الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم» اهـ.
{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1)
…
يهود الدياسپورا:
لن نتتبع في هذا الفصل هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية، لأننا سوف نتعرض لهذه المسألة في الباب التالي. والذي يعنينا هنا هو تتبع هجرة اليهود إلى بلاد أوروپاحيث عرفوا باسم يهود الشتات أو الدياسپورا Diaspora، حيث نمت هناك جذور الصهيونية ..
ومن الممكن لنا قبل التوغل إلقاء نظرة عامة على هجرات الجماعات اليهودية عبر التاريخ .. فيقول الدكتور المسيري رحمه الله (2): «لقد كان العبرانيون جزءًا من جماعات سامية ضخمة تتحرك في الشرق الأدنى القديم، ابتداءً من الألف الثاني قبل الميلاد
…
ونحن نسمِّي هذه المرحلة المرحلة السامية السديمية لأن معالم الأشياء لم تكن واضحة ولأن القبائل والأقوام المهاجرة المتنقلة كانت متداخلة. كما شهدت مرحلة الإمپراطوريات الكبرى، البابلية والآشورية ثم الفارسية واليونانية والرومانية، بدايات الهجرة التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد
…
».
«
…
وينتقل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من وطن إلى آخر بحثًا عن الرزق ولتحسين المستوى المعيشي بصفة عامة، أو لأسباب أخرى مثل التهجير والطرد أو الاضطهاد أحيانًا
…
وقد اتسمت حياة العبرانيين في عصر الآباء (منذ عام 2000ق. م) بالتنقل البدوي من بلد إلى آخر وبالبقاء على حواف المدن أو على طُرُق التجارة. وفي هذه المرحلة، استوطنت بعض العناصر العبرانية أرض كنعان وفي مصر دون أن تضرب
(1) الأنعام: 124
(2)
د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية: مقدمة) باختصار.
جذورًا في أي منهما. وقد خرج العبرانيون من مصر أو هاجروا منها (عام 1645ق. م) ليبدأوا فترة أخرى من التجوال في سيناء انتهت بالتغلغل العبراني في كنعان (عام 1189ق. م) الذي أعقبته فترة من الاستقرار النسبي بعد قيام اتحاد القبائل العبرانية في شكل المملكة العبرانية المتحدة ثم المملكتين العبرانيتين: المملكة الشمالية [يسرائيل] والمملكة الجنوبية [يهودا]. وقد انتهت هذه المرحلة بالتهجير الآشوري [من يسرائيل] ثم التهجير البابلي [من يهودا].
وبعد هذه المرحلة، ينتهي التهجير ليبدأ اليهود في الانتشار في بقاع الأرض بوصفهم جماعات يهودية لا يربطها رابط سوى الانتماء إلى العقيدة الدينية الإثنية نفسها. وتبدأ هذه المرحلة حين فضلت أعداد كبيرة من اليهود الاستمرار في بابل مُكوِّنةً بذلك نواة أول جماعة يهودية تستقر خارج فلسطين بعد مرحلة التهجير البابلي
…
ثم قامت الإمپراطورية اليونانية بفرض هيمنتها على أجزاء كبيرة من البحر الأبيض والشرق الأدنى القديم (332ق. م)، وهو ما يسَّر عملية انتقال اليهود وانتشارهم، فاستقرت أعداد كبيرة منهم في مصر، وفي الإسكندرية على وجه الخصوص. كما استقروا في برقة وقبرص وآسيا الصغرى. وقد بدأ الانتشار في أوروپاالغربية في تلك المرحلة أيضًا.
وحين قضى الرومان على فلسطين كإحدى نقاط تَجمُّع الجماعات اليهودية وأحد مراكزها، وحتى حين هدم تيطس الهيكل (عام 70م)، لم يؤثر ذلك كثيرًا في حركة تدفُّق اليهود أو على شكلها، إذ إنها بدأت على أية حال قبل ذلك التاريخ، حيث استمر تَدفُّق اليهود خارج فلسطين وإلى مختلف البلدان، خصوصًا إلى أوروپاوحوض البحر الأبيض المتوسط» (1).
يؤكد على هذه الحقيقة الباحث الأمريكي إيان لوستك بقوله (2): «كان عدد كبير من اليهود يقيم خارج أرض إسرائيل منذ أمد بعيد يسبق قضاء الرومان على استقلال اليهود في فلسطين وقتلهم أو طردهم معظم السكان اليهود المقيمين فيها» اهـ.
(1) السابق (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث) باختصار وتصرف يسير.
(2)
إيان لوستك: الأصولية اليهودية في إسرائيل، ص (26). Ian S. Lustick: For the Land and the Lord: Jewish Fundamentalism in Israel
وتقول الدكتورة سناء عبد اللطيف (1): «وبعد تخريب أورشاليم وهدم الهيكل فر عدد ممن بقوا على قيد الحياة إلى مصر وسوريا، وأخذت القوات الرومانية باقي اليهود أسرى إلى أوروپا، وباعتهم كرقيق في أسواق النخاسة في أوروپا، وقام التجار اليهود الذين كانوا قد استوطنوا أوروپامن قبل بشراء العبيد اليهود وعتقهم، ومن ثم تكونت جاليات يهودية كبيرة في أوروپا، في إيطاليا وإسپانيا وألمانيا حتى الراين» اهـ.
«وقد شهدت بداية العصور الوسطى في الغرب (القرن الرابع الميلادي) شيئًا من الاستقرار النسبي بالنسبة إلى الجماعات اليهودية في الغرب المسيحي ثم في الشرق الإسلامي بسبب استقرار الأحوال السياسية والاقتصادية فيها
…
وكانت توجد ثلاثة خطوط أساسية للهجرة إلى أوروپا: من فلسطين إلى جنوب إيطاليا ومنها عبر جبال الألپ إلى فرنسا وألمانيا، ومن الإمپراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) عبر وادي الدانوب إلى وسط أوروپا، ومن العراق ومصر عبر المغرب إلى إسپانيا. وهكذا انتقلت الكثافة السكانية اليهودية (بين عامي 500ق. م-1000م) من الشرق الأوسط إلى أوروپا» (2).
…
يهود أوروپامن العصور الوسطى (من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر) إلى عهد الإصلاح الديني:
نضع بدايةً تصورًا عامًا لطبيعة حياة الجماعات البشرية المهاجرة أو المُهجَّرة، والتي يعرِّفها المسيري بـ (الجماعات الوظيفية) ..
يقول (3): «الجماعات الوظيفية، مصطلح قمنا بوضعه، استنادًا إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع، لوصف مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين
(1) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، دراسة للأصول الفكرية والثقافية والنفسية للمجتمع الإسرائيلي، ص (24) باختصار.
(2)
د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث) باختصار.
(3)
السابق (1/ الجماعات الوظيفية: مقدمة) باختصار.
الأقليات الإثنية أو الدينية، أو حتى من بعض القرى أو العائلات. ثم يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشرية أو الجماعات الوظيفية وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، ولذا يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (الربا - البغاء)، أو المتميِّزة (القضاء - الترجمة - الطب) التي تتطلب الحياد والتعاقدية
…
وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى (الحاجة لمستوطنين جدد لتوطينهم في المناطق النائية). كما أنه قد يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية الوظائف ذات الحساسية الخاصة وذات الطابع الأمني (حرس الملك - طبيبه - السفراء - الجواسيس). ويمكن أن تكون الوظيفة مشينة ومتميِّزة حساسة في آن واحد (مثل الخصيان والوظائف الأمنية على وجه العموم). كما أن المهاجرين عادةً ما يتحولون إلى جماعات وظيفية (في المراحل الأولى من استقرارهم في وطنهم الجديد)، ذلك لأن الوظائف الأساسية في وطنهم الجديد عادةً ما يكون قد تم شغلها من قِبَل أعضاء الأغلبية.
