الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ صفةِ الصَّلاة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
مدخل
…
152-
بابُ صفةِ الصَّلاة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:
644-
قد قدّمنا في كتاب أذكار الصلاة صفة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتعلَّقُ بها، وبيان أكملها وأقلها. [الأرقام: 378 - 381] وأمَّا ما قالهُ بعضُ أصحابنا، وابن أبي زيد المالكي [كما في "الثمر الداني" صفحة: 121] من استحباب زيادةٍ على ذلك، وهي: وَارْحَمْ مُحَمَّداً، وآلَ محمدٍ. فهذا بدعةٌ لا أصل لها. وقد بالغ الإمامُ أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه "شرح الترمذي"[271/2 - 272] في إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد في ذلك، وتجهيل فاعله، قال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّمنا كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فالزيادة على ذلك استقصار لقوله، واستدراك عليه صلى الله عليه وسلم؛ وبالله التوفيق1.
1 هذه مسألة مهمة، وتكلم الناسُ فيها، وأنا أسوق كلامهم فيها ليستفاد.
قال الإمام أبو الخطاب أبو دحية في كتاب "التنوير في كلام السراج المنير"، قالوا: إذا ذكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ من أمته انبغى له أنّ يُصلِّيَ عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَليَّ مَرَّةً صلى اللهُ عليه عشرًا"[مسلم، رقم: 408]، ولا يجوز أن يترتحم عليه؛ لأنه لم يقل: من ترحم عليّ، ولا من دعا لي؛ وإن كانت الصلاة بمعنى الرحمة؛ فكأنه خص بها اللفظ تعظيمًا له. قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، ولم يقل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يترحمون على النبي، وإن كان المعنى واحدًا.
وقال الرافعي في "الشرح الكبير": قال الصيدلاني: ومن الناس من يزيد: وَارْحَمْ مُحَمَّداً وآلَ محمدٍ كما رحمت على إبراهيم، وربما يقولون: كما ترحمت على إبراهيم. قال: وهذا لم يرد في الخبر، وهو غير فصيح، فإنه لا يقالُ: رحمت عليه، وإنما يقالُ: رحمته. وأما الترحم، ففيه معنى التكلف والتصنع، فلا يحسن إطلاقه في حق الله تعالى.
ونقل الأذرعي في "التوسط" مثل ذلك عن القفال والروياني، وقال الزركشي في "الخادم"، قال النووي في "شرح مسلم": المختار أنه لا يذكر الرحمة؛ لأنهُ عليه الصلاة والسلام علمهم الصلاة بدونها، وإن كان الدعاء الرحمة، فلا تفردُ بالذكر، وكذا قال القاضي عياضُ وغيره. =
..................................
وممّن نصّ على إطلاق منع الرحمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم على الانفراد الحافظ أبو عمر ابن عبد البر، وأبو القاسم الأنصاري شارح "الإرشاد" والقاضي عياش في "الإكمال" ونقله عن الجمهور.
وقال الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذي": اختلف في جواز ذلك أو مشروعيته، فمنع أبو عمر بن عبد البر الدعاء له بالرحمة والمغفرة، وذهب أبو محمد بن أبي زيد من المالكية إلى استحباب الإتيان في الصلاة عليه بالترحم. وكذلك اختلف أصحابُ الشافعي أيضًا في ذلك؛ فحكى الرافعي عن أبي بكر الصيدلاني.. وذكر ما تقدم.
ثم قال: وقوله: إنه لم يرد في الخبر، ليس بجيد، فقد ورد، لكنه لم يصح، ويجوز أن يقال في الضعيف ورد.
وهو ما رواه الإمام أحمد في "المسند"[353/5] من رواية أبي داود الأعمى، عن بريدة، قال: قلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال:"قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحماتك وبركاتك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ". وأبو داود الأعمى اسمه نفيع ضعيف جدًّا، رافضي، متهم بوضع الحديث.
وروى التيمي في مسلسلاته، والقاضي عياض في "الشفا" من طريق حرب بن الحسن الطحان، عن يحيى بن المساور، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب، قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"عدهن في يدي جبريل، وقال: هكذا نزلت من عند رب العزة: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدُ، اللهم وترحم على محمدٍ وعلى آل محمد، كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدُ، اللهم وتحنن على محمدٍ وعلى آل محمد، كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم وسلم على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما سلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ".
قال العراقي: وعمرو ويحيى كل منهما غير ثقةٍ، والإسنادُ ضعيف جدًّا، عمرو بن خالد الكوفي كذاب وضاع، ويحيى بن المساور كذبه الأزدي أيضًا، وحرب بن الحسن الطحان أورده الأزدي في الضعفاء، قال: وليس حديثه بذاك.
ثم قال العراقي: وفي إنكار جواز الدعاء له بالرحمة نظر، فقد ثبت في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
…
"، ففي هذا الدعاء له بالرحمة. وقد ثبت في الصحيح، في قصة الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمدًا" [البخاري: رقم: 220] . ومن أنكر الإتيان بهذا اللفظ في التشهد فليس مدركه في ذلك أن الدعاء به له ممتنع؛ فقد قال ابن العربي =
...................................
