الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنفى لأنه إن استمر في البقاء فيه سيندمج وينصهر ولأن هُويته الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا في أرضه، داخل دولة يهودية خالصة تكون بمنزلة مركز روحي وثقافي ليهود العالم.
- أما إذا كان اليهودي المخاطَب ليبراليًا ديمقراطيًا، فالشعب اليهودي يُنقَل لأنه شعب ليبرالي عادي يود أن يكون مثل كل الشعوب، خصوصًا الشعوب الغربية، وهو يُنقَل ليؤسس دولة ديمقراطية عَلْمانية تسودها القيم الليبرالية الغربية.
وآليات نقل اليهود ليست الاستعمار الغربي أو العنف والإرهاب وإنما هي "القانون الدولي العام" متمثلًا في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية الليبرالية العَلْمانية)، أو "تنفيذًا للوعد الإلهي مع الإله"(في الصياغة الدينية)، أو بسبب "قوة اليهود الذاتية"(في الصياغة الداروينية)» اهـ.
نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي:
لو أردنا إلقاء نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي، فسنلاحظ صعود نجم الحريديم، وذلك رغم تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث يشير إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي إلى أن «الخط الفاصل بين اليهود التقليديين واليهود العَلْمانيين في الغالب يفتقد الوضوح، ولكن تشير الدراسات إلى أن 25% إلى 30% من اليهود الإسرائيليين هم من العَلْمانيين، و50 إلى 55% من التقليديين، وحوالي 20% متدينين» (1).
وقد قدَّم هارولد فيش Harold Fisch أستاذ الأدب الإنجليزي - وهو أحد أهم منظِّري الصهيونية الإثنية الدينية الجدد، الذي هاجر إلى إسرائيل عام 1958م حيث درَّس في جامعة بار-إيلان وأسَّس معهد اليهودية والفكر الحديث - قدَّم تفسيرًا [مطوَّلًا] لهذه الظاهرة (2)، ولقد علَّق عليه الدكتور المسيري فقال (3):
(1) شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 37 - 8)، وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1999م.
(2)
للاطلاع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2/ 436 - 9).
(3)
السابق (2/ 439).
«
…
لكل هذا، بدأت المؤسسات الدينية الصهيونية تطرح نفسها كبديل، وتبدي استعدادها للإمساك بزمام القيادة، ولم تَعُد تقنع بدور الشريك الضعيف. وعلى كلٍّ .. إذا كانت إسرائيل دولة حقًا كما تدَّعي، فمن أحق بالحديث باسمها وإدارتها من المتدينين الصهاينة، الذين يرفعون لواء الدين القومي والقومية الدينية، ويُعرِّفون اليهودي تعريفًا يحل مشكلة المعنى بالنسبة له، ويسوِّغ وجوده في فلسطين في خط النار داخل الحروب المتكررة (فالشعب المختار - حسب تفسيرهم - شعب كُتبت عليه مجابهة الأغيار، ولا يمكن أن يقنع بالحياة الرخوة الهينة التي يبشر بها اللادينيون)؟!» اهـ.
وكما كانت حرب 1967م - كما يذكر إيان لوستك - (1) هي «الحافز المباشر لنشوء الأصولية اليهودية المعاصرة» ، فيُعتبر الحاخام الأشكنازي إبراهام إسحاق كوك Abraham Isaac Kook (1865 - 1935 م) هو «الشخصية المحورية لهذا التحول الرئيسي في التأويل التقليدي لليهودية» (2).
ونترك الصفحات التالية لإسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي ليحدثانا عن تاريخ صعود الحركة الأصولية اليهودية المعاصرة ..
(1) إيان لوستك: الأصولية اليهودية في إسرائيل، ص (26).
(2)
مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (189).
(3)
شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 33 - 4).
ويستكمل الكاتبان حديثهما فيقولان (1): «قام الحاخام إبراهام إسحاق كوك، الذي كان رئيس الحاخامات في فلسطين وأبرز الحاخامات المؤيدين للصهيونية، بابتكار هذه الأيديولوچية في أوائل العشرينيات وقام بتطويرها بعد ذلك، وكان الحاخام الأكبر كوك، كما كانوا يطلقون عليه، مؤلِّفًا غزير الإنتاج، واعتبره أتباعه ملهمًا من قِبَل الله. وبعد وفاته في عام 1935م وصل إلى مرتبة القديس في أوساط الحزب الديني القومي، كما وصل أيضًا ابنه وخليفته في زعامة الحزب الحاخام تسِفي يهودا كوك الأصغر Tzevi Yehuda Kook [1891 - 1981 م] إلى منزلة القداسة.
وفي أوائل عام 1974م، وفور صدمة حرب أكتوبر 1973م، وقبل وقت قليل من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع سوريا، قام أتباع الحاخام كوك مع مباركة وإرشاد زعيمهم الروحي بتأسيس جماعة جوش إيمونيم Gush Emunim (أي جماعة المؤمنين). وكانت أهداف جوش إيمونيم تتمثل في بناء مستوطنات جديدة والتوسع فيما هو موجود من المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة. وبمساعدة شيمون پيريز Shimon Peres، الذي أصبح في صيف 1974م وزيرًا للدفاع والشخص المسئول عن الأراضي المحتلة، نجحت جوش إيمونيم في وقت قصير بلغ بضع سنوات في تغيير سياسة الاستيطان الإسرائيلية. والمستوطنات اليهودية، التي تواصل الانتشار عبر الضفة الغربية واحتلال جانب كبير من قطاع غزة، تقدم شهادة حية ودليلًا بينًا على نفوذ جوش إيمونيم داخل المجتمع الإسرائيلي وعلى السياسات الحكومية الإسرائيلية.
وتعتبر كتابات الحاخام كوك الأكبر نصوصًا مقدسة، وربما تكون أكثر غموضًا حتى من كتابات القبَّالاه الأخرى، والمعرفة المتعمقة بالكتابات التلمودية وكتابات القبَّالاه، بما في ذلك التفسيرات المعاصرة لكلتيهما، وكذلك الممارسة الخاصة، تعتبر شروطًا أساسية لفهم كتابات كوك.
ولقد قام أتباع الحاخامين كوك (الأب والابن) بتطبيق المفاهيم على الحروب الإسرائيلية؛ فقام أحدهم، على سبيل المثال، بالإشارة إلى أن حرب 1967م كانت
(1) السابق (2/ 35 - 61) باختصار.
(تحولًا ميتافيزيقيًا)، وأن الانتصارات الإسرائيلية حولت الأرض من قوة للشيطان إلى دائرة إلهية. وهذا يثبت أن (الحقبة المسيانية) جاءت.
لم يشتق واضعو أيديولوچيات جوش إيمونيم، وخاصة الحاخام كوك الأكبر، أفكارهم فقط من التقاليد اليهودية، ولكنهم أيضًا كانوا مبدعين. والكيفية التي قاموا بها بتطوير المفهوم الخاص بالمسيح هي خير دليل على ذلك؛ فلقد تنبأ الكتاب المقدس بمسيح واحد فقط، أما التصوف اليهودي فقد تنبأ بمسيحَين، فتبعًا للقبَّالاه تختلف شخصية كل مسيح منهما عن الآخر، فالمسيح الأول، وهو شخصية عسكرية يطلق عليها (ابن يوسف)، سوف يمهد الطريق للخلاص، أما المسيح الثاني الذي يكون شخصية روحية ويطلق عليه (ابن داود)، فهو الذي يخلص العالم من خلال صناعة المعجزات المرئية للناظرين. ويؤمن أتباع جوش إيمونيم بأن المعجزات تحدث في أزمنة مختلفة. وتشير القبَّالاه إلى أن المسيحَين سوف يكونان فردَين. أما الحاخام كوك الأكبر فإنه بدَّل هذه الفكرة من خلال توقعه والدفاع عن فكرة تقول "بأن المسيح الأول سوف يكون شخصية جماعية (أو أشخاصًا متعددين) "، وهو يقصد بذلك شعب إسرائيل كله! ويطلق الحاخام كوك على مجموعة أتباعه اسم (أبناء يوسف). ويواصل زعماء جوش إيمونيم، على طريق الحاخام كوك الأكبر، اعتبار حاخاماتهم - وربما كل الأتباع أيضًا، تجسيدًا على الأقل لأحد المسيحَين المتنبأ بظهورهما. ويؤمن أعضاء جوش إيمونيم بأن هذه الفكرة يجب ألا يكشف عنها للغرباء. كما يؤمنون أيضًا بأن طائفتهم معصومة من الخطأ؛ بسبب الإرشاد الإلهي المعصوم الذي يقود خطاها.
