الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه
…
كانتْ تهابُ لقاءهُ الشجعان1
قال [أبو الفضل العباس بن الفرج] الرِّيَاشِيُّ رحمه الله [من الوافر] :
لعمرُك إنَّ في ذنبي لَشُغْلاً
…
لِنَفْسِي عن ذنوب بني أميهْ
على ربِّي حِسَابُهمُ إليه
…
تَنَاهَى علمُ ذلكَ لا إِلَيَّهْ
وليسَ بضائري ما قَدْ أتوْهُ
…
إذا ما اللَّه أصلحَ ما لديَّهْ
1 ينسب هذان البيتان للإمام الشافعي رحمه الله، وقال الميداني في "مجمع الأمثال" الجزء الثاني، الباب الرابع والعشرون فيما أوله ميم بعد مثل: المكثار حاطب ليل: قال الشاعر:
احفظْ لسانَك أيُّها الإنسان
…
لا يقتلنك إنه ثُعبانُ
كم في المقابرِ من قتيل لسانه
…
كانت تخافُ لقاءه الأقرانُ
بابُ تحريم الغِيبَةِ والنَّمِيمَة:
1715-
اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح، وأكثرها انتشاراً في الناس، حتى ما يسلمُ منهما إلا القليلُ من الناس، فلعمومِ الحاجةِ إلى التحذير منهما بدأتُ بهما.
1716-
فأمَّا الغيبة: فهي ذكرُك الإِنسانَ بما فيه مما يكرهُ، سواءٌ كان في بدنه، أو دينه، أو دنياهُ، أو نفسهِ، أو خلقهِ، أو خلُقهِ، أو ماله، أو ولدهِ، أو والدهِ، أو زوجهِ، أو خادمهِ، أو مملوكهِ، أو عمامتهِ، أو ثوبهِ، أو مشيته، وحركتهِ، وبشاشته، وخلاعته، وعبُوسه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواءٌ ذكرتهُ بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ، أو أشرتَ إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك.
أما البدن، فكقولك: أعمى أعرج، أعمشُ، أقرعُ، قصيرٌ، طويلٌ، أسودُ، أصفرُ.
وأما الدِّيْنُ، فكقولك: فاسقٌ، سارقٌ، خائنٌ، ظالمٌ، متهاونٌ بالصلاةِ، مُتساهلٌ في النجاسات، ليس بارّاً بوالده، لا يضعُ الزكاة مواضعَها، لا يجتنبُ الغيبة.
وأما الدنيا: فقليلُ الأدب، يتهاونُ بالناس، لا يرى لأحد عليه حقاً، كثير الكلام، كثر الأكل أو النوم، ينامُ في غير وقته، يجلسُ في غير موضعه.
وأما المتعلِّق بوالده، فكقوله: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكافٌ، بزار1، نحاسٌ، نجار، حداد، حائك.
وأما الخلقُ، فكقوله: سيئ الخلق، متكبرٌ، مُراءٍ، عجولٌ، جبارٌ، عاجزٌ، ضعيفُ القلب، متهورٌ، عبوسٌ، خليعٌ، ونحوهُ.
وأما الثوبُ: فواسع الكمّ، طويل الذيل، وسخ الثوب، ونحو ذلك.
ويُقاس الباقي بما ذكرناه. وضابطُه: ذكرُه بما يكره.
وقد نقل الإِمام أبو حامد الغزالي ["الإحياء" 3/ 143] إجماع المسلمين على أن الغيبة: ذكرُك غيرك بم يكرَهُ، وسيأتي الحديث الصحيح المصرِّح بذلك [رقم: 1721] .
1717-
وأما النميمةُ، فهي: نقلُ كلامِ الناسِ بعضِهم إلى بعضٍ على جهةِ الإفسادِ.
1718-
هذا بيانُهُما، وأما حُكمُهُما، فهُما مُحرمتانِ بإجماع المسلمين، وقد تظاهرَ على تحريمهما الدلائلُ الصريحةُ من الكتاب والسنّة وإجماع الأمة، قال الله تعالى:{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ،
1 في نسخة: "جزار".
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقال تعالى:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] .
1719-
وَرَوَيْنَا في صحيحي البخاري [رقم: 6055]، ومسلم [رقم: 105] ؛ عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نمامٌ".
1720-
وَرَوَيْنَا في صحيحيهما [البخاري، رقم: 216؛ مسلم، رقم: 292] ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال:"إنَّهُما يُعذبان، ومَا يُعَذَّبانِ في كَبير".
قال: وفي رواية البخاري: "بلى إنَّه كبيرٌ؛ أمَّا أحدهُما فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، وأما الآخَرُ فَكانَ لا يستترُ مِنْ بولهِ".
قلتُ: قال العلماءُ: معنى: "وما يُعذّبان في كبير" أي: في كبيرٍ في زعمهما، أو كبيرٍ تكرهُ عليهما.
1721-
وَرَوَيْنَا في "صحيح مسلم"[رقم: 2589]، و"سنن أبي داود" [رقم: 4874] ، والترمذي [رقم: 1934] ، والنسائي [في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"، رقم: 13985] ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أتَدْرُونَ ما الغِيْبَةُ"؟ قالوا: اللَّهُ ورسولهُ أعلمُ، قال:"ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قيل: أفرأيتَ إنْ كانَ في أخي ما أقولُ؟ قال: "إنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ"، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح.
1722-
وَرَوَيْنَا في صحيحي البخاري [رقم: 105]، ومسلم [رقم: 1679] ؛ عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبتهِ يوم النحرِ بِمنىً في حجةِ الوادعِ:"إنَّ دماءكُم وَأمْوَالكُمْ وأعْرَاضَكُمْ حرامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا؛ ألا هَلْ بَلَّغْتُ"؟.
1723-
وَرَوَيْنَا في "سنن أبي داود"[رقم: 4875]، والترمذي [رقم:
2502، 2503] ؛ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: حسبُك من صفيّة كذا وكذا -قال بعضُ الرواة: تعني قصيرة- فقال: "لَقَدْ قلتُ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بماءِ البحرِ لمزجتهُ"، قالت: وحكيتُ له إنساناً، فقال:"ما أحبُ أني حكيتُ إنساناً وأنَّ لي كَذَا وكَذَا"، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قلتُ: "مزجتهُ" أي: خالطتهُ مُخالطةً يتغيرُ بها طعمهُ أو ريحهُ لشدةِ نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمُها؛ وما أعلمُ شيئاً من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] نسألُ اللَّه الكريم لطفه والعافية مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ.
1724-
وَرَوَيْنَا في "سنن أبي داود"[رقم: 4878]، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا عُرج بِي، مررتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أظفارٌ مِنْ نُحاسٍ يخمشونَ وُجُوهَهُمْ وصدُورهُم، فقلتُ: مَنْ هؤُلاءِ يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَؤُلاءِ الَّذينَ يأكُلُونَ لحومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ".
1725-
وَرَوَيْنَا فيه [رقم: 4876] ، عن سعيد بن زيدٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ مِنْ أرْبَى الرّبا الاسْتِطالَةَ في عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ".
1726-
وَرَوَيْنَا في "كتاب الترمذي"[رقم: 1927] ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَخونُهُ وَلا يَكْذِبُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حرامٌ، عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى ها هنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاهُ المسلم"، قال الترمذي: حديث حسن [راجع رواية البخاري، رقم 6064، 6065؛ ومسلم، رقم: 2563، 2564؛ وراجع "الأربعون النووية" الحديث رقم: 35؛ وسيرد برقم: 1765] .
قلتُ: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائدهُ؛ وبالله التوفيقُ.