الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ كَفَّارةِ الغيْبةِ والتَّوْبَةِ منها:
1753-
اعلم أن كلَّ من ارتكب معصيةً لزمهُ المبادرةُ إلى التوبة منها، والتوبةُ من حقوق الله تعالى يُشترط فيها ثلاثةُ أشياء: أن يُقلع عن المعصية في الحال، وأن يندمَ على فعلها، وأن يَعزِمَ ألاّ يعود إليها.
والتوبةُ من حقوق الآدميين يُشترط فيها هذه الثلاثةُ ورابعٌ، وهو: ردّ الظلامةِ إلى صاحبها، أو طلب عفوه عنها، والإِبراء منها؛ فيجبُ على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة؛ لأن الغيبة حقّ آدمي، ولا بدّ من استحلاله مَن اغتابَه، وهل يكفيه أن يقول: قد اغتبتُك، فاجعلني في حلّ، أم لا بُدَّ أن يبيّنَ ما اغتابه به؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي رحمهم الله:
أحدهما: يُشترط بيانُه، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصحّ، كما لو أبرأه عن مالٍ مجهولٍ.
والثاني: لا يُشترط؛ لأن هذا مما يُتسامحُ فيه، فلا يُشترط علمهُ، بخلاف المال.
والأوّل أظهرُ؛ لأن الإِنسانََ قد يسمحُ بالعفو عن غيبة دونَ غِيبة؛ فإن كان صاحبُ الغيبةِ ميّتاً أو غائباً، فقد تعذّرَ تحصيلُ البراءةِ منها؛ لكن قال العلماءُ: ينبغي أن يُكثر الاستغفار له والدعاءَ، ويُكثر من الحسنات.
واعلم أنه يُستحبّ لصاحب الغِيبة أن يبرئه منها، ولا يحبُ عليه ذلك؛ لأنه تبرّعٌ وإسقاطُ حقٌ، فكان إلى خِيرَته، ولكن يُستحبّ له استحباباً متأكداً الإِبراء، ليخلِّصَ أخاهُ المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوزَ هُو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وطريقهُ في تطيب نفسه بالعفو أن يذكِّرَ نفسَه أنَّ هَذَا الأمْرَ قد وقعَ، ولا سبيلَ إلى رفعه، فلا ينبغي أن أُفوِّتَ ثوابهُ وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال الله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] الآية. والآياتُ بنحو ما ذكرناهُ كثيرةٌ.
1754-
وفي الحديث الصحيح [مسلم، رقم: 2699] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَاللَّهُ فِي عونِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْن أخيه". [مر برقم: 1609] .
1755-
وقد قال الشافعي رحمه الله: من استُرضِي فلم يرضَ فهو شيطانٌ.
1756-
وقد أنشد المتقدمون [وينسب للإمام الشافعي رحمه الله، من الخفيف] :
قيلَ لي: قد أساءَ إليك فلانٌ
…
ومقامُ الفَتَى على الذُّلِّ عارُ
قلتُ: قدْ جاءَنَا وأحْدَثَ عُذْراً
…
ديةُ الذنبِ عِندنَا الاعْتذَارُ
1757-
فهذا الذي ذكرناهُ من الحثَ على الإِبراء عن الغيبة هو الصوابُ، وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا أُحلل مَن ظلمني؛ وعن ابن سيرين: لم أُحرّمها عليه فأُحلِّلُهَا لهُ؛ لأن الله تعالى حرّم الغيبةَ عليه، وما كنتُ لأُحَلِّلَ ما حرمهُ الله تعالى أبداً؛ فهو ضعيفُ، أو غلطٌ؛ راجع فيض القدير فإن المبرئ لا يحلِّلُ محرّماً، وإنما يُسقط حقاً ثبتَ لهُ، وقد تظاهرت نصوصُ الكتابِ والسنّة على استحباب العفو، وإسقاط الحقوق المختصّة بالمسقِط؛ أو يحملُ كلامُ ابن سيرين على أني لا أبيحُ غيبتي أبداً، وهذا صحيحٌ، فإن الإِنسانَ لو قال: أبحتُ عرضي لمن اغتابني لم يَصرْ مباحاً، بل يحرمُ على كل أحدٍ غيبتهُ كما تحرمُ غيبةُ غيرهِ.
1758-
وأما الحديث [أبو داود، رقم: 4886، 4887] : "أيَعْجِزُ أحدكُم أنْ يَكُونَ كأبِي ضمضمٍ؟ كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بيتهِ، قالَ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي على الناس". [مر برقم: 462]، فمعناهُ: لا أطلبُ مَظلمتي ممّن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا يَنفعُ في إسقاط مظلمةٍ كانت موجودة قبل الإبراءِ. فأما ما يحدثُ بعدهُ فلا بدّ من إبراءٍ جديدٍ بعدَها؛ وبالله التوفيق.