدأت تهاجر جماعات من اليهود الألمان مع التجار الألمان، واستوطنت پولندا بدعوة من حكامها لتشجيع حركة التجارة. وهم يشكلون أغلب يهود العالم (2).

ومما شجع اليهود على الهجرة إلى پولندا، تدنِّي وضعهم في أوروپاالغربية إبان حروب الفرنجة، وفقدانهم وظيفتهم كتجار، وتَحوُّلهم إلى مرابين وتجار صغار. كما أن پولندا كانت البلد الوحيد تقريبًا في أوروپاالذي لا يتوقف فيه حق المواطنة على الانتماء إلى الكنيسة، كما كان الحال في بقية أوروپا؛ حيث كانت پولندا إمپراطورية تعددية تضم پولنديين كاثوليك وألمان وأوكران (3)، كما ضمت الأرثوذكس والفلمنك واليهود والأرمن والتتر المسلمين واليهود القرّائين ممن كانوا من أصل خزري ويتحدثون التركية، أي إن السكان كانوا يتبعون عددًا كبيرًا من الديانات وكانوا يتحدثون اثنتى عشرة لغة (4).

وتحت حكم سيچسموند الأول Sigismund I (1467 - 1548 م) ملك پولندا ودوق ليتوانيا انتشرت الپروتستانتية في پولندا، الأمر الذي أدَّى إلى خلق جو من التعددية والتسامح. واستمر سيچسموند في سياسة تشجيع التجارة، فأصدر مراسيم تؤكد المزايا التي حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية. وأكد سيچسموند الثاني (1520 - 1572م) حقوق أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت أهمية الدور الذي كانوا يلعبونه في الأعمال

(1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ روسيا من القرن التاسع حتى التقسيم الأول لپولندا) باختصار.

(2)

السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا).

(3)

أو روثينيان، حيث كانت أوكرانيا قديمًا تسمى روثينيا.

(4)

السابق (4/ پولندا حتى القرن السادس عشر) بتصرف.

ص: 311

المالية كملتزمي ضرائب وصيارفة يعملون في الأمور المالية، وكان منهم عدد كبير من الأطباء (1).

وجدير بالذكر أن المستوى المعيشي ليهود اليديشية حتى بداية القرن الثامن عشر، كان مرتفعًا قياسًا إلى عامة الشعب من الفلاحين والأقنان، بل إلى أعضاء الطبقات الوسطى الهزيلة في پولندا. وكان لا يفوقهم في مستواهم المعيشي سوى النبلاء الپولنديين (شلاختا Szlachta). بل إن النخبة الثرية بين اليهود كانت تعيش في مستوى اقتصادي يفوق صغار النبلاء (2).

ولكن رغم استمرار سياسة التسامح هذه، استمر تدهور وضع أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت محاولات الحد من نشاطهم التجاري والحرفي، وبدأت المدن تعطي نفسها السلطة القضائية على اليهود فأصدرت قرارات للحد من حرية إقامتهم فيها. وفي عام 1633م أسس أول جيتو. ونتيجة ضعف نفوذ الملك، وتَصاعُد نفوذ النبلاء، أصبح هؤلاء حماة الجماعة اليهودية واقترنت مصالح الأرستقراطية الاقتصادية بأعضاء الجماعة. وأدَّى هذا التقارب بين النبلاء واليهود إلى تغيير وضع يهود پولندا بشكل جوهري. ولا يمكن فهم التطورات اللاحقة التي أدَّت إلى ظهور الصهيونية إلا بفهم طبيعة هذا التحول (3) ..

فمن منظور التطور السياسي اللاحق لپولندا، ومن منظور تبلور المسألة اليهودية في شرق أوروپاوظهور الصهيونية، كانت طبقة النبلاء هي أهم طبقات المجتمع الپولندي، وهي طبقة لم تكن قط تابعة للملك وإن كان قد نجح بعض الوقت في فرض سلطته عليها. وإذا كان التطور اللاحق في معظم أرجاء أوروپاهو تَعاظُم سلطة الملك داخل النظام الإقطاعي وتقليم أظافر النبلاء الإقطاعيين وتأسيس الدولة المطلقة تحت حكم الملوك المطلقين، فإن العكس هو الذي حدث في پولندا إذ تعاظم نفوذ النبلاء حتى أصبحوا الحكام الحقيقيين وأصحاب القرار في الدولة الپولندية.

(1) السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق Cossacks).

(2)

السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا).

(3)

السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق) باختصار.

ص: 312

ولعل تَزايُد نفوذ النبلاء يعود إلى سمة فريدة في پولندا بين الدول الغربية، وهي تعددية الإمپراطورية الپولندية إثنيًا وجغرافيًا ودينيًا (1).

وكان النبلاء في پولندا، برغم سطوتهم وقوة نفوذهم، يتبعون قوانين جامدة، فكانوا يتمتعون بمكانتهم (إذا كانوا من صلب إحدى الأسر النبيلة) ما داموا لا يعملون بالتجارة، وكان اشتغالهم بالتجارة يعني فقدانهم مكانتهم ووضعهم. ولذا، كان يوجد نبلاء فقراء (النبلاء الحفاة) مُعْدِمُون يفضلون الجوع والفاقة على العمل بالتجارة. وأدَّى ذلك إلى التحالف بين قطاعات منهم وبين اليهود كعنصر تجاري نشيط يمتلك الخبرات والأموال المطلوبة للأعمال التجارية. وبلغت أهمية أعضاء الجماعة اليهودية درجة كبيرة حتى إنه حينما فكرت أعداد منهم في الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، منعهم ملك پولندا بالإقناع والقوة.

وكان أعضاء الجماعة اليهودية يستقرون في مدن صغيرة أسسها النبلاء، فكانوا يمنحونهم حق السكنى فيها نظير الدفاع عنها، وهي المدن التي عُرفت باسم (الشتتل Shtetl). وكان سكان هذه المدن من اليهود أساسًا.

وكانت حاجة النبلاء الإقطاعيين إلى المال تزداد يومًا بعد يوم، فكانوا يقترضون من اليهود. وأدى هذا كله إلى ظهور نظام الأرندا Arenda (الاستئجار) كشكل أساسي من أشكال الإقطاع الاستيطاني. فكان النبيل الإقطاعي يستدين من المرابي اليهودي مبالغ طائلة للوفاء باحتياجاته بضمان ضيعته وغلتها وعوائدها. وبالتدريج، اضطلع أعضاء الجماعة اليهودية بعملية استئجار المزرعة وإدارتها نيابةً عن النبيل الإقطاعي الغائب في وارسو Warsaw (عاصمة پولندا)، والذي كان يترك زمام الأمور في يد الوكيل.

لكل ما تقدَّم، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضيعة، فهو الذي يُطبِّق القانون ويقرر العقوبات والغرامات وينفذها بمساعدة الجنود الپولنديين (2).

(1) السابق (4/ النبلاء الپولنديون (شلاختا)) بتصرف يسير.

(2)

السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق) باختصار.

ص: 313

ويمكن أن نرى هنا الجذور الحقيقية للمسألة اليهودية؛ إذ إن تحول اليهود إلى أداة استغلال، أو إلى جماعة وظيفية وسيطة، يعني أنهم كانوا يقفون ضد أغلبية طبقات المجتمع لا يرتبط مصيرهم بمصيره، وخصوصًا أن الطبقة التي ارتبطوا بها لم تكن طبقة وطنية، بل طبقة مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. ولذا، فحينما ظهرت طبقة بورچوازية وطنية في پولندا، لم يكن بإمكان اليهود أن ينخرطوا في سلكها فظلوا خارجها. كما ارتبطوا بطبقة كانت عمليًا مسئولة عن ضعف پولندا وتَحوُّلها من دولة عظمى إلى دويلة صغيرة ثم عن اختفائها نهائيًا مع بداية القرن التاسع عشر. واختفت طبقة النبلاء مع تقسيم پولندا وتحول كثير من النبلاء إلى مهنيين (1).

ولقد تعرَّض تماسُك يهود اليديشية لعدة هجمات وضربات من الخارج، كانت أولاها هجمات شميلنكي عام 1648م التي بدأت تُخلخل وضع الجماعة اليهودية (2)،

ثم كانت الضربة الثانية تقسيم پولندا (الأول والثاني والثالث) في الفترة ما بين (1772 - 1795م)

(1) السابق (4/ النبلاء الپولنديون (شلاختا)).

