الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدخول إنجلترا جنبًا إلى جنب. وكان تفسير فقرات معينة من العهد القديم، التي تتضمن أن تشتت اليهود قبل بعثهم شرط ضروري لخلاص إسرائيل النهائي وعودة المسيح المنتظر، تؤكد هذا التناقض الظاهري. وهكذا كان على إنجلترا، البلد الوحيد الذي ليس فيه وجود يهودي ظاهري، أن تكون عونًا لله القوي في الإسراع بالحادث المنتظر. لكن الحركتين من أجل البعث اليهودي والسماح لليهود بدخول إنجلترا لم تكونا من أجل اليهود أنفسهم، بل من أجل الوعد المعطى لهم؛ فقد كان ينظر إلى العودة على أنها اعتناق اليهود للمسيحية لأن هذه هي علامة تحقيق الوعد، وكان الكثير من الپيوريتانيين يعتقدون بدافع من عبريتهم أن من اليسير على اليهود أن يتحولوا للمسيحية وهو الموقف الذي رأيناه في حب لوثر للسامية في المرحلة الأولى من حياته» اهـ.
مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل):
وباقتناع تام منه بأنه مكلف مهمة التعجيل بقدوم المسيح، نشر اليهودي مناسح بن إسرائيل Menasseh Ben Israel (1604 - 1657 م) كبير حاخامات أمستردام، عام 1652م، كتابًا مهمًا بعنوان (أمل إسرائيل Hope of Israel) يدعو فيه إلى إيصال اليهود إلى إنجلترا حتى يكتمل شتاتهم في العالم، قبل أن يبدأ تجمعهم في إسرائيل. وكما شرح في خطاب له لاحق:«فقد كشف سفر التثنية، الإصحاح (28: 64): "ويشتتكم الرب في جميع الشعوب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها"، ولقد اقتنعت أن أقصى الأرض قد يكون هو هذه الجزيرة» ، أي إنجلترا!
ومما دعم رؤية مناسح هو ما قد استنتجه الرحالة اليهودي الپرتغالي أنتونيو دي مونتيزينوس Antonio de Montezinos - الذي التقى به مناسح في عام 1644م - من أن القبائل الهندية في جزر الهند الغربية، هم في الأصل قبيلة رأوبين العبرانية، إحدى القبائل اليهودية العشر المفقودة، وذلك بسبب ممارستهم للطقوس اليهودية على حسب زعمه. وبناءً على طلب المجمع اليهودي الهولندي، وقَّع مونتيزينوس قسمًا على صحة روايته.
كذلك كان مبشرو المسيحية الإسپان إلى أمريكا الجنوبية يرددون بأن الهنود الحمر هم
القبائل اليهودية العشر المفقودة والذين عبروا آسيا غربًا إلى الصين ثم إلى أمريكا، بينما يؤيد علماء الإنسانيات نظرية أن الهنود الحمر هم الميكادو Mikado، أي الجيش المغولي الذي عبر مضيق بيرينج Bering Strait.
ولكن سرعان ما انتشرت هذه الرواية بين الهولنديين الپيوريتانيين، وتحمست لها طائفة الألفيين الذين كانوا ينتظرون مملكة القديسين، وتبعًا لتفسيرهم لنبوءة الكتاب المقدس، فيجب أن تشمل العودة من المنفى القبائل العشرة المفقودة التي اختفت في القرن العاشر قبل الميلاد. فعند التقائهم مع بني يهوذا، كما كان الحال أيام داود وسليمان، يستطيع المسيح بن داود الظهور على الأرض (1).
ولقد ربط كتاب مناسح (أمل إسرائيل) بين التفكير اللاهوتي والسياسة العملية؛ فلم يكن يرى أن إعادة السماح لليهود بدخول إنجلترا هدف في حد ذاته ولكنه خطوة نحو إعادة استيطانهم النهائي في فلسطين. ولقد راجت الترجمة الإنجليزية لكتابه ونفدت ثلاث طبعات منه قبل أن تطأ قدما المؤلف أرض إنجلترا عام 1655م، مما يدل على سيطرة الأفكار الصهيونية على عقلية الرأي العام الإنجليزي (2).
ومما لا شك فيه أن نشر النصوص التوراتية بشكلها الأصلي الذي لم يعد مشوبًا بالتفسيرات الكنسية الرسمية أتاح لبعض الپروتستانت أن يضفوا على الكتاب المقدس صبغة سياسية.
ومن المفارقات أن اليهود أنفسهم كانوا يحاولون خلال هذه الفترة أن يجردوا الكتاب
(1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 157 - 8) باختصار وتصرف.
