الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ النهي عن الكذاب وبيان أقسامه
…
بابُ النهي عن الكَذبِ وبيان أقسامهِ:
1917-
قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنّة على تحريم الكذب في الجملةِ، وهو من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب. وإجماعُ الأمةِ منعقدٌ على تحريمهِ مع النصوص المتظاهرةِ، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمُ بيانُ ما يُستثنى منهُ، والتنبيهُ على دقائقه.
1918-
ويكفي في التنفير منهُ الحديثُ المتفقُ على صحته، وهو ما رَوَيْنَاه في "صحيحيهما"[البخاري، رقم: 33؛ مسلم، رقم: 59] ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدث كذب، وإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤتمن خان". [ومر برقم: 1623] .
1919-
وَرَوَيْنَا في "صحيحيهما"[البخاري، رقم: 34؛ مسلم، رقم: 58] ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خصلةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلةٌ مِنْ نفاقٍِ حتَّى يَدَعَها: إذا اؤتمن خانَ، وَإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عاهَدَ غدرَ، وَإِذَا خاصَمَ فَجَرَ".
وفي رواية مسلمٍ: "إذا وعدَ أخلفَ" بدل: "وإذا اؤتمن خان".
1920-
وأما المستثنى منهُ فقد روينا في صحيحي البخاري [رقم: 2692] ومسلم [رقم: 2605] ؛ عن أُمّ كلثوم رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"لَيْسَ الكذابُ الَّذي يصلحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً، أوْ يَقُولُ خَيْراً". هذا القدرُ في "صحيحيهما".
وزاد مسلمٌ في روايةٍ لهُ: قالتْ أُمّ كلثوم: ولم أسمعهُ يرخصُ في شيءٍ مما يقول الناسُ إلا من ثلاثٍ؛ يعني: الحرب، والإِصلاح بين الناس،
وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها. فهذا حديثٌ صريحٌ في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماءُ ما يباحُ منهُ.
1921-
وأحسنُ ما رأيتهُ في ضبطهِ، ما ذكرهُ الإمامُ أو حامدٍ الغزالي رحمه الله في الإحياء [3/ 137] فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يمكنُ التوصلُ إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذبُ فيه حرامٌ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيلُ ذلك المقصود مُباحًا، وواجبٌ إن كان المقصود واجباً؛ فإذا اختفى مسلمٌ من ظالمٍ وسألَ عنهُ، وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندهُ أو عندَ غيره وديعةٌ، وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه، فأخذَها الظالمُ قهراً، وجبَ ضمانُها على المُودع المُخبر، ولو استحلفهُ عليها لزمهُ أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورِ حنثَ على الأصحّ، وقيل: لا يحنثُ، وكذلك لو كان مقصودُ حربٍ، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو استمالةُ قلبِ المجني عليهِ في العفوِ عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرامٍ؛ وهذا إذا لم يحصُل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلهِ أن يورّي؛ ومعنى التوريةِ: أن يقصدَ بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هُو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ، ولو لم يقصد هذا بل أطلق عبارةَ الكذب فليس بحرامٍ في هذا الموضع.
1922-
قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كل ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي لهُ: مثلُ أن يأخذهُ ظالمٌ ويسألهُ عن مالهِ ليأخذهُ، فله أن ينكرهُ، أو يسألهُ السلطانُ عن فاحشةٍ بينهُ وبينَ الله تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها، ويقولُ: ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً؛ وقد