الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الماضي أبدًا
…
وليس الاتحاد الأوروپي بالذات إلا النتاج الذي أفرزه قرن مرعب من الحروب الأوروپية» (1).
لذا، فإن وجهتي النظر المختلفتين هاتين، بين أمريكا وأوروپابالتحديد، ما لبثتا - بطبيعة الحال - أن «تمخضتا عن تقويمات متباينة للتهديدات وللوسائل المناسبة للتعامل معها، وعن حسابات مختلفة للمصالح، وآراء متغيرة حول قيمة القانون الدولي ومغزى المؤسسات الدولية» اهـ (2).
الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد:
من المعلوم أن النظام الدولي القديم الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كان يستند إلى قطبية ثنائية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم المعسكر الرأسمالي الغربي، والاتحاد السوفييتي الذي كان يتزعم المعسكر الاشتراكي، وقد تأرجح هذا النظام ما بين الحرب الباردة، والتعايش السلمي والوفاق، وشكلت مناطق العالم الثالث في ظله ساحات للتنافس والمواجهة بين القطبين.
ولكن التحولات التي شهدها الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان أوروپاالشرقية منذ منتصف الثمانينات، والتي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، وانهيار الأحزاب الشيوعية في تلك الدول وقيامها بتبني التعددية السياسية، وأشكال من الديمقراطية الليبرالية (3) والاقتصاد الحر على الصعيد الداخلي، واتجاهها نحو الانفتاح على المعسكر الغربي والانخراط في الاقتصاد العالمي على الصعيد الخارجي، هذه التحولات وضعت النهاية للنظام الدولي القديم، وأسهمت ضمن عوامل ومتغيرات أخرى في وضع الأساس لبروز نظام عالمي جديد. وكان من الطبيعي أن تقود الولايات المتحدة
(1) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (65).
(2)
السابق، ص (16).
(3)
الليبرالية Liberalism: مصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (ليبراليس Liberalis) ويعني (الحرية). والليبرالية مذهب اجتماعي سياسي داخل المجتمع يهدف إلى تحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة: (السياسية والاقتصادية والثقافية).
الأمريكية هذا النظام الجديد؛ إذ أضحت القوة العالمية الأبرز في هذه المرحلة من تطور النظام العالمي (1).
كان النظام العالمي الجديد - ببساطة شديدة - هو نظام المنتصر، وكل منتصر في حرب كبرى كان يفرض نظامه الذي يبتغي تدويله ويعتبره (جديدًا). وكان هذا النظام يبقى ما بقي سيده قادرًا على فرضه وتثبيت أركانه (2).
لكن ثمة مشكلة باتت تهدد القيادة الأمريكية لهذا النظام العالمي الجديد، يلخصها الباحث محمد سيف حيدر النقيد في قوله (3): «خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين، سادت الساحة الأمريكية حالة من الارتباك الفكري و (فقدان اليقين النظري) بشأن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى مهيمنة. وعلى الرغم من حالة التآكل التي كانت تعيشها الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي - قبل انهياره في عام 1991م -، فإن ثمة أطروحات ودراسات قد أخذت في الرواج والانتشار تؤكد تراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة، وتتنبأ بانحطاط القوة الأمريكية العظمى وانهيارها الحتمي.
في هذا الجو الملبد بغيوم (التشاؤمية الثقافية) - بحسب تعبير المؤرخ الأمريكي آرثر هيرمان Arthur Herman -، نشرت مجلة (ذي واشنطن كوارترلي The Washington Quarterly) الرصينة في شتاء 1990م مقالة لافتة للانتباه لجريجوري فوستر Gregory Foster (4) ، وهو أحد الباحثين الاستراتيچيين الأمريكيين، شكا فيها أن الأبحاث الاستراتيچية الأمريكية ذات منهج محدود؛ إنه منهج تجريبي وپراجماتي Pragmatic (5) وبلا نظرية، ولا يخرج عن إطار الخبرة في
(1) محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، وموقعها في إطار توجهات السياسة الأمريكية في ظل النظام العالمي الجديد، ص (46).
(2)
السابق، ص (27).
(3)
السابق، ص (7 - 8، 12) باختصار.
(4)
Gregory Foster: A Conceptual Foundation for a Theory of Strategy، The Washington Quarterly، Winter 1990
(5)
أي نفعي أو ذرائعي، يراعي غاية الشيء وثمرته دون مراعاة الأيديولوچيا أو الاعتبارات النظرية الأخرى، أي ببساطة:(الذي تغلب به العب به).
(إدارة الأزمات) وعن خطط السياسات اليومية والمرحلية. وانطلاقًا من هذا النقد، دعا فوستر إلى إبداع نظرية جديدة للاستراتيچية الأمريكية، نظرية مؤسسة على المفاهيم الفلسفية.