(2)
انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (39 - 40).
(3)
باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 168 - 9).
المقدس من الصبغة السياسية؛ ففكرة المسيح المنتظر بين اليهود، التي كانت مرتبطة بشكل وثيق بحركة الإصلاح الديني، كانت تعارض التدخل البشري أو الدنيوي لتحقيقها، وتتوقع بدلًا من ذلك أن تتحقق عن طريق التدخل السماوي (1).
ويلاحظ أن المفهوم السياسي بدأ في التسرب داخل الأفكار الصهيونية غير اليهودية بصورة واضحة في عهد الإنجليزي أوليفر كرومويل Oliver Cromwell (1599 - 1658 م)، والذي ترأس الكومنولث الإنجليزي (2) لمدة عشر سنوات (1649 - 1658م)؛ وكان كرومويل حينها في حرب مع الپرتغال، وهي أولى الحروب التجارية من أجل استعادة سيادة بريطانيا البحرية لإصلاح جسور التجارة مع المستعمرات. وقد أفقدت الحرب الأهلية بريطانيا صدارتها التجارية. وكانت طبقة رجال الأعمال والتجار، وأغلبهم من الپيوريتانيين، يغارون من الهولنديين الذين استغلوا الفرصة واقتنصوا مركز الصدارة في التجارة مع المشرق والشرق الأقصى والمستعمرات والأمريكتين. ولقد ساعد على نجاح الهولنديين التجار اليهود الذين جلبوا الفرص من خلال علاقاتهم بجنوب أمريكا وبالمشرق، ولم يغب ذلك عن كرومويل، فاستغل عائلات يهود الأندلس المارانو Marranos (3) المقيمين بإنجلترا.
وبدأ الاتصال الرسمي مع مناسح في عام 1650م بعد انتشار كتابه مباشرة. وأُرسلت بعثة إلى هولندا لعقد تحالف مع الهولنديين، وكُلفت البعثة التفاوض الجانبي مع مناسح،
(1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (35) بتصرف.
(2)
الكومنولث الإنجليزي: هو الاسم الذي أطلق على الحكومة المشتركة التي حكمت (إنجلترا وأيرلندا واسكتلندا) في الفترة من عام 1649 إلى 1660م. [للتوسع، انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Commonwealth of England].
(3)
تطلق كلمة مارانو على اليهود المتخفين، في إسپانيا والپرتغال، الذين تراجعوا ظاهريًا عن اليهودية وادعوا اعتناق الكاثوليكية حتى يتمكنوا من البقاء في شبه جزيرة أيبريا مع تراجع الحكم الإسلامي وبعد طرد يهود الپرتغال عام 1480م وطرد يهود إسپانيا عام 1492م. وكلمة مارانو التي أحرزت شيوعًا في القرن السادس عشر ليست معروفة الأصل على وجه التحديد، ولعل الأكثر رجوحًا هو أنها كلمة باللهجة العامة الإسپانية القديمة معناها (خنزير). [للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (81) وما بعدها].
والذي قدم على أثر هذه المفاوضات طلبًا رسميًا لمجلس الدولة لإعادة السماح لليهود بدخول إنجلترا.
وتسارعت الأحداث نحو ذروتها. ورفضت هولندا المغرورة الاتحاد مع بريطانيا المبتدئة - حيث لم تكن إمپراطورية بعد -. وبناءً على ذلك، عملت بريطانيا بمبدأ (إن لم تستطع الانضمام إليهم فاهزمهم)، فأصدرت فورًا القانون البحري الذي يمنع السفن الأجنبية من الاتجار مع إنجلترا ومستعمراتها. وأصاب هذا الهولنديين في معيشتهم، وبدأت الحرب مع إنجلترا بعد ذلك بعام. ولتوقعه لذلك، أرسل كرومويل إلى مناسح بن إسرائيل جواز سفر داعيًا إياه للدفاع عن قضيته بنفسه في نفس يوم صدور القانون البحري. وكما أشار المؤرخ الإنجليزي اليهودي سيسل رُوثّ Cecil Roth (1899 - 1970 م)، فإن هذه الصدفة تستحق التدوين. وكان كرومويل متحمسًا لنقل تجار أمستردام اليهود إلى لندن، كإجراء سيفيد إنجلترا في سباقها مع هولندا.