(2)

انتفاضة شميلنكي: هي انتفاضة شعبية جرت في أوكرانيا ضد الاستعمار الاستيطاني الپولندي وقوات الاحتلال التي كانت تحميه وكل المؤسسات التي تتبعه (الكنيسة الكاثوليكية والوكلاء اليهود)، قادها بوجدان شميلنكي Bohdan Chmielnicki (1595 - 1657 م). وتعد هذه الانتفاضة من أهم الحوادث التاريخية التي أثرت في الجماعات اليهودية في شرق أوروپا. وقد كانت انتفاضة شميلنكي في جوهرها شكلًا من أشكال الثورة الشعبية لا تختلف عن مثيلاتها من ثورات الفلاحين ضد الإقطاعيين ووكلائهم. وهي عادةً ثورات تأخذ في البداية شكل غضب شعبي عارم ورغبة شديدة في الانتقام، وهو في جوهره رد فعل لا عقل له لعملية القمع القاسية اللاعقلانية التي كانت تُمارَس ضد الفلاحين. وحسبما جاء في المصادر اليهودية المعاصرة، فقد أُبيد نحو ثلث يهود أوكرانيا. ولكن المؤرخين يميلون الآن إلى القول بأن هذه الأرقام مُبالَغ فيها، كما يميلون إلى أن أعدادًا كبيرة من اليهود فرَّت ثم عادت بعد أن هدأت الأحوال قليلًا. وربما يفسر هذا استمرار تزايد أعداد اليهود بعد الانتفاضة. وتنظر الدراسات الصهيونية إلى هذه الحادثة نظرة اختزالية كوميدية؛ إذ تُصوِّر اليهود باعتبارهم أقلية صغيرة يعيش أعضاؤها آمنين في مدنهم الصغيرة يتحدثون اليديشية، لا علاقة لهم بعالم الأغيار، وفجأة يهب هذا العالم ويذبح آلاف اليهود (وتبدو الواقعة بأسرها وكأنها شيء فجائي ليس له سبب واضح لأننا لا ندرك دور اليهود الوظيفي أو علاقتهم بالأغيار الپولنديين). ومن ثم فإن انتفاضة شميلنكي تصبح (مذبحة شميلنكي) ويُقارَن شميلنكي بهتلر. [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ انتفاضة شميلنكي)] ..

ص: 314

والذي انتهى باختفاء پولندا عام 1795م بوصفها وحدة سياسية مستقلة، وبتقسيمها بين الإمپراطورية الروسية والإمپراطورية النمساوية وألمانيا (پروسيا Prussia). وكانت الأراضي التي ضمتها روسيا تضم أكبر عدد من يهود اليديشية.

وكانت البلاد الثلاثة التي اقتسمت پولندا فيما بينها بلادًا زراعية متخلفة. ومع هذا، بدأت تظهر فيها، بتشجيع من الملكيات المطلقة، اتجاهات نحو التصنيع. وكانت حكومات البلاد الثلاثة يحكمها حكام مطلقون مستنيرون (فريدريك الثاني في پروسيا Friedrich II (1712 - 1786 م)، وچوزيف الثاني في النمسا Joseph II (1741 - 1790 م)، وكاترين الثانية في روسيا Catherine II (1729 - 1796 م))، فتبنت هذه الحكومات مقياس مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتقليل عزلتهم. فتم تقسيمهم إلى نافعين وغير نافعين. وكان الهدف هو إصلاح اليهود، وزيادة عدد النافعين بينهم، وطرد الضارين منهم أو منع زيادة عددهم. وارتبطت هذه العملية بعملية إعتاق اليهود، فلم يكن يُعتَق منهم سوى النافعين.

وتتميَّز الدول الثلاث بأن الدولة المركزية فيها كانت مطلقة ومستنيرة على عكس البيروقراطيات التابعة لها، التي كانت متخلفة وغير مستنيرة بالمرة ومليئة بالأحقاد ضد الأقليات، وخصوصًا في ظروف التحول الاجتماعي. ولذا، فحينما حاولت الدولة إصلاح اليهود بإصدار قرارات كانت البيروقراطية تعوق تنفيذ هذه القرارات.

