الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حركة الإصلاح الديني إلى أن بلغت ذروتها في القرن العشرين في مذهب العصمة الحرفية الأمريكي الذي يصر على أن إسرائيل هي التحقيق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث (1) ..
كان مما رسخ الاعتقاد فيه كذلك هو أن حركة الإصلاح نفسها نقطة تحول تشير إلى قرب نهاية الزمان. وقد أثبتت أوروپاالتي كانت تحت وطأة الحروب الطاحنة لعدة قرون، أنها أرض خصبة لمثل هذه العلامات الأخروية. وكان الاضطهاد الشديد الذي يتعرض له كثير من الفرق الپروتستانتية على يد الكنيسة الرسمية يفسر بأنه علامة أخرى من علامات نهاية الزمان. في هذا الإطار حظيت النبوءات التوراتية الكثيرة عن مستقبل إسرائيل بأهمية كبرى وغدا كثير من الفرق مقتنعًا بأن تحقق النبوءات يشمل اليهود المعاصرين بشكل أو بآخر (2).
وكانت الأفكار الصهيونية عن العصر الألفي السعيد لا تزال تدرج في مراحلها الأولى، ولكن نواتها كانت موجودة في اعتناق أفكار معينة من حركة الإصلاح الپروتستانتية. وقد بقيت الصهيونية غير اليهودية خلال هذه الحقبة محصورة في مجال التأملات الروحية والنقاش اللاهوتي، لكن العناصر الأساسية لموالاة السامية ومعاداتها كانت موجودة فيها وكان هناك مزج غريب بين هذين التيارين اللذين يبدوان متناقضين.
كان المصلحون الأوائل يظهرون الحب لشعب الله المختار، ولكنه لم يكن حبًا نابعًا من قلقهم على اليهود، بل لدورهم المرسوم لهم في خطة الله كما أوحى بها وعده لهم. وكان ارتداد اليهود للمسيحية لا يزال الهدف النهائي (3).
ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد:
وفي نهاية القرن السادس عشر تقريبًا ظهر أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد وبعث اليهود، وانتشر في أوروپاوبخاصة في الجزر البريطانية، حيث
(1) السابق، ص (28 - 9) باختصار.
(2)
السابق، ص (29) بتصرف يسير.
(3)
السابق، ص (31 - 2).
كانت حركة الإصلاح الديني قد وطدت أقدامها منذ أن انفصل الملك هنري الثامن Henry VIII (1491 - 1547 م) عن روما الكاثوليكية (1).
وفي إنجلترا، وصلت النهضة العبرية، بأفكارها المتداخلة المؤيدة للصهيونية ضمنًا، ذروتها في عهد الثورة الپيوريتانية في القرن السابع عشر. وكانت الپيوريتانية Puritanism تمثل أشد أشكال الپروتستانتية تطرفًا، وقد ظهرت كحركة مناهضة للأصول التي وضعتها الملكة إليزابيث الأولى Elizabeth I (1533 - 1603 م) للكنيسة الإنجليزية، والتي شابهت بعض أصول الكنيسة الكاثوليكية في روما، الأمر الذي رفضه الپيوريتانز بشدة (2).
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الپيوريتانية، شأنها في ذلك شأن العبرية المسيحية إبان مجدها، لم تكن محصورة في إنجلترا وحدها - كما يزعم بعض المؤرخين الصهاينة -، بل امتدت إلى كافة أرجاء أوروپا، حيث كانت الپروتستانتية راسخة الأقدام. ولقد كانت الأفكار الصهيونية راسخة في الإحساس الشعبي في الأراضي المنخفضة الكالفنية، إذ أن اليهود الإسپان الذين فروا هربًا من محاكم التفتيش وجدوا ملاذًا لهم ولقوا كل ترحيب كحلفاء ضد العدو المشترك للملك الإسپاني والكنيسة الكاثوليكية (3).
ولقد غالى الپيوريتانيون في إجلال الكتاب المقدس مع إعطاء الأولوية للعهد القديم، وكانوا يجمعون بين نزعة حب الخير لليهودية والانطباع بأن اليهود هم خلفاء العبرانيين القدامى. وكان إكبارهم للعهد القديم وأهله ناجمًا عن الاضطهاد الذي قاسوه على يدي الكنيسة الرسمية. وكانت معلوماتهم عن حياة اليهود المعاصرين ضحلة، بل كانت معلوماتهم سطحية مستقاة من اطلاعهم على التوراة العبرية والتماثل بالتالي بين اليهود المعاصرين وبين شعب الله. وقد دفعهم هذا إلى اتباع مواعظ العهد القديم التي هجرها اليهود أنفسهم منذ عهد بعيد.
(1) السابق، ص (29 - 30).
(2)
انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Puritan.
(3)
د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (42).
وخلال تجارب الاضطهاد المرة والحرب الأهلية وجد الپيوريتانيون في العهد القديم بشكل خاص اللغة والأحاسيس التي تنطبق عليهم وتناسبهم تمامًا؛ حيث كانت التجربة الحقيقية للصراع الديني والسياسي والاضطهاد تلك التي جعلت مجازات العهد القديم محتملة الصحة، ودفعتهم لاستعمال لغته والأسماء الواردة فيه باعتبارها أنسب أداة لنقل أفكارهم العنيفة.
ولقد جلبت الپيوريتانية لإنجلترا اجتماعيًا وفكريًا الغزو (العبري) الذي كان قد اجتاح القارة الأوروپية. وأصبحت العبرية أمرًا محسوسًا على الشعب وفي حياة الأمة اليومية. كذلك تغلغلت التعابير العبرية في الحديث الإنجليزي، بل إن بعضهم كان يعتبر العبرية اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس (1).
ولقد واجهت الأفكار الپيوريتانية استياءً عامًا مع بداية ظهورها في بداية القرن السابع عشر، خاصة لدى الملك چيمس الأول King James I (1566 - 1625 م)، حيث رأى أن حمل أفكار العصر الألفي السعيد على محمل الجد يعتبر انتهاكًا شخصيًا واعتداءً على حقوقه الخاصة كحاكم مطلق (2). كذلك تعرضت هذه الأفكار للنقد في الپرلمان حيث انطلقت تحذيرات بعض الأعضاء من أنبياء متهودين جدد يطالبون بالبعث اليهودي.
ولكن جذور هذه الأفكار الصهيونية رسخت في الحياة الروحية لإنجلترا وانبعثت من جديد ووصلت عصرها الذهبي في العهد الپيوريتاني اللاحق (3)، حين أصبحت الپيوريتانية بإيمانها بالعصر الألفي السعيد في مركز القوة، فحينئذ لقيت فكرة البعث اليهودي قبولًا واسع النطاق.
(1) السابق، ص (35 - 7) باختصار.
(2)
حتى إنه قد أصدر أوامره لمترجمي النسخة الإنجليزية من الإنجيل المعروفة بنسخة الملك چيمس - والتي استغرق إعدادها الفترة من عام 1604 إلى 1611م - بالحد من تأثير الأفكار الپيوريتانية على هذه الترجمة. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Authorized King James Version KJV].
(3)
د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (31).