ولكن قبل أن يأتي مناسح، اندلعت الحرب الهولندية الإنجليزية، وفي أثناء اندلاعها، لم يُتخذ أي إجراء حيال اقتراحه، حتى انتهت الحرب الهولندية، ولاحت الحرب الإسپانية في الأفق بسبب التنافس التجاري كذلك. وظل كرومويل يضغط لأجل إصدار قرار بشأن إعادة اليهود لبريطانيا، الذين ظلت علاقاتهم التجارية وثيقة بإسپانيا والپرتغال. وفي عام 1654م، دعا كرومويل مناسح مجددًا للقدوم لإنجلترا، وقَبِل الأخير وحضر بصحبة ثلاثة أحبار زملائه بدفاعات جديدة لصالح هدفه. وكان مما ركز عليه مناسح هو «الربح الذي هو أقوى الدوافع على الإطلاق» ، وأشار إلى كم يمكن أن تكون أهمية اليهود كقنوات للتأثير في التجارة أمام هولندا وإسپانيا والپرتغال، وتكلم عن الحب الذي يكنه اليهود للكومنولث بسبب كونه أكثر تسامحًا من الممالك الأخرى، وردَّ على الاتهامات التقليدية التي تثار ضد اليهود كتهمة الدم وسعيهم في قتل المسيح وغيرها .. وأثار طبع خطاب مناسح دوامة من الجدل أغرقت فيها العيوب المزايا، وأثيرت التهم القديمة مع تهم جديدة، بما فيها أن كرومويل يهودي وأن اليهود سوف يشترون كنيسة (القديس) پولس ومكتبة بودليان Bodleian Library (1) .
(1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 159 - 64) باختصار وتصرف.
تقول باربرا تخمان (1): «وأيًا كان ما حدث، ففي العاشر من ديسمبر عام 1655م جمع كرومويل لجنة من القضاة ورجال الدين والتجار للنظر في طلب مناسح (2). وعلى مدى أربعة عشر يومًا، ظل أعضاء اللجنة منقسمين بين معارض ومؤيد. ولم يتفقوا سوى على أنه لا يوجد سبب قانوني يمنع دخول اليهود إلى إنجلترا
…
أما فيما يختص بشروط وشكل تواجد اليهود وإقامتهم، فقد ظلوا غير متفقين؛ فكان رجال الدين الذين كانوا يريدون عودة اليهود يقولون بأن الناس الطيبين في إنجلترا كانوا يصدقون في عودة المسيح، ويصلون من أجلها أكثر من أي شعب آخر، وأنه يجب السماح لليهود بالدخول لأجل تحقيق ظهور المسيح أو التحول، وأنه يجب على إنجلترا أن تكفر عن ذنوبها تجاه اليهود الذين هم أقارب المسيحيين بالدم، وإن لم يكن بالروح والإيمان، وينحدرون من نفس الأب إبراهام.
وكان التجار ضد هذا الأمر بشدة، فقد نشر عملاء الهولنديين والإسپان إشاعات عن العواقب الوخيمة لدخول اليهود، والمتمثلة في أن تجارة اليهود ستثري الغرباء وتفقر الإنجليز. وقالوا: إنه فيما يختص بالتحول، فإن الأحرى أن ما سيحدث هو تحول المسيحيين إلى اليهودية وليس العكس، بفعل ميل الشباب الإنجليزي للدعوات الجديدة. وفي نهاية الأمر، لم يُتفق إلا على السماح بعودة دخول اليهود إلى إنجلترا، ولكن بشروط مقيدة ماليًا وتجاريًا، مما جعل الأمر عديم الجدوى لكرومويل
…
أما بالنسبة لمناسح، فلم تكن التسوية تعد نجاحًا مرضيًا على الإطلاق. وعاد إلى هولندا مُسِنًّا ومفلسًا ومهزومًا، وبعد أقل من عامين مات عن ثلاثة وخمسين عامًا، وربما بسبب كسر قلبه
…
ونتيجة لغياب الحل الحاسم، لم يهاجر الكثير من اليهود إلى إنجلترا. ولكن في عام 1656م، حين دخلت إنجلترا حربها مع إسپانيا، تمكن المارانو من الخروج من تنكرهم الإسپاني وسُمح لهم برغم القلاقل المثارة حولهم بإقامة معابد علانية، كما سُمح لهم
(1) السابق (1/ 165 - 8) باختصار وتصرف يسير.
(2)
تذكر ريچينا الشريف أن المؤتمر المنعقد هو مؤتمر وايت هول Whitehall Conference، والذي عُقد في الفترة من 4 إلى 18 ديسمبر عام 1655م لبحث شرعية وظروف تلك العودة. [انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (41 - 2)].