ولقد تلقَّى يهود اليديشية هذه الضربات من الخارج، في مرحلة كانت اليهودية تمر فيها بأخطر أزماتها الداخلية ابتداءً من القرن الثامن عشر (1)؛ فلقد كان معظم الجماهير اليهودية في تلك المرحلة قد ابتعد عن مراكز الدراسات التلمودية والتقاليد الثقافية الحاخامية التي كانت قد بدأت تفقد صلتها بالواقع، وأصبحت غير قادرة على الاستجابة للحاجة الروحية لدى الجماهير اليهودية، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار القبَّالاه (2). ورغم

(1) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا).

(2)

القبَّالاه Kabbalah: هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف. [للتوسع، انظر المرجع نفسه (5/ القبَّالاه: تاريخ)].

ص: 315

أن اليهود كانوا وسطاء ممثلين للإقطاع الپولندي، فإنهم اكتسبوا كثيرًا من صفات الفلاحين الأوكرانيين والپولنديين بكل خرافاتهم ونزعاتهم الدينية الغيبية، بل تأثروا بتقاليدهم الدينية المسيحية، وخصوصًا بجماعات المنشقين الدينيين الروس وبالـ (خليستي Khlysty) على وجه التحديد. وتزامن ظهور الحركة مع التدهور التدريجي للاقتصاد الپولندي إذ طُرد كثير من يهود الأرندا وأصحاب الحانات من القرى والمدن الصغيرة. وتسبَّب كل ذلك في ازدياد تَغلغُل الرؤى القبَّالية، الأمر الذي جعل أعضاء الجماعة اليهودية تربة خصبة للنزعات المشيحانية. ولذلك، ترك شبتاي تسِفي أعمق الأثر في بعض قطاعاتهم، وأصبحت پولندا، وخصوصًا پودوليا Podolia، مركزًا للحركات الشبتانية والفرانكية على وجه الخصوص.

وفي نهاية الأمر، ظهرت الحسيدية في المناطق الزراعية في پولندا التي ضُمَّت فيما بعد إلى روسيا (وهي أوكرانيا وروسيا البيضاء). وكانت القيادة الاجتماعية للحركة الحسيدية هي الطبقة الوسطى الصغيرة من بقايا يهود الأرندا ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة والباعة المتجولين (1).

ومما أدَّى كذلك إلى تفاقم الأوضاع السيئة الانفجار السكاني الذي حدث بين يهود العالم الغربي، وخصوصًا يهود اليديشية، إذ زاد عدد يهود العالم، في الفترة ما بين (1850 - 1935م) ستة أضعاف. وحيث لم يكن يهود الغرب يتزايدون، بل كانوا آخذين في التناقص، فإن نسبة الزيادة بين يهود اليديشية كانت في واقع الأمر أكثر من ستة أضعاف (2).

ورغم المحاولات التي قامت بها حكومات البلاد الثلاثة لتحديث اليهود وتنويرهم، لم يُقدَّر للاتجاه الاندماجي الاستمرار لعدة أسباب:

- كان الاندماجيون بين اليهود شريحة اجتماعية صغيرة للغاية، تَوَجُّهها الثقافي پولندي ويتركز معظم أعضائها في وارسو أو في غيرها من كبريات المدن. أما الجماهير

(1) السابق (4/ پولندا من انتفاضة القوزاق إلى التقسيم). والحسيديم Hasidim أو الحريديم Haredim هي طائفة يهودية أرثوذكسية صوفية متشددة، وحريدي تعني تقي.

(2)

السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا).

ص: 316

اليهودية العريضة، فكانت جماهير فقيرة تتحدث اليديشية ولم تتأثر بالقيم التحديثية والقومية الجديدة، كما كانت تعيش داخل مدنها الصغيرة (الشتتل) بمعزل عن الحضارة القومية. وكانت أعداد الجماعة اليهودية في پولندا من الضخامة بحيث إن اليهودي كان يُولَد ويَكْبَر ويموت دون أن يضطر إلى الاحتكاك بشكل دائم ويومي مع الحضارة الأم. وأصبحت الجماهير اليهودية ذات ثقافة فلاحية طابعها مسيحي. وحينما نقول ثقافة فلاحية في پولندا، فنحن نقصد أنها ثقافة متخلفة إلى حدٍّ ما، ومنعزلة عن الثقافة العالية وضمن ذلك الثقافة التلمودية نفسها. فانتشرت بين اليهود المعتقدات الشعبية والخرافات، وهو ما جعلهم أقل تَقبُّلًا لمحاولات التحديث والتنوير.

