الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ التعريض والتورية:
1927-
اعلم أن هذا الباب من أهمّ الأبوابِ، فإنهُ مما يكثرُ استعمالهُ وتعمُ به البلوى، فينبغي لنا نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأملَه ويعملَ بهِ، وقد قدمنا ما في الكذب من التحريم الغليظ [الباب رقم: 568] وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا البابُ طريقٌ إلى السلامة من ذلك.
واعلم أن التوريةَ والتعريضَ معناهُما: أن تُطلقِ لفظاً هُو ظاهرٌ في معنى، وتريدُ به معنىً آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنهُ خلافُ ظاهره، وهذا ضربٌ من التغرير والخداع.
قال العلماءُ رحمهم الله: فإن دعتِ إلى ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخاطب، أو حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك فهو مكروهٌ، وليس بحرامٍ، إلا أن يُتوصَل به إلى أخذ باطلٍ، أو دفع حقٌ، فيصيرُ حينئذٍ حراماً، هذا ضابطُ الباب.
فأما الآثارُ الواردةُ فيهِ، فقد جاءَ من الأثارِ ما يُبيحهُ، وما لا يبيحهُ، وهي محمولةٌ على هذا التفصيل الذي ذكرناهُ.
1928-
فمما جاء في المنع: ما روينا في "سنن أبي داود"[رقم: 4971] ، بإسناد فيه ضعفٌ، لَكِنْ لم يُضَعِّفه أبو داود، فيقتضي أن يكون حسناً عندهُ كما سبق بيانه [رقم: 75] ، عن سفيان بن أسيدٍ -بفتح الهمزة- رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "كَبُرَتْ خِيانَةً أنْ تُحدث
أخاكَ حَدِيثاً هُوَ لَكَ بِهِ مصدقٌ، وأنت [له] بِهِ كاذبٌ ".
1929-
وَرَوَيْنَا عن ابن سيرين رحمه الله، أنه قال: الكلامُ أوسعُ من أن يكذب ظريفٌ [أخرجه ابن عدي والبيهقي كما في "الدر المنثور"، سورة التوبة/ الآية:119.
1930-
مثال التعريض المباحِ ما قالهُ النخعي رحمه الله: إذا بَلَغَ الرجلَ عنك شيءٌ قلتَه، فقل: الله يعلمُ ما قلتُ من ذلك من شيءٍ؛ فيتوهم السامعُ النفيَ، ومقصودُك: الله يعلمُ الذي قلتهُ.
1931-
وقال النخعيُّ أيضاً: لا تقُل لابنك: أشتري لك سُكَّرًا؟ بل قُل: أرأيتَ لو اشتريتُ لك سُكرًا؟
1932-
وكان النخعي إذا طلبهُ رجلٌ، قال للجارية: قُولي لهُ: اطلبهُ في المسجد.
1933-
وقال غيره: خرج أبي في وقتٍ قبل هذا.
1934-
وكان الشعبي يخطّ دائرة، ويقولُ للجارية: ضعي أُصبعك فيها، وقولي: ليس هو ههنا.
1935-
ومثل هذا قولُ الناس في العادة لمن دعاهُ لطعامٍ: أنا على نيةٍ؛ موهماً أنه صائمٌ، ومقصودُه على نيّة ترك الأكل.
1936-
ومثلهُ: أبصرتَ فُلانًا؟ فيقول: ما رأيتُه، أي: ما ضربتُ رئته، ونظائرُ هذا كثيرةٌ.
1937-
ولو حلف على شيءٍ من هذا، وورَّى في يمينه لم يحنثْ، سواءٌ حلفَ بالله تعالى أو حلفَ بالطلاق أو بغيره، فلا يقعُ عليه الطلاق