= عَقِبَهُ: ويجوز أن يترحم عليه في كل وقت، وإنما مدركه أن هذا باب اتباع وتعبد، فيقتصر فيه على المنصوص، وتكون الزيادة فيه بدعة؛ لأنه إحداث عبادة في محل مخصوص لم يرد بها نص، وابن أبي زيد لم يقل هذا من عند نفسه من غير دليل ورد بجانبه، وإنما قاله اتباعًا لأحاديث وردت فيه، وإن كانت لم تصح، فلعل ابن أبي زيد رأى هذا من فضائل الأعمال التي يُتساهلُ فيها في الحديث الضعيف، لاندراجه في العمومات، ويكون صح عنده بعضها. فقد روي الحاكم في "مستدركه"[269/1] وصححه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ". فهذا أصح ما ورد في ذكر الرحمة في التشهد.
وقد قال القاضي عياضُ في "الشفاء": ذهب أبو عمر بن عبد البر وغيره إلى أنه لا يدعى له بالرحمة، وإنما يدعى له بالصلاة والبركة التي تختص به، ويدعى لغيره بالرحمة والمغفرة.
ثم نقل عن بكر القشيري قال: الصلاة من الله تعالى لمن دون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وله تشريف وزيادة مكرمة، فإذا عرفنا الخلاف في ذلك، فسواءٌ فسرنا الصلاة من الله بالرحمة أو المغفرة أو الثناء عليه عند الملائكة، أو التعظيم أو التشريف وزيادة المكرمة؛ لو أتينا عقب التشهد في الصلاة بأحد هذه الألفاظ لم يتم مقامُ الصلاة ولم يسقط بذلك فرضها، ولا حصلت سنتها عند من يراها سنة للتعبد بهذا اللفظ دون غيره من الألفاظ، وباب العبادات يُتلقى من الشارع على حسب ما ورد من غير رواية بالمعنى ولا زيادة ولا نقص، وهذا مدرك ابن العربي وغيره في إنكار لفظ الرحمة في هذا المحل الخاص، مع نقل ابن العربي عن علمائهم؛ أن الصلاة من الله الرحمة؛ فإن أتى بلفظ الرحمة بدل الصلاة فهذا يمنع اتفاقًا عند القائل به، ولعله أرجح لضعف الأحاديث في ذلك.
وقال الشيخ بدر الدين ابن الدماميني في كتاب "حُسن الاقتصاص فيما يتعلق بالاختصاص": ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه لا يدعى له بالرحمة، وإنما يدعى له بالصلاة والبركة التي يختص بها، ويدعى لغيره بالرحمة والمغفرة؛ كذا قال ابن عبد البر وعد ذلك من خصائصه. قال: وقد رويت الصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة بألفاظ متقاربة، وليس في شيء منها "وارحم محمدًا وآل محمد" وإنما فيها لفظ الصلاة والبركة لا غير، ولا أحب لأحد أن يقول: وارحم محمدًا. والصلاة وإن كانت من الله الرحمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خص بهذا اللفظ.
قال ابن الدماميني: وقد ذكر ابن أبي زيد في "رسالته" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم محمدًا وآل محمد" وحجتهُ ما ثبت في التشهد: "السلام عليك أيها النبي =
....................................
= ورحمة الله وبركاته" فلا معنى لإنكار الدعاء له بالرحمة بعد تعليمه إيّانا الدعاء بها له. قال الحافظ ابن حجر في "أماليه": قد سبق إلى إنكار ذلك من الفقهاء الشافعية: الصيدلاني، وحكاهُ عند الرافعي ولم يتعقبه. ومن المحدثين المالكية أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" وليس يجيد منهم، فإنها وردت من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث بريدة:
فحديث أبي هريرة أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"[رقم: 641] بسند عنه صلى الله عليه وسلم، قال:"من قال: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة بالشهادة، وشفعت له".
وحديث ابن عباس أخرجهُ أبو جعفر الطبري بسند ضعيف عنه، قال: قالوا: يا رسول الله! قد علمنا السلام عليك، فيكف الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيدًا".
وحديث ابن مسعود وبريدة مرا.
وروى أبو بكر بن أبي عاصم بسند ضعيف؛ عن أبي هريرة قال: يا رسول الله! أمرنا الله بالصلاة، فكيف الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ؛ كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وارحم محمدًا وآل محمدٍ كما رحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، والسلامُ كما قد علمتُم".
وروي ابن ماجه [رقم: 906] وغيرُه، بسندٍ حسن؛ عن ابن مسعودٍ، قال: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرضُ عليه. قالوا له: فعلمنا. قال: قولوا: اللهم اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين
…
الحديث. ورواه بعضهم عن ابن مسعود مرفوعًا.
وروى أبو القاسم البغوي في "فوائده" عن ثوير مولى بني هاشم، قال: قلت لابن عمر: كيف الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم اجعل
…
فذكر نحوه.
فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا، وأقواها أولها، ويدل مجموعها على أن للزيادة أصلاً.
وأما حديثُ علي: "عدهن في يدي" فاعتقادي أنه موضوع. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
وأقول: الذي دلت عليه هذه الأحاديثُ جوازُ الدعاء له بالرحمة على سبيل التبعية لذكر الصلاة والسلام، كما في سلام التشهد على وجه الإطناب والحكاية، وأما على وجه الإفراد، كأن يُقال: النبي رحمه الله! فلا شك في منعه، وهو خلاف الأدب، وخلاف المأمور به عند ذكره من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولا ورد ما يدل عليه البتة، ورب شيء يجوز تبعًا ولا يجوز استقلالًا، ونظيرهُ هنا الصلاة على غير الأنبياء؛ فإنها تجوز على وجه التبعية لهم، وتمتنع على وجه الاستقلال؛ والله أعلم.