وقد اشتق الحاخام كوك هذا المفهوم من نبوءة الكتاب المقدس التي تقول إن المسيح (الآتي بالخلاص) سوف يكون "راكبًا على حمار، وعلى جحش بن أتان"(1). اعتبرت القبَّالاه هذه الآية دليلًا على وجود مسيحَين، أحدهما يركب على حمار والآخر على جحش. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: كيف يمكن للمسيح الجماعي (أي الذي هو
(1) زكريا 9: 9
عبارة عن مجموعة من الأشخاص) أن يركب على حمار واحد؟ أجاب كوك عن السؤال بالقول بأن الحمار هو اليهود الذين يفتقرون إلى الحكمة والإيمان الصحيح (1). وافترض كوك أن المسيح الجماعي سوف يمتطي هؤلاء اليهود، وهذا يعني أن المسيح سوف يستغلهم من أجل مكاسب مادية وسوف يخلصهم إلى المدى الذي يمكن أن يخلصوا به.
وفكرة الخلاص عبر الاتصال بشخصية روحانية قادرة كانت دائمًا موضوعًا شائعًا عبر كل أنواع حركات التصوف اليهودي. وهذا ينطبق ليس فقط على البشر وآثامهم ولكن أيضًا على الحيوانات والجماد. وفي إسرائيل، تحتوي الكتب الشعبية للأطفال المتدينين على الكثير من القصص التي تعبر عن هذه النقطة، وإحدى القصص الأكثر شيوعًا تتحدث عن بطة برية فاضلة تم اصطيادها وذبحها وتحويلها إلى طبق شهي لكي يتناوله حاخام مقدس، فهذه البطة تعتبر قد تم تخليصها من خلال أكلها بواسطة رجل مقدس.
ويطبق أعضاء جوش إيمونيم هذا المذهب على الصراع على الأرض المقدسة. فيزعمون أن ما يبدو في ظاهره مصادرة للأرض المملوكة للعرب من أجل إقامة مستوطنات يهودية عليها، ليس عملًا من أعمال السرقة ولكنه تطهير لها من الخطيئة، ومن خلال هذا المنظور فإن الأرض يتم تخليصها من خلال نقلها من الدائرة الشيطانية إلى الدائرة الإلهية.
ويؤمن أتباع جوش إيمونيم بأنه طالما لديهم الحق في الوصول للحقيقة الكاملة والوحيدة على نحو يفوق بقية اليهود فهم أفضل منهم، ويعتقد حاخامات جوش إيمونيم فيما يلي بالنسبة للحمار المسياني: نظرًا لرتبته المتواضعة في ترتيب الكائنات، فإن الحمار يجب أن يظل غافلًا عن الهدف النبيل لراكبه الملهم. وهذا هو الحال على الرغم من أن الحمار يفوق راكبه في الحجم والقوة، والراكب الإلهي في هذا السياق يقود الحمار نحو خلاصه.
(1) وسبحان الله العظيم القائل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 9].
وبسبب هدفه النبيل، فإن الراكب يمكنه أن يركل الحمار أثناء الرحلة من أجل التأكد من أن الحمار لا ينحرف عن الدرب المقدَّر. وبنفس الطريقة يؤكد حاخامات جوش إيمونيم أن هذه الطائفة المسيانية يجب عليها أن تعامل وتقود اليهود مثل الحمار، والذين أفسدتهم الحضارة الغربية الشيطانية بعقلانيتها وديمقراطيتها، والذين يرفضون التخلي عن عاداتها البهيمية واعتناق الإيمان الحقيقي. ومن أجل ذلك فإن استخدام القوة أمر جائز إذا اقتضت الضرورة» اهـ.
طالما سعت الأحزاب الدينية في السيطرة على شئون البلاد الداخلية، حتى يذكر إسرائيل شاحاك أن الحزب الديني القومي قام باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء لمعرفة من منهم ينتهك التعاليم الدينية اليهودية، واستمر هذا التجسس بينما كانت حكومتا رابين وپيريز في السلطة، وقام رابين Yitzhak Rabin [1922 - 1995 م] وپيريز أثناء وجودهما في السلطة بالحصول على نتائج التحريات السرية واستمرا في محاولة جعل وزرائهما لا ينتهكون أية شرائع دينية علنًا (1).
