الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد انتقل القول بالبداء إلى المجتمع الإسلامي عن طريق السبئية، ثم أخذ به المختار بن أبي عبيد الله الثقفي، ومن ثم انتقل إلى من تبعه من غلاة الشيعة؛ يقول عبد القاهر البغدادي (1):«لما انهزم أصحاب المختار وقُتِل أميرهم وأكثر قواد المختار، رجع فلولهم إلى المختار وقالوا: ألم تعدنا بالنصر على عدونا؟ فقال: إن الله تعالى قد وعدني لكنه بدا له، واستدل بقول الله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (2)، فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء» اهـ.
من أقوال الرافضة في البداء:
وهي كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:
- ما جاء في الكافي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهما قالا: «إن الناس لما كذبوا برسول الله صلى الله عليه وآله هَمَّ الله تبارك وتعالى بهلاك أهل الأرض إلا عليًا فما سواه بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ}، ثم بدا له فرحم المؤمنين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}» (3).
- وعن أبي عبد الله أنه قال: «ما تنبأ نبي قط حتى يُقِر لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة» (4).
- وقالوا إن عليًّا رضي الله عنه كان لا يروي عن الغيب مخافة البداء، كما روى عنه المجلسي
(1) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرَق، ص (36).
(2)
الرعد: 39
(3)
الذاريات: 54 - 55، الكليني: الروضة من الكافي (8/ 103)، رقم: 78، والمجلسي: بحار الأنوار (4/ 110).
(4)
الكليني: الأصول من الكافي (1/ 148).
أنه قال: «لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية:{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1).
- وقد ذكرنا في حديثنا عن عقيدة الإمامة زعمهم أن الإمامة انتقلت من إسماعيل بن جعفر إلى أخيه الأصغر موسى بن جعفر الصادق وبرروا ذلك بالبداء، وقالوا على لسان جعفر الصادق:«ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني» (2).
يقول الإمام ابن حزم (3): «وجمهور المتكلمين كهشام بن الحكم الكوفي وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقولون: إن علم الله تعالى محدَث وأنه لم يكن يعلم شيئًا حتى أحدث لنفسه علمًا، وهذا كفر صريح» .
ويقول شاه عبد العزيز الدهلوي (4): «وجماعة من الاثنى عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم المقداد بن عبد الله السيوري من القرن التاسع [ت. 826هـ]، صاحب (كنز العرفان)، قالوا: إن الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها» اهـ.
قاتلهم الله، فالعليم سبحانه علمه مطلق بلا حدود، سبحانه وتعالى في كمال علمه، جل شأنه في إطلاق وصفه، فعلمه فوق كل ذي علم:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (5)، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (6).
يقول القفاري (7): «وحسب الاثنى عشرية عارًا وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبريء أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام، وإذا رجعت إلى معتقدهم في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وجدت أن الإمام قد حل محل الرب سبحانه في قلوبهم وعقولهم، بتأثير ذلك
(1) الرعد: 39، المجلسي: بحار الأنوار (4/ 97).
(2)
انظر، ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 69).
(3)
ابن حزم: الفِصَل (4/ 139).
(4)
محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (90).
(5)
يوسف: 76
(6)
الطلاق: 12
(7)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 952).
الركام المظلم من الأخبار .. فعقيدة البداء أثر لغلوهم في الإمام» اهـ.
وقد كان لعقيدة البداء في إبان نشأتها أثرها في ظهور بوادر الشك لدى العقلاء من أتباع المذهب، وقد اكتشف بعضهم حقيقة اللعبة، فتخلى عن المذهب الإمامي أصلًا، وقد حفظت لنا بعض كتب الفرق قصة أحد هؤلاء وهو سليمان بن جرير الذي إليه تنسب فرقة السليمانية من الزيدية، فقال:«إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا، وهما القول بالبداء وإجازة التقية» (1)، ثم كشف - من خلال حياته في المجتمع الشيعي، ومخالطته لهم - كيف يتخذون من عقيدة البداء وسيلة للتستر على كذبهم في دعوى علم الأئمة للغيب فقال:«فإن من أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعايتها في العلم فيما كان ويكون، والأخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون، فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت. وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم بدا لله في ذلك بكونه» اهـ (2).
وكثيرًا ما حاول الشيعة التبرؤ من وصمة هذا العار الثابت عليهم، وحاولوا إيجاد مهرب من التكفير، فألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة لنفي اعتقادهم بالبداء كما يعتقده اليهود، فعلى سبيل المثال، يقول أحد شيوخهم المعاصرين وهو محمد رضا المظفر (3): «والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى، لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الإمامية. قال الصادق عليه السلام:"من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم"، وقال أيضًا:"من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه"(4).
(1) انظر، النوبختي: فرق الشيعة، ص (76)، وقد سبق ذكره.
(2)
انظر السابق.
(3)
محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، ص (51) وما بعدها، فصل الإلهيات، باب عقيدتنا في البداء.
(4)
أصله في: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 69).
غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق عليه السلام:"ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني"، ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنًا في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة. والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1)،
ومعنى ذلك: أنه تعالى قد يُظهِر شيئًا على لسان نبيه أو وليه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولًا، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة إسماعيل لمَّا رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه.
فيكون معنى قول الإمام عليه السلام: أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في
(1) الرعد: 39، يقول السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}:«أي: يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه، وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشُعَب .. فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابًا، ولمحوها أسبابًا، لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببًا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببًا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببًا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ» [تفسير السعدي، ص (476)]، ويقول الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح الطحاوية:«وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [النمل: 38]، فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب» اهـ[شرح العقيدة الطحاوية، ص (91)].
إسماعيل ولده، إذ اخترمه (1) قبله ليعلم الناس أنه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنه إمام بعده، لأنه أكبر ولده.
وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله» اهـ.
ولقد أجاب الدكتور القفاري على مثل هذا القول بقوله (2): «ولكن المطلع على رواياتهم لا يرى أنها تتفق مع هذا التأويل، إذ تدل على نسبة البداء إلى الله لا إلى الخلق، ولذلك اعتذر أئمتهم عن الإخبار بالمغيبات خشية البداء .. ونسبوا إلى نبي الله لوط أنه كان يستحث الملائكة لإنزال العقوبة بقومه خشية أن يبدو لله، ويقول: "تأخذونهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب" (3)، فهل مثل هذا الإلحاد يقبل التأويل؟!» .
وكذلك يقول (4): «ثم إن التأويل للبداء بظهور الأمر للناس من الله لا يسوغ كل هذه المغالاة في البداء وجعله من أعظم الطاعات وأصول الاعتقادات، كما أن لفظ البداء يحمل معنى باطلًا في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فكيف يُعَدُّ أصلًا في الدين وهو بهذه المثابة ويُلْتَمَسُ له تأويلٌ ومخرَجٌ؟» . ثم ينقل عن الشيخ موسى جار الله (1295 - 1369هـ) قوله (5): «وهذا جهل وتجاهل، إذ لا بداء في النسخ، والحكم كان مؤقتًا في علم الله، وأجل الحكم، وانتهاء الحكم عند حلول الأجل معلوم لله قبل الحكم. نعم بدا لنا ذلك من الله بعد نزول الناسخ، والبداء لنا في علمنا لا لله» اهـ.
…
(1) أي أهلكه واستأصله.
(2)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 947).
(3)
الكليني: الفروع من الكافي (5/ 546).
(4)
د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 948).
(5)
السابق (2/ 945) نقلًا عن: الوشيعة في نقد عقائد الشيعة، لموسى جار الله، ص (183)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية.