الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
558-
فصل [جواز قول: فِداكَ أبي وأُمي] :
1880-
المذهبُ الصحيحُ المختارُ أنهُ لا يكرهُ قولُ الإنسانِ لغيرهِ: فداكَ أبي وأُمي، أو جعلني اللهُ فداك، وقد تظاهرتْ على جواز ذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما، وسواءٌ كانَ الأبوان مسلمين أو كافرين، وكَرِهَ ذلك بعضُ العلماء إذا كان مُسلمين. قال النحاس: وكرهَ مالكُ بن أنسٍ رحمه الله: جعلني الله فداك، وأجازهُ بعضهم. ["صناعة الكتاب، صفحة: 243] قال القاضي عياضٌ: ذهبَ جمهورُ العلماء إلى جواز ذلك، سواءٌ كان الْمُفَدَّى به مسلماً أو كافراً.
قلتُ: وقد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك ما لا يُحصى، وقد نبَّهتُ على جملٍ منها في "شرح صحيح مسلم"[5/ 184] .
559-
فصل [ذم المِراء والجِدال والخُصومة] :
1881-
ومما يُذمّ من الألفاظ: المراءُ والجدالُ والخصومةُ.
قال الإِمام أبو حامد الغزالي [3/ 117] رحمه الله: المراءُ طعنُك في كلامِ الغير لإِظهار خللٍ فيه لغير غرضٍ سوى تحقيرٍ قائلهِ وإظهار مزيَّتِك عليه.
قال: وأما الجدالُ، فعبارةٌ عن أمرٍ يتعلقُ بإظهار المذاهب وتقريرها.
قال: وأما الخصومةُ، فلِجَاجٌ في الكلام ليستوفيَ به مقصودَه من مالٍ أو غيرهِ، وتارة يكونُ ابتداءً، وتارة يكونُ اعتراضاً؛ والمراءُ لا يكونُ إلا اعتراضاً. هذا كلام الغزالي.
واعلم أن الجدال قد يكون بِحَقّ، وقد يكون بباطل، قال الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] فإن كان الجدالُ للوقوفِ على الحقّ وتقريرِه كان محموداً، وإن كان في مدافعةِ الحقّ، أو كان جدالاً بغير علمٍ كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل
تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمّه، والمجادلة والجدالُ بمعنى، وقد أوضحتُ ذلك مبسوطاً في "تهذيب الأسماء واللغات"[2/ 48] .
قال بعضُهم: ما رأيتُ شيئاً أذهبَ للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيعَ للذةٍ، ولا أشعل للقلب من الخصومة.
فإن قلتَ: لا بُدَّ للإنسانِ من الخصومة لاستبقاء1 حقوقه.
فالجوابُ: ما أجابَ بهِ الإمامُ الغزالي أن الذمَّ المتأكدَ إنما هُوَ لمن خاصمَ بالباطلِ، أو بغير علمٍ؛ كوكيل القاضي، فإنهُ يتوكلُ في الخصومةِ قبلَ أن يعرفَ أن الحقّ في أيّ جانبِ هوَ، فيخاصمُ بغير علمٍ.
ويدخلُ في الذمّ أيضاً مَن يطلبُ حَقَّه لكنهُ لا يقتصرُ على قدرِ الحاجة، بل يظهرُ اللددَ والكذبَ للإِيذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خَلَطَ بالخصومة كلماتٍ تُؤذي، وليس له إليها حاجةٌ في تحصيل حقه، وكذلك مَن يحملهُ على الخصومة محضُ العنادِ لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلومُ الذي ينصرُ حجتهُ بطريق الشرع من غير لددٍ وإسرافٍ، وزيادةِ لجاجٍ على الحاجة من غير قصدِ عنادٍ ولا إيذاء، ففعلهُ هذا ليس حرامًا ولكن الولى تركهُ وما وجدَ إليه سبيلاً؛ لأنَّ ضبطَ اللسان في الخصومة على حدّ الاعتدالِ متعذرٌ، والخصومةُ توغرُ الصدورَ، وتهيجُ الغضبَ، وإذا هاجَ الغضبُ حصلَ الحقدُ بينهما حتى يفرح كل واحدٍ منهم بمساءةِ الآخر، ويحزنُ بمسرّته، ويُطلق اللسانَ في عرضه، فمن خاصمَ فقد تعرّضَ لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغالُ القلب، حتى أنه يكون في صلاته وخاطره متعلق2 المحاجة والخصومة، فلا يَبقى حالهُ على الاستقامة؛ والخصومةُ مبدأ الشرّ،
1 في نسخة: "لاستيفاء".
2 في نسخة: "معلق".