- ومن أهم العناصر التي أفشلت محاولات الاندماج ميراث الجماعة اليهودية التاريخي والاقتصادي الذي جعلها بمعزل عن التطور القومي الپولندي، بل وضعها في مجابهته وجعل يهود پولندا أعداءً لكل الطبقات الأخرى باستثناء بعض قطاعات من طبقة النبلاء. ومعنى هذا أنه كان هناك أساس ثقافي واقتصادي قوي للمواجهة بين البورچوازية الپولندية وأعضاء الجماعة اليهودية يحتاج إلى فترة طويلة من الكفاح القومي المشترك حتى يتسنى التوصل إلى أساس مشترك للكفاح والاندماج.

- أيضًا كان أعضاء الجماعة مركزين في مناطق حدودية تتصارع عليها دول ذات ثقافات مختلفة بل متصارعة؛ فكان هناك أولًا پولندا نفسها، ثم روسيا التي كانت تشجع الثقافة الروسية وعمليات (الترويس). ومن الناحية الأخرى، كان هناك ألمانيا والنمسا ذات الثقافة الألمانية. وكان اليهود أنفسهم يتحدثون اليديشية. وبعد كل تقسيم، كان يتعيَّن على اليهود، كنوع من الدواعي الأمنية، إعادة صياغة أنفسهم بما يتفق مع ثقافة الدولة المهيمنة. ومثل هذا الجو الذي لا يتسم بالتحدد الثقافي لا يساعد كثيرًا على تحديد شخصية اليهود الثقافية ولا على الولاء أو الانتماء القومي (1).

وفي عام 1780م، بدأت الحركة القومية الپولندية تأخذ طابعًا معاديًا لليهود (باعتبارهم جماعة وظيفية مالية)، فطالبت بصبغ التجارة والصناعة بالطابع الپولندي،

(1) السابق (4/ پولندا من انتفاضة القوزاق إلى التقسيم).

ص: 317

واتهمت رأس المال اليهودي بأنه غريب وبأن الجماهير اليهودية معادية للحضارة الحديثة جاهلة بها. وتم تأسيس أحزاب قومية شعبية پولندية جعلت الحرب ضد دمج اليهود هدفًا أساسيًا لها.

وبسبب توجهها القومي الواضح، ألقت الكنيسة الكاثوليكية في پولندا بثقلها وراء الحركات الشعبية المناهضة لليهود. وكانت كل هذه الحركات تهدف إلى طرد أعضاء الجماعة اليهودية من قطاعات اقتصادية معيَّنة، وهو أمر ممكن من الناحية النظرية، ولكن لم يقابله اتجاه مماثل نحو خلق فرص اقتصادية جديدة في مجالات أخرى. والواقع أن الهدف كان طرد اليهود ونقلهم لا دمجهم في المجتمع. ومن هنا كان تأييد الحكومة الپولندية للحركة الصهيونية ولجهودها الرامية إلى تهجير اليهود إلى فلسطين (1).

وفي روسيا، ظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تمامًا تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسع عشر (2).

وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى هجرة أعداد كبيرة من يهود اليديشية، وخصوصًا في الفترة ما بين (1881 - 1914م)، وهم بذلك يكوِّنون الأغلبية الساحقة من يهود تلك البلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة جدًا قبل وفود يهود اليديشية. وأدَّى وفودهم إلى زيادة معدلات معاداة اليهود نظرًا لتخلفهم وتميزهم الوظيفي والإثني.

ومن هنا كان رد الفعل العنصري في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، الأمر الذي أدَّى إلى

(1) السابق (4/ پولندا بعد التقسيم حتى الحرب العالمية الثانية) باختصار.

(2)

السابق (4/ روسيا من القرن التاسع حتى التقسيم الأول لپولندا) باختصار.

ص: 318