ولقد حظي الطلب الحريدي بجعل الهالاخاه قانونًا لدولة إسرائيل في السنوات الحديثة بدعم متزايد من قبل الأعضاء الأكثر ورعًا من الحزب الديني القومي. وخصائص هذا الطلب نوجزها على النحو التالي:
- إن السلطة السياسية لله يجب الاعتراف بها رسميًا وقضائيًا. والحاخامات المرسومون، الذين هم وكلاء الله المعتمدون، يجب أن يكونوا أصحاب القرار.
- يجب على الحاخامات أن يشرفوا على كل المؤسسات الاجتماعية وأن يفصلوا في كل المسائل وأن يصدروا القرارات المتعلقة بالخدمات الاجتماعية ولهم الحظر على أي من المواد المطبوعة والمسموعة والمرئية.
- كل التكاليف الدينية الخاصة بيوم السبت، والواجبات الدينية الأخرى، والفصل بين النساء والرجال في الأماكن العامة، واحتشام المرأة في سلوكها وملبسها يجب أن تطبق بواسطة القانون. يجب على الأفراد أن يكونوا ملزمين تبعًا للقانون بالإبلاغ عن كل
(1) انظر، شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 95).
الانتهاكات التي يلاحظونها إلى السلطات الحاخامية (1).
يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (2): «ويبدو أن الدولة اليهودية حريصة على تشجيع هؤلاء المتدينين بما يعينهم على التفرغ لمهامهم الدينية؛ فهناك الآن 60% من المتدينين غير منشغلين بعمل ويتلقون نفقاتهم من الدولة في مقابل 12% من العَلْمانيين، والدولة تنفق 116 ألف شيكل على الطالب المتدين في مقابل 3600 شيكل على الطالب العَلْماني. وهناك 62% من المتدينين يتلقون إعفاءات ضريبية من الدولة في مقابل 10% من العَلْمانيين» اهـ.
ومما يعد لافتًا للنظر، ذلك التنظيم الإرهابي اليهودي الأرثوذكسي المسمى (يد للأخوة/يد لاحيم Yad L'Achim)، الذي يرأسه حاليًا الحاخام شالوم ليفشيتس Shalom Dov Lifshitz، والذي تأسس سنة 1950م بهدف تعليم المهاجرين اليهود الجدد إلى إسرائيل التعاليم اليهودية الأرثوذكسية، ثم صب جل اهتمامه على مكافحة ظاهرة اعتناق اليهود لديانات أخرى خاصة الإسلام والنصرانية، وإكراه اليهود العَلْمانيين على الالتزام باليهودية، بل ومكافحة زواج الإسرائيليات من العرب كذلك. ويلجأ التنظيم للعنف المسلح، والخطف والتعذيب، وله شعار موجه للمسلمين والمسيحيين، عبارة عن ذراع يهودية تحمل لوحي التوراة، ومكتوب أسفلهما بخط بارز:«لن نفرط في يهودي واحد» ، ويقوم بتوزيع منشورات في الشوارع تحمل أرقام هواتف تدعو للإبلاغ عن أي يهودي ارتد عن دينه.
وعلى الرغم من أن تقرير الحالة الدينية الأمريكي اتهم (يد للأخوة) بممارسة الإرهاب والإكراه الديني والعنف المسلح ضد مخالفيهم في العقيدة اعتبارًا من 1998م فصاعدًا، فإن اللوبي اليهودي في الكونجرس نجح في رفع اسم التنظيم من تقرير الحالة الدينية الأمريكي اعتبارًا من 2001م حتى اليوم (3).
(1) انظر السابق (1/ 110 - 1).
(2)
د. عبد العزيز مصطفى كامل: حُمَّى سنة 2000، ص (130 - 1)، نقلًا عن جريدة (الحياة) 21/ 2/1999م.
(3)
انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Yad L'Achim، والتقرير المنشور بجريدة (المصري اليوم)، عدد الخميس 13/ 5/2010م، ص (12)، بعنوان: تنظيم يهودي يطارد المتحولين للإسلام والمسيحية في إسرائيل، إعداد محمد عبود، الصحافي الباحث في الشئون الإسرائيلية.