ويجب أن نؤكد أننا، حينما نقول "يستجلب المجتمع"، لا نعني أن هذه عملية واعية يقوم بها أعضاء مجتمع ما، فهي في واقع الأمر عملية غير واعية كما هو الحال مع معظم الظواهر الاجتماعية. وكثيرًا ما تكون هذه العملية غير مفهومة لمن يقومون بها، سواء أكان المجتمع المضيف أم الجماعة الوظيفية. بل إن هذه العملية الاجتماعية قد تتم رغم الرفض الواعي لها من قبل المجتمع والجماعة
…
ولكننا، لقصور لغتنا البشرية، نضطر إلى الإشارة إلى المجتمع وأعضائه كما لو كان ذاتًا واعية ينجز عملياته بشكل واع.
ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفية الخبرات في مجال تخصصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها، بل يتوحدون بها، وفي نهاية الأمر يكتسبون هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم منها بحيث يتم تعريف الإنسان من خلال الوظيفة وحسب لا من خلال إنسانيته الكاملة، فيصبح عضو الجماعة الوظيفية إنسانًا ذا بُعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البُعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته».
ولو تحدثنا عن الجماعات اليهودية خاصة، فنسجِّل الآتي:
«يمكن تفسير ظاهرة تحول كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بمركَّب من الأسباب، تاريخي واجتماعي وديني. ويمكننا أن نبدأ بالعودة إلى الدولة العبرانية القديمة، وهي دولة لم تكن تتمتع بمستوى تكنولوچي أو حضاري متقدم، ولهذا كانت غير قادرة على تشغيل كل سكانها. كما أنها كانت دولة ضعيفة غير قادرة على حمايتهم، الأمر الذي أسفر عن أسر عشرات وربما مئات الألوف منهم، حيث هُجِّروا إلى بابل وآشور فتحولوا إلى جماعات بشرية غريبة يمكن تجنيدها كمرتزقة أو مستوطنين، كما أنهم تخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها. ومما عمَّق هذا الاتجاه، وجود كثير من الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط وفي حوض البحر المتوسط، وهي منطقة سيطرت
(1) السابق.
عليها عديد من الإمپراطوريات، الواحدة تلو الأخرى، وكانت القوى الإمپراطورية الصاعدة تتحالف مع أعضاء الجماعات اليهودية نظرًا لعدم خشيتها منهم وتجندهم في صفوفها كمرتزقة أو مستوطنين أو حتى جواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي، مركز اهتمامهم الديني، تساعد على إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد، وعلى عزلتهم عن مجتمعاتهم، وعلى انغلاقهم على أنفسهم. وكان من الممكن أن تختفي هذه الجماعات تمامًا بسقوط الهيكل، ولكن الذي حدث أن فكرة الوطن الأصلي (الحنين إلى صهيون) حلت محل الوطن الأصلي ذاته، وهو ما أعطى أعضاء الجماعات اليهودية تَماسُكًا إثنيًا - ولكنه تَماسُك وهمي لأنه لم يَعُد هناك مركز قومي فعلي يحدد المعايير الدينية أو القومية. وبينما كانت الهويات اليهودية تتشكل في الواقع من خلال تشكيلات حضارية مختلفة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يدورون في إطار فكرة الهوية اليهودية الإثنية الدينية الواحدة.
وهذه التركيبة مناسبة إلى أقصى درجة للجماعات الوظيفية، ففكرة الوطن تضمن تماسكهم وعزلتهم وتَجرُّدهم اللازم للاضطلاع بوظائفهم المختلفة، بينما يساعد تكيفهم الفعلي على زيادة كفاءتهم وعلى أن يصبحوا في المجتمع دون أن يكونوا منه. وقد دعَّم تدوين التلمود هذه الازدواجية: الاستقلالية الإثنية النفسية من ناحية، والتكيف والاندماج الفعلي من ناحية أخرى؛ فالتلمود يضم التفاصيل الخاصة بشعائر الصلوات في الهيكل وكل التفاصيل الخاصة برداء الكاهن الأعظم والشعائر الخاصة بسنة اليوبيل والسنة السبتية، كما يضم أدق التفاصيل الخاصة بما سيحدث بعد عودة الماشَّيح إلى صهيون وكل الشعائر الخاصة بحياة اليهودي خارج مجتمع الأغيار، أي إن التلمود كرَّس عزلة أعضاء الجماعة وقننها وزود فكرة الهوية اليهودية بإطار واضح وتَحوَّل هو ذاته إلى (وطن اليهود - الوهمي - المتنقل) الذي يشكل نقطة مرجعية نفسية دون أن يكون مأوى حقيقيًا لهم.
ولكن أهم العوامل التي أدَّت إلى تَحوُّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب. وقد أشرنا إلى أن ظهور مثل هذه الجماعات يعود عادةً إلى وجود ثغرة في المجتمع بين رغباته وحاجاته من جهة، ومقدرته
على الوفاء بها من جهة أخرى. وقد كانت مثل هذه الثغرة قائمة في المجتمع الإقطاعي الغربي، حيث كان يوجد نبلاء وفرسان من ناحية وفلاحون من ناحية أخرى. وكان النشاطان الأساسيان هما القتال والزراعة، أما القتال فكان مغلقًا تمامًا بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية لأنها وظيفة كانت مرتبطة تمام الارتباط بطبيعة المجتمع الاقطاعي الغربي المسيحية. ورغم أن الزراعة كانت بديلًا مفتوحًا أمام أعضاء الجماعات اليهودية إلا أنه تم استبعادهم منها تدريجيًا (1). أما بخصوص النشاطات التجارية والمالية وبعض الحِرَف فكانت نشاطات هامشية وأحيانًا وضيعة تحتاج لعنصر محايد غريب للاضطلاع بها. وقد قامت كلٌ من المدن المختلفة وأعضاء الجماعات اليهودية بسد هذه الثغرة» (2).
ولقد أدى تحول اليهود إلى جماعات وظيفية إلى استقرار عدة سمات أساسية، لعل من أهمها:
- العلاقة النفعية التعاقدية التي لا تتسم بالتراحم.
- العزلة والغربة، وهو ما يؤدي إلى ترسيخ مشاعر السخط والكراهية لدى الشعب.
- الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس بالهوية (الوهمية). وقد ترجم هذا نفسه إلى عقيدة المشيحانية التي أضعفت أواصر ارتباط اليهود بالمكان الحالي باسم المكان السابق الذي نُفوا منه، وهو أيضًا المكان الذي سيعودون إليه في المستقبل.
- ازدواجية المعايير: فقد قسَّمت العقيدة اليهودية العالم في كثير من الأحيان إلى اليهود من جهة والأغيار من جهة أخرى. وكان بإمكان اليهودي أن يقرض الأغيار بالربا، ولكنه يُحرِّم على نفسه أن يفعل ذلك مع اليهود. وكان اليهود يعتبرون أنفسهم شعبًا مقدَّسًا (وهذا يعني أن أعضاء المجتمع مباحون). ولعل هذا يُفسِّر وجود أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملاحظ في جرائم انتهاك الحرمات مثل البغاء ونشر المجلات الإباحية وغير ذلك (3).
(1) للتوسع، انظر السابق (2/ علاقة الجماعات اليهودية بالزراعة).
(2)
السابق (2/ أسباب تحول بعض الجماعات اليهودية إلى جماعات الوظيفية).
(3)
السابق (2/ السمات الأساسية للجماعات اليهودية كجماعات وظيفية) باختصار وتصرف.
كذلك فإن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يُعَدُّون من غرباء، وحسب القانون (العرف) الألماني، فإن الغريب يتبع الملك ويُوضَع تحت حمايته ويُصبح من أقنانه (أقنان البلاط). ومن هنا، كان لا بد أن يستند وجودهم إلى مواثيق خاصة تمنحهم حقوقًا ومزايا معيَّنة نظير اضطلاعهم بوظائف محدَّدة. ومن ناحية الأساس، كانت هذه الوظائف هي التجارة والربا وجمع الضرائب.
