الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
204-
فصل [في ألفاظ التعزية] :
785-
وأما لفظ التعزية فلا حجرَ فيه، فبأيّ لفظ عزَّاه حصلت. واستحبَّ أصحابُنا أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعْظَمَ اللَّهُ أجْرَكَ، وأحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَغَفَرَ لمَيِّتِكَ، وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرَك. وأحسن عزاءَك. وفي الكافر بالمسلم: أَحسن الله عزاءك، وغفر لميّتك. وفي الكافر بالكافر: أخلف الله عليك.
786-
وأحسن ما يُعزَّى به: ما روينا في "صحيحي" البخاري [رقم: 1284] ومسلم [رقم: 923] ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: أرسلتْ إحدى بنات النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أنّ صبياً لها أو ابناً في الموت، فقال للرسول:"ارْجعْ إلَيْها فأخْبرْها أنَّ لِلَّهِ تَعالى ما أخَذَ، وَلَهُ ما أعْطَى، وكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأجَلٍ مُسَمَّى؛ فمُرْها فَلْتَصْبرْ، وَلْتَحْتَسبْ" وذكر تمام الحديث.
787-
قلتُ: فهذا الحديثُ من أعظم قواعدِ الإسلامِ المشتملة على مهماتٍ كثيرةٍ من أول الدين وفروعه، والآداب والصبر على النوازل كلِّها، والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض؛ ومعنى "إنَّ لِلَّهِ تَعالى ما أخذ": أن العالم كله ملكٌ للهِ تعالى، فلم يأخُذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية؛ ومعنى "وله ما أعطى": أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له سبحانهُ، يفعل فيه ما يشاء، "وكل شيءٍ عندهُ بأجلٍ مسمّى" فلا
تجزعوا، فإن من قبضه قد انقضى أجَله المسمَّى، فمحالٌ تأخرهُ، أو تقدمه عنه، فإذا علمتُم هذا كله فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم، والله أعلم.
788-
وروينا في "كتاب النسائي"[رقم: 1870 و2088] ، بإسناد حسن، عن معاوية بن قرّة بن إياس، عن أبيه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم فقدَ بعضَ أصحابه، فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله! بُنَيُّهُ الذي رأيته هلك؛ فلقيهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن بنيّه، فأخبره أنه هلك، فعزاهُ عليه، ثم قال:"يا فُلانُ! أيُّما كانَ أحَبَّ إلَيْكَ؟ أَنْ تَمتَّع بِهِ عُمُرَكَ، أوْ لا تَأتِي غَداً باباً مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ إِلَاّ وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ"؟، قال: يا نبيّ الله! بل يسبقني إلى الجنة، فيفتحها لي، لهو أحبّ إليّ، قال:"فَذَلِكَ لَكَ".
789-
وروى البيهقي بإسناده، في مناقب الشافعي [2/ 90 و91] ، أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، مات له ابن فجَزعَ عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً، فبعثَ إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي! عزِّ نفسك بما تَعَزَّى به غيرُك، واستقبحْ من فعلك ما تستقبحُه من فعل غيرك. واعلم أن أمضَّ المصائب فقدُ سرورٍ، وحرمانُ أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتِساب وزر؟ فتناول حظَّكَ يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبَه وقد نأى عنك، ألهمك اللَّهُ عند المصائب صبراً، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجراً؛ وكتب إليه [من البسيط] :
إنّي مُعَزِّيكَ لا أني على ثِقَةٍ
…
مِنَ الخُلُودِ وَلَكِنْ سُنَّةُ الدّينِ
فَمَا المُعَزَّى بباقٍ بَعْدَ مَيِّتِهِ
…
وَلا المُعَزِّي وَلَوْ عاشا إلى حِينِ
790-
وكتبَ رجلٌ إلى بعض إخوانه يعزُّيه بابنه: أما بعدُ، فإنَّ الولدَ على والده ما عاش حزنٌ وفتنةٌ، فإذ قدّمه فصلاةٌ ورحمةٌ، فلا تجزعْ على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيّع ما عوّضك الله عز وجل من صلاته ورحمته.
791-
وقال موسى بن المهدي لإِبراهيم بن سالم، وعزَّاه بابنه: أسَرَّك وهو بليّة وفتنةٌ، وأحزنَك وهو صلوات ورحمة؟!
يعني بالأول قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] وبالثاني قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] عن "برد الأكباد عن فقد الأولاد" لابن ناصر الدين الدمشقي.
792-
وعزَّى رجل رجلاً، فقال: عليك بتقوى الله والصبر، فبه يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع.
793-
وعزَّى رجلٌ رجلاً، فقال: إن من كان لك في الآخرة أجراً، خيرٌ ممّن كان لك في الدنيا سروراً.
794-
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه دفن ابناً لهُ، وضحك عند قبرهِ، فقيلَ لهُ: أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أن أرغم أنف الشيطان.
795-
وعن ابن جُرَيْجٍ رحمه الله، قال: من لم يتعزّ عند مصيبته بالأجر والاحتساب، سَلَا كما تَسْلُو البهائم.
796-
وعن حميدٍ الأعرج، قال: رأيت سعيدَ بن جُبير رحمه الله يقول في ابنه، ونظر إليه: إني لأعلم خير خلةٍ فيك، قيل: ما هي؟ قال: يموت، فأحتسبه.
797-
وعن الحسن البصري رحمه الله، أن رجلاً جَزِع على ولده، وشكا ذلك إليه؛ فقال الحسن: كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم، كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فاتركه غائباً، فإنه لم يغبْ عنك غيبة الأجْرُ لك فيها أعظم من هذه، قال: يا أبا سعيد! هوَّنت عنّي وجْدي على ابني. ["التعازي والمراثي" للمبرد، صفحة: 198] .
798-
وعن ميمون بن مهران، قال: عزَّى رجل عمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه على ابنه عبد الملك رضي الله عنه، فقال عمر: الأمر الذي نزل بعبد الملك أمرٌ كنّا نعرفهُ، فلما وقع لم ننكره.
799-
وعن بشر بن عبد الله قال: قام عمرُ بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك، فقال: رحمك الله يا بني، فقد كنت سارًّا مولدًا، وبارًّا ناشئًا، وما أحبّ أني دعوتك فأجبتني.
800-
وعن مسلمة، قال: لما ماتَ عبدُ الملك بن عمر، كشفَ أبوه عن وجهه، وقال: رحمك الله يا بني! فقد سررت بك يوم بُشِّرْتُ بك، ولقد عُمِّرت مسروراً بك، وما أتت عليّ ساعةٌ أنا فيها أسرُ من ساعتي هذه، أما والله إن كنتَ لتدعو أباك إلى الجنة.
801-
قال أبو الحسن المدائني: دخل عمرُ بنُ عبد العزيز على ابنه في وجعه، فقال: يا بني! كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحقّ؟ قال: يا بنيّ! لأن تكون في ميزاني أحَبَّ إلَيّ مِنْ أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبتِ! لأن يكون ما تُحبُّ أحَبَّ إِليَّ مِنْ أن يكون ما أحب.
802-
وعن جُويرية بن أسماء، عن عمّه، أن إخوة ثلاثة شهدوا يوم تُسْتَرَ، فاسْتشهدوا، فخرجتْ أُمُّهم يومًا إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجلٌ حضرَ تُسْتَرَ، فعرفتْه، فسألته عن أمور بَنِيها، فقال: اسْتُشهدوا؛ فقالت: مُقبلين أو مُدبرين؟ قال: مُقبلين؛ قالت: الحمدُ لله، نالوا الفوزَ، وحاطوا الذِّمار، بنفسي هم وأبي وأمي.
قلت: "الذِّمار" بكسر الذال المعجمة، وهم: أهل الرجل وغيرهم مما يحقّ عليه أن يحميهُ، وقولها:"حاطوا"، أي: حفِظوا ورعوا.
803-
ومات ابن الإِمام الشافعي رضي الله عنه، فأنشد من الطويل: