الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي:
تقدم الغلام الأوروپي الأرعن بجيوشه ليقسِّموا التركة فيما بينهم قسمة ما أنزل الله بها من سلطان، ناثرين بذور الصهيونية الخبيثة في الأرض المقدسة الطاهرة، آملين في إنهاء مسألتهم اليهودية التي عكرت عليهم صفو حياتهم الأوروپية، وكانت ذريعتهم هي أن الأرض المقدسة هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ! وأنهم قد أدوا بذلك واجبًا دينيًا رئيسًا، ألا وهو تهيئة الأرض لعودة المسيح عليه السلام، ليهنأ القوم بصحبته في الألف عام السعيدة!
ويمضي الزمان، ويتقدم العمر بالغلام الأوروپي، حتى صار كهلًا وقد أجهدته كثرة حروبه الخارجية والداخلية، وبات يحلم بقضاء باقي عمره مستمتعًا بتركته (الشرقية) بعيدًا عن الحروب والصراعات. فسيطرت على خاطره رؤية جديدة لمستقبل تسود فيه شعارات الإنسانية والحرية والإخاء والمساواة .. ولكن لعلنا لا ننسى أن من شبَّ على شيء شاب عليه!
وقبل أن نستطرد، نتوقف قليلًا لإلقاء بعض الضوء على أمر محوري مهم، ألا وهو اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي ..
فلقد نزلت الضربة الأكبر لكل من قوة أوروپاوثقتها قبل نحو قرن من الزمن، في الحرب العالمية التي اندلعت سنة 1914م. فذلك الصراع الرهيب تمخض عن تدمير ثلاث من قوى أوروپاالخمس: ألمانيا، (النمسا/هنجاريا)، وروسيا، التي كانت ميزان القوى القارِّي منذ سنة 1871م (1).
(1) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، أمريكا وأوروپافي النظام العالمي الجديد، ص (16 - 7). Robert Kagan: Of Paradise and Power، America and Europe in the New World Order. فائدة: يقول الشيخ الندوي رحمه الله مقارنًا بين حروب المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والحرب العالمية الأولى والثانية: «هذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهابًا بالنفس، ولا أَعْوَد منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين (المسلم والكافر) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفسًا 1018، المسلمون منهم 259 والكفار 759. أما المصابون في الحرب العالمية الأولى [1914 - 1918م] فيبلغ عددهم على الأصح واحدًا وعشرين مليونًا، عدد المقتولين منهم سبعة ملايين
…
وقدَّر ماكستن James Maxton [1885 - 1946 م] عضو الپرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب العالمية الثانية [1939 - 1945م] لا يقل عددهم عن خمسين مليون» اهـ[أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (181) باختصار].
ولكن بدلًا من أن تعلن فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ولادة نظام دولي جديد، قائم على المصالح المتبادلة والأمن المستقر الدائم، تبدلت سريعًا مواقع القوة في العالم، وحل محل التوازن التقليدي السابق، توازن الرعب، والصراع الأيديولوچي الذي أشعل الحروب الإقليمية في ساحات أخرى من العالم الثالث، وبعيدًا هذه المرة عن الساحة الأوروپية التي خيمت عليها الحرب الباردة لأكثر من نصف قرن، ولكن من دون أن تطلق طلقة واحدة (1).
ويقول روبرت كيجن في دراسته «الاستفزازية والعميقة» - كما يصفها السيناتور چون ماكين John McCain - (3) : «وبعد قرنين اثنين تبادل الأمريكيون والأوروپيون موقعيهما ونظرتيهما. وكان سبب ذلك - جزئيًا - هو أن معادلة القوة شهدت خلال ذينك القرنين وبخاصة في العقود الأخيرة تحولًا دراميًا مثيرًا: حين كانت الولايات المتحدة
(1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، ص (59).
(2)
صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي، ص (107). Samuel P. Huntington: The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order
(3)
روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (15 - 6).
ضعيفة، مارست استراتيچية المداورة، واستراتيچيات الضعف القائمة على المكر. أما الآن، وقد باتت الولايات المتحدة قوية، فهي تتصرف تصرف الدول القوية. عندما كانت الدول الأوروپية الكبرى قوية، بقيت مؤمنة بالجبروت والمجد العسكري. أما الآن فهي ترى العالم بعيون قوى أضعف».
ويعلل كيجن ذلك بأن «الثقافة الاستراتيچية الأوروپية الحديثة تمثل رفضًا واعيًا للماضي الأوروپي، ونفورًا من شرور سياسة القوة (ماختپوليتيك Machtpolitik) الأوروپية (2).
إنها انعكاس لرغبة الأوروپيين الجامحة والمفهومة في عدم العودة إلى ذلك
(1) السابق، ص (23).
(2)
فائدة: يتبين باستعراض تاريخ الحضارات الأوروپية أن الصراع مع الآخر هو الفكرة المحورية والقاسم المشترك بين الماضي والحاضر. فقد أكدت أساطير الإغريق أصحاب أقدم حضارة أوروپية أن الصراع كان هو شغلهم الشاغل، وكأنهم لا يعرفون غير القتال والتعارك، وحتى عندما تحدثوا عن الحب كان عن اختطاف زوجة أحد الملوك، والذي ترتبت عليه حرب طروادة الشهيرة. ومع أفول نجم الإغريق وظهور الرومان تطورت فكرة الصراع إلى الأسوأ؛ إذ قامت الحضارة الرومانية على التوسع والسيطرة على الشعوب الأخرى. كانت الإمپراطورية الرومانية أول من اخترع فكرة الاستعمار، ولقد شنوا الحروب وقامت إمپراطوريتهم على استعباد الشعوب الأخرى وحكمها بالقوة والقهر. واشتهر عنهم الظلم والاضطهاد لغيرهم من الأمم، بل كانت الإبادة من صنعهم أيضًا. وعندما اعتنق الرومان النصرانية حدث تحول في المسيحية الغربية؛ إذ تغيرت الديانة التي كانت في أصلها داعية للسلام إلى ديانة تبرر العدوان وتمنح المبرر الأخلاقي للحرب الاستباقية. فقد استطاع (القديس) أوغسطين Augustine of Hippo (354 - 430 م) أن يدمج بين السلطة المهيمنة والدين في القرن الخامس الميلادي، وأعطى الحق للإمپراطور في شن الحرب بدعوى تحقيق السلام وأطلق مصطلح (الحرب العادلة Just War) الذي أصبح فيما بعد الدافع وراء حروب الغرب تجاه العالم من يومها وحتى الآن. وقد وجد أوغسطين المسوغ لتعذيب واضطهاد المخالفين في العقيدة في إنجيل لوقا 14: 23 في قوله: «فأجابه السيد أخرُج إلى الطرقات والدروب وألزم الناس بالدخول حتى يمتلئ بيتي» . [للتوسع، انظر، عامر عبد المنعم: الغرب أصل الصراع، وفاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد صلى الله عليه وسلم].