الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقيدة الرافضة في القرآن:
ذهب أئمة الرفض في كتبهم إلى القول بأن (القرآن الكريم ليس بحجة، ولا يكون حجة إلا بقيِّم)، والله تعالى يقول لمن أراد آية تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (1).
ولقد رووا في ذلك روايات:
فروى الكليني ما نصه «أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيِّم
…
وأن عليًا عليه السلام كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله» (2)، والمراد بالقيم هنا هو كما قال الشارح أنه «من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومؤوله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهي أو بإلهام رباني أو بتعليم نبوي» اهـ (3).
ولقد رووا عن علي رضي الله عنه قوله: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أخبركم عنه» (5)، ورووا:«علي تفسير كتاب الله عز وجل والداعي إليه» (6)، ولا يخفى قولهم المشهور المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنا مدينة العلم وعلي بابها» (7)، وغير ذلك الكثير ..
(1) العنكبوت: 51
(2)
الكليني: الأصول من الكافي (1/ 169).
(3)
السابق، الهامش.
(4)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 128).
(5)
الكليني: الأصول من الكافي (1/ 61).
(6)
المجلسي: بحار الأنوار (37/ 209).
(7)
السابق (40/ 201)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«وحديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها" أضعف وأوهى ولهذا إنما يعد في الموضوعات وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلا باب واحد ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدًا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب» اهـ[ابن تيمية: منهاج السنة (7/ 515)].
ولكن كيف يصح ذلك وهو القائل رضي الله عنه في خطبة له كما يروون: «نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بكتاب فصله وأحكمه وأعزه وحفظه بعلمه وأحكمه بنوره، وأيده بسلطانه، وكلاه من لم يتنزه هوى أو يميل به شهوة أو يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولا يخلقه طول الرد ولا يفنى عجائبه، من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن خاصم به فلح ومن قاتل به نصر، ومن قام به هدي إلى صراط مستقيم
…
» (1).
فلقد قالوا بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد، حتى عقد الحر العاملي بابًا في (الوسائل) بعنوان:«باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة عليهم السلام» (3). ورواياتهم في هذا الشأن كثيرة جدًا.
كذلك فلقد آمنت الشيعة بكتب ما أنزل الله بها من سلطان، حيث ادعوا أن الله تعالى اختص آل البيت وشيعتهم بكتب: كالجامعة والجفر ومصحف فاطمة (4) ولوح
(1) انظر، تفسير العياشي (1/ 7).
(2)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 132).
(3)
وقد وقفت عليه في الجزء السابع والعشرين من (وسائل الشيعة)، انظر (27/ 176) وما بعدها.
(4)
روى الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: «
…
يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال [أبو محمد] قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال صحيفة طولها سبعون ذراعًا بذراع رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش
…
ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر؟ قال قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم الذين مضوا من بني إسرائيل
…
ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد
…
ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة
…
». [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 239 - 40) باختصار].
فاطمة (1)،
والاثنتي عشرة صحيفة المتضمنة لصفات الأئمة (2).
وهذه الدعوى لا تكاد تختلف عن دعوى أكثر المتنبئين بتنزل كتب، أو وحي عليهم، ولعل جذور هذه المقالة بدأت في عصر علي رضي الله عنه، كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات الإمام البخاري رحمه الله عن أبي جحيفة أنه سأل عليًّا رضي الله عنه:«هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يُعطَى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر» (3)، قال ابن حجر (4):«وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لا سيما عليًا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها» ، ثم ذكر رحمه الله عدة روايات عما تشتمل عليه
(1) روى الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري
…
:.يا جابر: أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب؟ فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فهنيتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحًا أخضر، ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه كتابًا أبيض، شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته
…
». [السابق (1/ 527) باختصار].
(2)
كما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله تبارك وتعالى أنزل علي اثني عشر خاتمًا واثنتي عشرة صحيفة اسم كل إمام على خاتمه وصفته في صحيفته» [ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 268 - 9)]. ومن المؤسف أن من المتمسلمين من يعتقد في صحة هذه الصحف المزعومة، ويفرد لها البحوث والتصنيفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
(3)
رواه البخاري، كتاب الديات: 6915
(4)
ابن حجر: فتح الباري (1/ 204 - 5).