ولم يمض وقت طويل (أقل من عامين)، حتى ظهرت، أو بتعبير أكثر دقة، تبلورت النظرية التي طالب بها فوستر. ووسط مظاهر الدهشة والذهول وعدم القدرة على التنظير، ثمة حجر كبير يقذف في بركة الفكر الأمريكي الراكدة، وفي مستنقع الأيديولوچيات التقليدية البالية.
ففي عام 1992م، أصدر المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية، فرانسيس فوكوياما، كتابه الذائع الصيت (نهاية التاريخ وخاتم البشر The End of History and the Last Man)، الذي طور فيه أفكاره النظرية حول (نهاية التاريخ)، التي سبق أن وضع خطوطها الأولى في صيف عام 1989م في مقالة شهيرة حملت ذات العنوان ولكن بصيغة تساؤلية حذرة، نشرتها مجلة (ذي ناشيونال إنترست) اليمينية المعروفة (1)، وما هي إلا أشهر قليلة حتى أصبح الكتاب (إنجيل) المجتمع الأمريكي المثقف.
ورغم أن فكرة نهاية التاريخ لم تكن فكرة جديدة وخصوصًا في الساحة العقائدية والفكرية والفلسفية، فإن الوضع العالمي في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، ساهم بقوة في إذكاء الجدل حولها
…
وقد لوحظ في هذا الصدد أن المرحلة التاريخية التي تُستَقبل فيها الأفكار هي التي تعطيها وزنًا تفاعليًا أو تواصليًا» اهـ.
ولو استعرضنا سريعًا أصول هذه النظرية، والتي صيغت كما عبَّر البعض (بروح انتصارية)، نذكر أن «نقطة انطلاق فوكوياما تذهب إلى ما يمكن أن يُسمَّى بـ (التفسير المادي للتاريخ في صورته الرأسمالية)؛ فإنه يرى إمكان أن يجري تفسير التطور في التاريخ جزئيًا، بناء على أساس اقتصادي، أي أن العامل الاقتصادي هو أحد المحركات الرئيسية في التطور التاريخي. ولكن هذا التطور يؤدي إلى الرأسمالية بدلًا من الاشتراكية بالنتيجة النهائية. وبهذا يوجد للتاريخ نهاية، ونهاية التاريخ هي الليبرالية الديمقراطية في
(1) Francis Fukuyama: The End of History?، The National Interest، vol. 16، Summer 1989
السياسة الرأسمالية في الاقتصاد، ويشكل هذان معًا وجهتين لنظام واحد، والتاريخ له نهاية ليس كسلسلة من الأحداث، إذ إن وقوع الأحداث بالطبع سيستمر في التاريخ، وإنما التاريخ له "صيرورة واحدة مستمرة تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى، إلى أن تصل غايتها ونهايتها". ونهاية التاريخ هي النظام الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي» (1).
وكما أن للتاريخ خاتمة أو نهاية، فإن الإنسان الذي يعيش في هذه المرحلة النهائية يعد بمثابة (خاتم البشر)، وخاتم البشر - في نظر فوكوياما - هو ذلك الرجل الذي يصفه فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844 - 1900 م) بـ «العبد الظافر» (2)، أي الإنسان المنتصر، الذي ينعم بالحياة في ظل الديمقراطية الليبرالية.
وإلى أن تنتشر هذه الصورة النهائية للتاريخ، فإن العالم في نظر فوكوياما سوف ينقسم في المستقبل المرئي إلى «شطر قد تخطى التاريخ، وشطر لا يزال غارقًا في التاريخ» (3).
يقول فوكوياما في خاتمة كتابه (4): «لن تكون البشرية عندئذ ألف زهرة تتفتح في صور وأشكال متباينة، وإنما ستكون بمثابة قافلة طويلة من عربات متشابهة. قد يتجه بعض هذه العربات صوب المدينة في حركة حادة مفاجئة، وقد يعود بعضها إلى الصحراء، وقد تتعطل عجلات بعضها أثناء صعودها الجبل. وقد يهاجم الهنود الحمر عدة عربات فيشعلون فيها النار ويهجرها ركابها في الطريق. وقد تُذهِل المعركة عددًا من الركاب، فيفقدوا كل إحساس بوجهتهم، ويتجهوا - مؤقتًا - في الطريق الخطأ. وقد تتعب عربة أو عربتان من الرحلة فيقرر ركابها الإقامة الدائمة في معسكرات في نقط معينة من الطريق. وقد يجد آخرون طرقًا بديلة إلى الطريق الرئيس، رغم أنهم سيكتشفون أنهم من أجل اجتياز السلسلة الأخيرة من الجبال عليهم أن يستخدموا نفس النفق الذي سيستخدمه غيرهم. غير أن الغالبية العظمى من العربات ستمضي في رحلتها البطيئة إلى المدينة،
(1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (36) باختصار وتصرف يسير.
(2)
انظر، فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص (263).
(3)
السابق، ص (242).
(4)
السابق، ص (293 - 4).