ويعني مفهوم أقنان البلاط أن أعضاء الجماعات اليهودية، من خلال تبعيتهم المباشرة للملك، يقعون خارج نطاق العلاقات الإقطاعية، وأنهم بذلك أصبحوا جزءًا من الطبقة الحاكمة أو على الأقل أداة في يدها. ولم يكن اليهود ملكية خاصة للملك أو لغيره بالمعنى المجازي، كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة، فقد كانوا ملكية خاصة بالمعنى الحرفي كالعبيد أو المماليك. وقد عبَّر قانون إسپانيا الشمالية عن المفهوم حين نص على أن اليهود «عبيد الملك، وهم دائمًا مِلك الخزينة الملكية» ، كما ورد نص في أحد القوانين الصادرة في إنجلترا في القرن الثاني عشر الميلادي، يوضح هذا المفهوم تمامًا، جاء فيه ما يلي:«كل اليهود حيثما كانوا في المملكة هم موالي الملك وتحت وصايته وحمايته، ولا يستطيع أيٌّ منهم أن يضع نفسه تحت حماية أي شخص قوي دون رخصة بذلك من الملك؛ لأن اليهود أنفسهم وكل منقولاتهم مِلك للملك (شاتيل Chattel). ولذلك، إن قام أي فرد باحتجازهم أو احتجاز أموالهم فإن من حق الملك، متى شاء استطاع، أن يطالب بهم باعتبارهم حقًا خالصًا له» .
وكان يتم شراء أعضاء الجماعات اليهودية وبيعهم ورهنهم وكأنهم أشياء ثمينة. وأحيانًا، كان يتم إهداء يهودي واحد إلى صديق معوز. وكان من الممكن أن يقوم مالك اليهود برهنهم.
وإذا قُتل يهودي أو أُلحق به الأذى لا تُدفَع ديته أو التعويض عنه لأهله، وإنما كانت تُدفَع للملك باعتباره مالك اليهود. وفي إسپانيا المسيحية، كان من حق المحاكم اليهودية أن تصدر حكمها بالإعدام على أي يهودي، وأن تقوم بتنفيذ الحكم عليه ولكن بعد أن تدفع ثمنه للملك. وإن ألحقت إحدى المدن الأذى باليهود، كان عليها دفع غرامة للإمپراطور. وكان الملك يتدخل بكل قوته لحماية اليهود. وكان بوسع من ليس لديه يهود
أن يقتنيهم وأن يحصل على المواثيق الإمپراطورية التي تخول له ذلك. وكانت بعض المدن تشتري اليهود المقيمين فيها من الإمپراطور حتى يمكنها طردهم والتخلص من منافستهم. وكان من حق الملك أن يتصرف بشكل مطلق في أملاك اليهود، فكان أحيانًا يهدي كل ممتلكاتهم إلى أحد أصدقائه دون أن يكلف نفسه عناء إخبارهم.
وكان التصرف في ملكية اليهود الذين يموتون أو يُقتَلون أمرًا سهلًا للغاية. وكانت حماية الإمپراطور لليهود تمتد لتشمل حرية الحركة وإعفاءهم من كل القيود التي كانت تعوق التنقل والتجارة، كما كانت تشمل مزايا ضخمة تضعهم في مرتبة أعلى من كل طبقات المجتمع المسيحي في العصور الوسطى ربما باستثناء النبلاء، وكانت هناك حالات يتساوى فيها اليهود مع كبار النبلاء (1).
وكان من بين اليهود من هم في درجة أرقى من الأقنان، وهم من عرفوا باسم يهود البلاط، «وهم وكلاء الحكام ومستشاروهم في الأمور التجارية والمالية في العالم الغربي، وهم من أهم الجماعات الوظيفية الوسيطة في عصر الملكيات المطلقة في أوروپا، خصوصًا في وسطها في القرن السابع عشر. وكانت العلاقة بين يهود البلاط والأمراء كانت علاقة نفعية تمامًا، فهم يستفيدون من علاقتهم بالحاكم ليحققوا الثروات ويحصلوا على المزايا. وهو بدوره يبقي عليهم بمقدار ما يستفيد من وجودهم باعتبارهم مصدرًا لا ينضب للثروة، يعتصر كميات كبيرة من أموالهم عن طريق الضرائب التي يفرضها عليهم ومن خلال الهدايا التي كان يحصل عليها منهم في مناسبة تتويجه وفي غير ذلك من المناسبات. كما أنهم كانوا يشترون منه حقوقهم وامتيازاتهم نظير أموال طائلة. وإلى جانب هذا، كانوا يؤدون العديد من الخدمات للبلاط، أي إنهم كانوا أداة للتاج لا تربطهم به رابطة وثيقة تتجاوز المستوى الاقتصادي النفعي.
وكان يهود البلاط مكروهين من الجماهير باعتبارهم أداة الاستغلال المباشرة، ومن البورچوازية المحلية لأنهم يشكلون غريمًا لها، ومن النبلاء وكثير من أعضاء النخبة الحاكمة لأنهم أداة في يد الملك يستخدمها لتدعيم نفوذه على حسابهم.
(1) السابق (2/ أقنان البلاط) باختصار.
ومع هذا، لا بد أن نقرر أن يهود البلاط كانوا أقل هامشية من أقنان البلاط والتجار والمرابين اليهود، إذ تحركوا نحو المركز قليلًا من الناحية الوظيفية والاقتصادية والحضارية. فكان يهود البلاط يندمجون حضاريًا في المجتمع الذي يعيشون فيه فيرتدون رداءً أوروپيًا، ويسلكون سلوكًا أوروپيًا، يعيشون خارج الجيتو، ويتمتعون بحرية الحركة، ولا يدفعون أية ضرائب، ويتمتعون بكثير من الحقوق المدنية التي لا يتمتع بها بقية أعضاء الجماعة اليهودية. كما كانوا يُمنحون ألقابًا لا تُمنَح إلا للنبلاء. وكانت مصالحهم الاقتصادية مرتبطة تمامًا بمصالح الملك أو الحاكم أو الدولة، وكثيرًا ما كانت تتعارض مع مصالح الجماعات اليهودية الأخرى، بل كان بعضهم يقف ضد هجرة اليهود إلى بلادهم ويؤلبون الملك ضد المهاجرين الجدد. وقد كان يهود البلاط واعين تمامًا بالتحولات الثقافية والمالية العميقة في المجتمع الأوروپي، ولذا كانوا من أوائل العناصر التي رحبت بحركة التنوير اليهودية وشجعوا دعاتها. ويُلاحَظ أن كثيرًا من أبناء يهود البلاط قد تَنصَّروا، ربما بسبب الجو الثقافي الاندماجي الذي نشأوا فيه.
ومع هذا، كان ليهود البلاط موقف القيادة والزعامة بين يهود البلد الذي يعيشون فيه، ولكنها كانت قيادة مفروضة من الخارج، من عالم الأغيار، وتستمد شرعيتها من نجاحها فيه، وكانت قيادتهم مطلقة حتى إن أحد يهود البلاط أصر على أن تكون كل المناصب القيادية في إحدى الجماعات اليهودية مقصورة على أفراد أسرته، وهو أمر لم يكن شاذًا في عصر الملكيات المطلقة. وقد وصف أحدهم روتشيلد بأنه «ملك اليهود، ويهودي الملك» ، وهو وصف دقيق لوضع يهود البلاط وعلاقتهم بكلٍّ من النخبة الحاكمة غير اليهودية وأعضاء الجماعة اليهودية.
وقد أصبحت وظيفة يهود البلاط وراثية وتحولوا إلى أسر مالية أرستقراطية تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة وأصبحوا طائفة مغلقة يتزاوج أفرادها فيما بينهم ويستبعدون اليهود العاديين. ويمكن القول بأن صورة يهودي البلاط كعبقري ساحر، وكصاحب نفوذ يُقرِض الملوك والأمراء، قد تجذرت في الوجدان اليهودي في الغرب (1).
…
(1) السابق (2/ يهود البلاط) باختصار.