إذن، فإن نواة هذه المقالة ظهرت في عصر متقدم، أما من تولى كبرها فإن في رسالة (الإرجاء) للحسن بن محمد بن الحنفية (ت. 81هـ) ما يشير إلى أن السبئيين قد بدءوا في إشاعة مثل هذه المقالات حيث قالوا:«هدينا بوحي ضل عنه الناس وعلم خفي، ويزعمون أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن» (1).
وفي كتاب (أحوال الرجال) للجوزجاني (ت. 259هـ) أن عبد الله بن سبأ «زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي» (2).
فهذه أصل الدعوى؛ وهي إشارة السبئيين إلى علم مخزون عند علي، وقد تطورت بعد ذلك واتخذت صورًا وأشكالًا متعددة، إلى أن أدت بهم إلى القول بوقوع تحريف في كتاب الله عز وجل قام به الصحابة لطمس ما يحتويه من فضائح وهتك للمهاجرين والأنصار، ورووا في ذلك روايات، من أشهرها ما يرويه كذبًا أحمد بن علي الطبرسي (ت. 620هـ) صاحب (الاحتجاج)، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جمع علي عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه عليه السلام وانصرف، ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قارئًا للقرآن - فقال له عمر: إن عليًا جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان
(1) رسالة الإرجاء، ضمن كتاب (الإيمان)، لمحمد بن يحيى العدني (150 - 243هـ)(1/ 148).
(2)
أبي إسحاق الجوزجاني: أحول الرجال، ص (38).
فيه من فضائح وهتك المهاجرين والأنصار، وقد أجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر عليّ القرآن الذي ألَّفه، أليس قد أبطل كل ما عملتم؟ فقال عمر: ما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبَّر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك
…
فلما استخلف عمر سأل عليًا أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم، فقال عمر: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال: هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا ما جئتنا، إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي، فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ فقال: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه، فتجري السنة به، صلوات الله عليه» اهـ (1).
يقول القفاري (2): «هذا الزخم من المصنفات وغيرها لا يشك مسلم أنه كيد زنديق حاقد على كتاب الله ودينه وأتباعه، وقد دفع هذه الفئة إليه خلو كتاب الله مما يثبت شذوذهم وما ذهبوا إليه من عقائد ليس لها أصل في كتاب الله، وليس في مقدورهم أن يفعلوا شيئًا لتغيير بعض آيات الله، كما فعلوا في السنة المطهرة حينما دسوا بعض الروايات والتي كشفها صيارفة هذا العلم وأربابه فلما لم يستطيعوا أن يحدثوا في كتاب الله أمرًا لأنه فوق منالهم حينئذ ادعوا أن في كتاب الله نقصًا وتغييرًا - وما أسهل الدعوى على حاقد موتور - وهي محاولة فيما يبدو لإقناع أتباعهم الذين ضجوا من خلو كتاب الله من ذكر أئمتهم وعقائدهم والتي لها تلك المكانة التي يسمعونها من رؤسائهم، فادعوا هذه الدعوى ونشط شيوخهم في القرن الثالث والرابع في الحديث عنها، ولكنهم فيما يبدوا لم يحسبوا لهذه الدعوى حسابها، فارتدت عليهم بأسوأ العواقب، فقد فضحتهم
(1) أحمد بن علي الطبرسي: الاحتجاج (1/ 225 - 8)، باب احتجاج علي عليه السلام على جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار.
(2)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 231).
أمام الملأ، وكشفت القناع عن وجوههم، وأبانت عن عداوتهم ونفاقهم، وقطعت صلتهم بالإسلام والقرآن وأهل البيت».
ويشير كذلك (3) إلى أنه كان من أوائل من أشاروا إلى ظهور هذه الفرية من أهل السنة هو الإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (271 - 328هـ)، حيث قال (4): «لم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته ما يوجبه الحق والإنصاف والديانة
…
حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها
…
فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان
(1) السابق (1/ 225 - 6).
(2)
الأحزاب: 37، وانظر: كتاب (الإيمان)، للعدني (1/ 148). وقد نقل الدكتور القفاري النص من مخطوطة المكتبة الظاهرية هكذا: «ومن خصومة هذه السبئية التي أدركنا يقولوا [كذا] هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي
…
».
(3)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 204) وما بعدها.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 127).
قد سقط منه خمسمائة حرف
…
»، ثم ذكر ابن الأنباري أن هذا الزنديق أخذ يقرأ آيات من القرآن على غير وجهها زندقة وإلحادًا فكان يقرأ:(والعصر ونوائب الدهر)، و (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة)
…
إلخ.
وكأن ابن الأنباري كان يشير إلى شخص بعينه، إلا أنه لم يذكره باسمه، ولكن بدت هويته المذهبية من خلال افتراءاته.
بينما نجد الملطي يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه الفرية هو هشام بن الحكم، القائل بأن «الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكفروا وارتدوا وزاغوا عن الدين، وأن القرآن نُسِخَ وصعد به إلى السماء لردتهم، وأن السنَّة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار، وأن القرآن الذي في أيدي الناس قد انتقل ووضع أيام عثمان، وأحرق المصاحف التي كانت قبل» اهـ (1).
«ولكن هشام بن الحكم توفي سنة 190هـ، وهذا يعني أن هذا الافتراء أقدم مما يذكره ابن الأنباري، وإذا لاحظنا أن هذه الفرية مرتبطة أشد الارتباط بمسألة الإمامة والأئمة عند الشيعة، وذلك حينما بدأ شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها فلم يجدوا في كتاب الله ما يثبت مزاعمهم في ذلك فأدى بهم هذا إلى القول بهذه الفرية وغيرها .. إذا أدركنا ذلك فإنه لا يبعد أن يكون ما يقوله الملطي في أن هشامًا هو الذي تولى كبر هذا الافتراء .. لا يبعد أن يكون هذا واقعًا لا سيما أن هشامًا كان من أول من تكلم في الإمامة حتى قال ابن النديم إن هشام بن الحكم «ممن فتق الكلام في الإمامة
…
وله من الكتب كتاب الإمامة» (2).
فتشير القرائن - كما ترى - إلى هشام وشيعته، فهذا يدل على أقل الافتراضات أن هذه الفرية وجدت في عصر هشام، ومما يدل على وجود هذه الدعوى في تلك الفترة ما ذكره ابن حزم عن الجاحظ قال (3): «أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك، أما
(1) محمد بن أحمد الملطي: التنبيه والرد، ص (22).
(2)
ابن النديم: الفهرست، ص (223 - 4).
(3)
ابن حزم: الفِصَل (4/ 139).
استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (1)، قال: فضحك والله شيطان الطاق ضحكًا طويلًا حتى كأنا نحن الذي أذنبنا!».
هذه الحكاية أوردها ابن حزم عن الجاحظ، وقد قال عنه ابن حزم إنه «وإن كان أحد المجان ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتًا لها وإن كان كثيرًا لإيراد كذب غيره» اهـ (2).
وقد تقدمت بنا ترجمة شيطان الطاق، «والمعروف أن شيطان الطاق معاصر لهشام بن الحكم، فقد يكون أحد الشركاء في هذه (الجريمة) مع هشام بن الحكم فهو شريك في التأليف حول مسألة الإمامة والتي هي السبب والأصل للقول بهذا الافتراء كما تدل عليه نصوص هذه الفرية» (3)، والتي من ثم شاعت في الشيعة الاثني عشرية، وكان أول ظهور لها - كما يرجح القفاري (4) - في أول كتاب ظهر للشيعة - حسب تقديرهم لأسبقية كتبهم -، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي (ت. 90هـ).
وهذا الكتاب الذي خلعوا عليه هذا الثناء والتوثيق لم يصلهم إلا عن طريق رجل واحد فقط، كما يقول ابن النديم (5):«كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور، رواه عنه أبان بن أبي عياش، لم يروه عنه غيره» اهـ.
ولقد كشف عالمهم الغضائري أن الكتاب موضوع، فقال:«والكتاب موضوع لا مرية فيه» (6)، وعند ابن داود قوله (7):«لم يرو عنه إلا أبان بن أبي عياش، وفي الكتاب مناكير مشتهرة، وما أظنه إلا موضوعًا» اهـ.
وسليم بن قيس هذا مجهول لا ذكر له في كتب أهل السنة المعتبرة (8)، في حين أنه قال
(1) التوبة: 40
(2)
ابن حزم: الفِصَل (4/ 139).
(3)
د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 207).
(4)
السابق (1/ 209) بتصرف يسير.
(5)
ابن النديم: الفهرست، ص (275).
(6)
انظر: رجال الحلي، ص (83) القسم الأول، باب سليم.
(7)
انظر: رجال ابن داود، ص (249)، باب سليم بن قيس الهلالي.
(8)
يقول الدكتور القفاري: «رجعت في البحث عنه إلى مصادر كثيرة من كتب أهل السنة فلم أجد له ذكرًا؛ فلم أجده مثلًا في تاريخ الطبري كما يظهر من خلال فهرس الأعلام الذي وضعه أبو الفضل إبراهيم [1322 - 1401هـ]، وكذلك تاريخ ابن الأثير كما يبدو من فهارسه التي وضعها إحسان عباس [ت. 1424هـ] (أو سيف الدين الكاتب)، وليس له ذكر في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي [1032 - 1089هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير، وطبقات ابن سعد، ولا في مجموعة من كتب الرجال مثل: لسان الميزان، أو التاريخ الكبير والصغير للبخاري، أو تهذيب الكمال للمِزِّي [654 - 742هـ] .. إلخ مع أنه مؤلف أول كتاب في الإسلام، ولاحقه الحجاج لقتله .. إلخ، فمن برز في هذين الاتجاهين الفكري، والسياسي يستبعد أن يُنسى، ونسيانه دليل على أن ما تقوله الشيعة عنه مجرد دعوى، فقد يكون شخصية خيالية، أو نكرة من النكرات» اهـ[د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 222) الهامش].
عنه ابن النديم (1): «من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، سليم بن قيس الهلالي، وكان هاربًا من الحجاج لأنه طلبه ليقتله، فلجأ إلى أبان بن أبي عياش فآواه، فلما حضرته الوفاة قال لأبان: "إن لك عليَّ حقًا وقد حضرتني الوفاة يابن أخي، إن كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت"؛ وأعطاه كتابه، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور، رواه عنه أبان بن أبي عياش، لم يروه عنه غيره» ، وقال المجلسي في مقدمة (البحار) (2):«وكتاب سليم بن قيس في غاية الاشتهار، وقد طعن فيه جماعة، والحق أنه من الأصول المعتبرة» اهـ.
كذلك فلقد ترك علماء السنة أبان بن أبي عياش، فقال ابن حجر (3):«متروك» ، وقال الذهبي (4):«قال أحمد بن حنبل: "تركوا حديثه"» اهـ.
وبهذا الحكم كادت أن تموت هذه الروايات، لكن جاء بعد كتاب سليم من تلقف هذه الأساطير، «وقد تولى كبر هذه الفرية ووزر هذا الكفر شيخ الشيعة علي بن إبراهيم القمي [ت. 329هـ]، فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، ونص في مقدمة تفسيره على أنها كثيرة (5)، وبدأت عنده محاولة التطبيق العملي لهذه الخرافة. ويلاحظ أن معظم روايات
(1) ابن النديم: الفهرست، ص (275).
(2)
المجلسي: بحار الأنوار (1/ 32).
(3)
ابن حجر: تقريب التهذيب، ص (87).
(4)
الذهبي: المغني في الضعفاء (1/ 13).
(5)
كقوله على سبيل المثال: «وأما ما هو كان على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]، فقال أبو عبد الله عليه السلام لقارئ هذه الآية:(خير أمة) يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين بن علي عليه السلام؟ فقيل له، وكيف نزلت يابن رسول الله؟ فقال: إنما نزلت (كنتم خير أئمة أخرجت للناس)، ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية {تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}
…
». [انظر: مقدمة تفسير القمي (1/ 10) وما بعدها].
الكليني صاحب الكافي هي عند هذا القمي الذي تلقف هذه الروايات عن كل أفاك أثيم وسجلها في تفسيره الذي يحظى بتقدير الشيعة كلها» (1)،
ولا يزال كتاب الكليني (الكافي)(2)
وتفسير شيخه القمي من مصادر الشيعة المعتمدة إلى اليوم.
يقول القفاري (3): «لقد رأينا معظم كتب الشيعة أنغمست في هذا المستنقع الآسن، وسقطت في تلك الهوة الخطيرة، فما مقدار هذا السقوط وما مستواه؟ هل تلك
(1) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 268 - 9) ..
(2)
إن كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني هو أعظم المصادر الشيعية على الإطلاق، فهو - كما يدعون - موثق من قِبَل الإمام الثاني عشر المعصوم - الوهمي - الذي لا يخطئ ولا يغلط، إذ لما ألف الكليني كتاب الكافي عرضه على الإمام الثاني عشر في سردابه في سامراء، فقال الإمام الثاني عشر:«الكافي كافٍ لشيعتنا» [انظر: مقدمة الكافي، للكليني (1/ 25)]، وقال عباس القمي (1294 - 1359هـ):«الكافي هو أجلّ الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية والذي لم يعمل للإمامية مثله، قال محمد أمين الإسترآبادي (ت. 1033هـ): سمعنا من مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه» اهـ[عباس القمي: الكنى والألقاب (3/ 120)]. ولكن اقرأ معي هذه الأقوال: يقول حسين بن حيدر الكركي العاملي (ت. 1076هـ): «إن كتاب الكافي خمسون كتابًا بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصلة بالأئمة عليهم السلام» [انظر، الخوانساري: روضات الجنات (6/ 107)]، ويقول محمد باقر الخوانساري (ت. 1313هـ):«وقد ينكر كون كتاب الروضة أيضًا من جملة كتب الكليني، من جهة عدم اتصال سندنا إليه أو غير ذلك» [نفسه (6/ 111)]. ويقول أبو جعفر الطوسي: «إن كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتابًا» . [الطوسي: الفهرست، ص (161)] .. وهذا يبين لنا أن ما زيد على الكافي ما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر، عشرون كتابًا وكل كتاب يضم الكثير من الأبواب، أي أن نسبة ما زيد في كتاب الكافي طيلة هذه المدة يبلغ 40% عدا تبديل الروايات وتغيير ألفاظها وحذف فقرات وإضافة أخرى فمن الذي زاد في الكافي عشرين كتابًا؟ أيمكن أن يكون إنسانًا نزيهًا؟؟ وهل هو شخص واحد أم أشخاص كثيرون تتابعوا طيلة هذه القرون على الزيادة والتغيير والتبديل والعبث به؟! وأما زال الكافي موثقًا من قبل المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط؟!
(3)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 268 - 9).
الروايات السوداء والتي وجدت طريقها إلى كتب القوم، وتسللت إلى مراجعهم الحديثية لتكسو من يركن إليها ثوبًا من الخزي والعار، وتسلب من يده آخر علاقة له بالإسلام .. هل تلك الروايات مجرد روايات شاذة مندسة في كتب القوم لم تحظى برضا عقلائهم، ولا قبول محققيهم، وأنها قد تسربت إلى كتب هؤلاء، لأن الكذابين على الأئمة - كما تقول كتب الشيعة - قد كثروا في صفوف الشيعة، وكان التشيع مطية لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله، كما أثبتته الأحداث والوقائع»؟
ولهذا أعلن في القرن الرابع كبير شيوخهم ابن بابويه القمي صاحب (من لا يحضره الفقيه) أحد صحاحهم الأربعة في الحديث والملقب عندهم بـ (الصدوق) والموصوف بأنه (رئيس المحدثين)، أعلن براءة الشيعة من هذه العقيدة (3)، وكذلك الشريف المرتضى (ت. 436هـ) كان ينكر هذه المقالة، وقد نقل إنكاره شيوخ الشيعة كالطوسي (4) والطبرسي [ت. 548هـ](5)، وكذلك استنكر هذه المقالة وصلة الشيعة بها الطوسي
(1) السابق (1/ 276).
(2)
ولقد جاءت عنهم روايات في فضائل القرآن كقولهم عن أبي جعفر عليه السلام: «من قرأ القرآن قائمًا في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأه في صلاته جالسًا كتب الله له بكل حرف خمسين حسنة ومن قرأه في غير صلاته كتب الله له بكل حرف عشر حسنات» [الكليني: الأصول من الكافي (2/ 611)]، وكقوله عليه السلام:«الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة» [نفسه (2/ 603)]، وغير ذلك.
(3)
قال: «اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة
…
ومن نسب إلينا أننا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب» اهـ. [ابن بابويه القمي: الاعتقادات، ص (84)، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن].
(4)
قال أبو جعفر الطوسي: «اعلم أن القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي عليه السلام، بل هو من أكبر المعجزات وأشهرها
…
وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضًا، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أن مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى» اهـ. [تفسير الطوسي (1/ 3) باختصار].
(5)
قال الفضل بن الحسن الطبرسي: «فأما الزيادة فيه [أي القرآن]: فمجمع على بطلانه. وأما النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة، أن في القرآن تغييرًا أو نقصانًا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، قدس الله روحه» اهـ. [تفسير الطبرسي (مجمع البيان في تفسير القرآن) (1/ 42 - 3)].
صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وصاحب كتابين من كتب الرجال الأربعة المعتمدة عندهم، وكذلك الطبرسي صاحب مجمع البيان (1).
ولكن رغم هذا الإنكار من هؤلاء فإن القضية لم تمت، ففي القرن السادس تولى إثارة هذه القضية مرة أخرى الطبرسي صاحب (الاحتجاج) فحشا كتابه الاحتجاج من هذا الكفر (2)، وسطر مجموعة من رواياتهم في ذلك وجاء بها مجردة من كل إسناد، وزعم في مقدمة كتابه أنه لم يذكر إسنادًا في أكثر رواياته لأنها محل إجماع قومه أو مشهورة عندهم، فقال (3):«ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف» اهـ.
يقول القفاري (4): «ويبدو أن إنكار أولئك الأربعة كان له وقعه، أو أن القضية أصبحت سرية التداول، فلم نشاهد نشاطًا ملحوظًا لبعثها وترويجها بشكل ظاهر وكبير إلا في ظل الحكم الصفوي الذي شهد إثارة لهذه الأسطورة واختراع روايات لها، وترويجها أشد مما كان في القرن الثالث [بحكم وجود قوة تسندهم فتخف تكاليف التقية لديهم]، حتى يلاحظ أن هذه الأسطورة التي بدأت بروايتين في كتاب سليم بن قيس أصبحت كما يقول شيخهم نعمة الله الجزائري (5):"إن الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث". كما أنه يضع أساطيره، وكتاب الله سبحانه في كفة ميزان ويرى أن القول بسلامة القرآن يؤدي إلى انعدام الثقة في أخبارهم، فيقول - وهو يرد على شيوخهم
(1) وقد نقلنا قولهما في المسألة.
(2)
وقد تقدم ذكر روايته الشهيرة.
(3)
انظر: مقدمة (الاحتجاج)، للطبرسي (1/ 10).
(4)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 232، 272) بتصرف.
(5)
انظر قوله في: فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، للنوري طبرسي، ورقة (125)، ص (251)، مخطوط.
المتقدمين في قولهم بتواتر القراءات السبع - (1): "إن تسليم تواترها عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا، مع أن أصحابنا رضوان الله عليهم قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها"».
ولقد تبنى الترويج لهذه الفرية وإثارة هذه الأسطورة عدد كبير من أئمتهم (الثقات)؛ نذكر على سبيل المثال قول الفيض الكاشاني (1007 - 1091هـ)(2): «وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك، فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي (3)، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي رحمه الله فإن تفسيره مملوّ منه وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي رضي الله عنه، فإنه أيضا نسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج. وأما الشيخ أبو علي الطبرسي فإنه قال في مجمع البيان: أما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرًا ونقصانًا
…
أقول: لقائل أن يقول كما أن الدواعي كانت متوفرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوفرة على تغييره من المنافقين المبدلين للوصية المغيرين للخلافة لتضمنه ما يضاد رأيهم وهواهم، والتغيير فيه إن وقع فإنما وقع قبل انتشاره في البلدان واستقراره على ما هو عليه الآن، والضبط الشديد إنما كان بعد ذلك.
فلا تنافي بينهما بل لقائل أن يقول إنه ما تغير في نفسه وإنما التغيير في كتاباتهم إياه وتلفظهم به فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل، وبقي الأصل على ما هو عليه عند أهله وهم
(1) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 357).
(2)
محمد محسن بن مرتضى (الفيض الكاشاني): تفسير الصافي (1/ 52 - 4) باختصار.
(3)
عقد الكليني بابًا في (أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون علمه كله)، روى فيه عن أبي جعفر عليه السلام قوله:«ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام» . [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 228)].
العلماء به، فما هو عند العلماء به ليس بمحرف، وإنما المحرف ما أظهروه لأتباعهم» اهـ.
ولقد شهد شيخهم المفيد - الملقب بركن الإسلام وآية الله الملك العلام - باستفاضة هذه الروايات القائلة بوقوع التحريف فقال (1): «أقول إن الأخبار جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان» .
بل ولقد تواتر الخبر عندهم حتى قال شيخهم المجلسي (2): «كثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسًا، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر» .
ويأتي من بعده تلميذه أبو الحسن الشريف الفتوني العاملي (1070 - 1138هـ) فيقضي بأن القول بالتحريف من ضروريات مذهب التشيع، فيقول (3):«وعندي في وضوح صحة هذا القول [أي تحريف القرآن] بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة» اهـ.
وقال الخوئي - وهو أحد معاصريهم - (ت. 1413هـ)(4): «النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل، قد وقع في صدر الإسلام وفي زمان الصحابة قطعًا، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف خلاف ما جمعه» (5).
(1) المفيد: أوائل المقالات، ص (80)، باب القول في تأليف القرآن وما ذكر قوم من الزيادة فيه والنقصان.
(2)
المجلسي: مرآة العقول (12/ 525).
(3)
أبو الحسن الشريف الفتوني: مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، ص (34)، المقدمة الثانية، الفصل الرابع.
(4)
أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن، ص (198) باختصار، قوله في صيانة القرآن من التحريف.
(5)
ولعل مثل هذا الفحش من القول هو الذي فتح الباب للأنبا بيشوي المصري وأتاح له فرصة التبجح وإثارة الشكوك بقوله الذي لم يُعتذَر عنه: «هل قيلت عبارة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ} أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي، وجعله تحريريًا لمجرد وضع شيء ضد المسيحية؟» ، وكأنه قد آمن من قبل بما نُزِّل على محمد صلى الله عليه وسلم!! [انظر نص كلامه في جريدة (المصري اليوم)، عدد الخميس 23/ 9/2010م، ص (6)، خبر تحت عنوان: الأنبا بيشوي يدعو لمراجعة آيات قرآنية تتهم المسيحيين بالكفر].
سبحانك هذا بهتان عظيم!
قال ابن العربي (2): «وأما جمع القرآن فتلك حسنته العظمى، وخصلته الكبرى، وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه» اهـ (3).
بل في آخر القرن الثالث عشر الهجري وقعت الفضيحة الكبرى للشيعة في هذا الباب، فقد ألف شيخ الشيعة ومحدثها، وخبير رجالها، وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية (مستدرك الوسائل) وأستاذ كثير من شيوخهم المعتبرين كمحمد حسين آل كاشف الغطاء، وآغا بزرك الطهراني (1293 - 1389هـ) وغيرهما .. شيخ الشيعة، المدفون بأقدس البقاع عندهم (4)، المرحوم (5)، حسين النوري الطبرسي، ألف كتابه: (فصل
(1) الخميني: كشف الأسرار، ص (131).
(2)
ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (66) باختصار.
(3)
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
(4)
يذكر محب الدين الخطيب رحمه الله أن الطبرسي مدفون «في بناء المشهد المرتضوي بالنجف في إيواء حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين الله [553 - 622هـ]، وهو ديوان الحجرة القبلية عن يمين الداخل إلى الصحن المرتضوي من باب القبلة في النجف الأشرف بأقدس البقاع عندهم» . [انظر، محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة، ص (11)].
(5)
كذا يذكره الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية)، حينما يخرج له بعض الأحاديث، فيقول:«وقد رواه المرحوم النوري في كتاب مستدرك الوسائل» . [انظره، ص (67) الهامش].
الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)، والذي شحنه بمئات النصوص والنقول عن كبار طواغيتهم بدعوى أن القرآن محرف. وقد ارتكب جناية تأليفه سنة 1292هـ بالنجف وطبع في إيران سنة 1298هـ.
وزعم فيه أن من جملة ما أُسقِط من القرآن سورة سماها (سورة الولاية) تذكر فضائل آل البيت، وينقل عن صاحب كتاب (دبستان مذاهب) (4) قوله:«بعد ذكر عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون إن عثمان أحرق المصاحف وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة» ، ثم يذكر سورة الولاية المزعومة بطولها، ثم يقول:«قلت: ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثرًا فيها غير أن الشيخ محمد بن علي بن شهراشوب المازندران ذكر في كتاب (المثالب) (5) على ما حكي عنه أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة، والله العالم» اهـ (6).
ولقد أورد الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله في (الخطوط العريضة) صورة ضوئية
(1) النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (1)، ص (2)، مخطوط.
(2)
يقول محمد حبيب في كتابه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، عرض ونقد): «قوله: "العبد المذنب"، أقول: صدق المؤلف الكذاب في هذه، وادعاء تحريف القرآن كفر، والكفر ذنب!» . [انظره، ص (101) الهامش].
(3)
قال لي الأستاذ أحمد محمود الرواشي تعليقًا: «لعل المؤلف الدجَّال يقصد بكتابه ذاك القرآن المعدوم مع الإمام الموهوم ومهديهم المزعوم الذي اختلفوا فيه بين قائلٍ بأنه من عقِب الحسن العسكري، وقائل بأن الحسن لم يكن له عقب!!» اهـ.
(4)
وهو الفارسي محسن فاني الكشميري.
(5)
يقصد كتاب (مثالب النواصب)، وهو كتاب لابن شهراشوب المازندراني (ت. 588هـ).
(6)
النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (90)، ص (180 - 1)، مخطوط.
لسورة الولاية المزعومة، وقال في تعليقه (1):«وقد اطلع الثقة المأمون الأستاذ محمد علي سعودي - الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد عبده [1266 - 1323هـ]- على مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق براين (2)، فنقل منه السورة المنشورة بالفوتوغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية» اهـ.
يقول القفاري (3): «لعل القارئ يدرك محاولة هذا الطبرسي لأن يجعل الشيعة منذ نشأتها كانت على مذهبه، وأن مخالفة هذا المذهب كانت طارئة» ، ثم يقول (4):«هناك - بلا شك - فئة من الشيعة لم تعد تهضم هذا المعتقد وقد كثر أتباعهم، ولهؤلاء - فيما يظهر - ألف صاحب (فصل الخطاب) كتابه ليردهم عن هذا الطريق الذي سلكوه، ويرفع عنهم تلك العماوة التي غشيتهم في نظره ويقول إن الدليل أحق أن يتبع وإن لم يذهب إليه أحد، وكأنه استوحش من مذهبه، والكفر كهف موحش مخيف، وخاف تقلص أتباعه واندراس أشياعه فراح يدعو إلى عدم الوحشة عند القلة فهي في نظره عنوان الحق على هذا القول» ، حتى إنه قال معلقًا على كلام بعضهم (5):«ليس لداء قلة التتبع دواء إلا تعب المراجعة» .
ولكن الملاحظ أن من عارض القول بالتحريف لم تسلم كتبه من إيراد مثل هذه الأساطير، كما جاء على سبيل المثال في كتاب (ثواب الأعمال) لشيخهم ابن بابويه القمي (الصدوق)، في ثواب من قرأ سورة الأحزاب، قوله: «عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد صلى الله عليه وآله وأزواجه، ثم قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يا ابن سنان، إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة
(1) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة، ص (12).
(2)
لم أقف على ترجمته في المراجع المتاحة.
(3)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 276).
(4)
السابق (1/ 281).
(5)
النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (84)، ص (169)، مخطوط.
ولكن نقصوها وحرفوها» (1)، فهل نفيهم لهذه الفرية يحمل على أنه تقية كما قال الجزائري (2):«والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها» ، أم أن مثل هذه النصوص هي من آثار الدس والزيادة على كتبهم، لا سيما وهو أمر ميسور عندهم؟
ولقد أجاب الدكتور ناصر القفاري بقوله (3): «إن مسألة التقية من أماراتها التناقض والاختلاف، ولكن التناقض صار قاعدة مطردة في رواياتهم، بل وجد مثل ذلك في إجماعاتهم، كما وجد في كلام شيوخهم، وأصبح معرفة حقيقة المذهب ليست متيسرة حتى على شيوخهم الذين لا يجدون دليلًا على التمييز بين ما هو تقية وما هو حقيقة إلا بالاستناد إلى أصل وضعه زنديق ملحد وهو قولهم:"إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم"(4)، يعني أهل السنة، فأوشك أن ينتهي بهم هذا المذهب إلى مفارقة الدين رأسًا. وعليه فإن قضية الاختلاف هي ظاهرة طبيعية لكل دين ليس من شرع الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (5): فهو (6) حينما ينقل رواياتهم في كتبه فمن الطبيعي وجود مثل هذا الاختلاف، وبالتالي فإنه لا يدين الرجل إدانة أكيدة بعد إنكاره ولا سيما أن العبرة بالنسبة لبيان مذهبه بما رأى لا بما روى
…
»، إلى أن قال (7):«فإذا كان هذا أمر شيوخهم لا يكادون يقفون على حقيقة مذهب أئمتهم وشيوخهم القدامى بسبب أمر التقية فنحن أعذر في عدم الوصول إلى نتيجة جازمة يقينية» اهـ.
(1) ابن بابويه القمي: ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص (110).
(2)
نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 358).
(3)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 290).
(4)
المجلسي: بحار الأنوار (2/ 235).
(5)
النساء: 82
(6)
والكلام هنا في سياق حديثه عن أبي جعفر الطوسي وإنكاره للتحريف.
(7)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 292).