الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ]
ِ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّيْرُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] يَعْنِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ فِي التِّجَارَةِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَالِبًا لِطَلَبِ الرِّبْحِ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ هَذَا الْعَقْدَ مُقَارَضَةً وَقِرَاضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَقْطَعُ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ وَيُسَلِّمُهُ لِلْعَامِلِ، وَأَصْحَابُنَا اخْتَارُوا لَفْظَةَ الْمُضَارَبَةِ لِكَوْنِهَا مُوَافِقَةً لِلنَّصِّ.
وَفِي الشَّرْعِ (هِيَ) أَيْ الْمُضَارَبَةُ (شَرِكَةٌ) فِي (الرِّبْحِ) بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْته مُضَارَبَةً أَوْ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ لَك مِنْ الرِّبْحِ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ كَالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَقُولَ الْمُضَارِبُ: قَبِلْت، فَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ رُكْنٌ، وَالظَّرْفُ لِلشَّرِكَةِ (بِمَالٍ مِنْ جَانِبٍ) - وَهُوَ جَانِبُ رَبِّ الْمَالِ - (وَعَمَلٍ مِنْ جَانِبٍ) آخَرَ وَهُوَ جَانِبُ الْمُضَارِبِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا؛ فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَبَيْنَ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِتَنْتَظِمَ مَصْلَحَةُ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَبُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (وَالْمُضَارِبُ أَمِينٌ) ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ وَالْوَثِيقَةِ.
وَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يُقْرِضَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذَهُ مِنْهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْعَمَلِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِذَا عَمِلَ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَأَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْقَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ أَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ هَلَكَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ، وَهُوَ الْعَامِلُ وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ حِيلَةً أُخْرَى، فَلْيُطَالَعْ.
(فَإِذَا تَصَرَّفَ) الْمُضَارِبُ فِي الْمَالِ (فَوَكِيلٌ) لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَالْوَكِيلِ (فَإِنْ رَبِحَ) مِنْهُ (فَشَرِيكٌ) لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَإِنْ خَالَفَ) الْمُضَارِبُ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ (فَغَاصِبٌ) وَلَوْ أَجَازَ بَعْدَهُ؛ لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ فَصَارَ غَاصِبًا، فَيَضْمَنُ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ كَمَا فِي الشُّمُنِّيِّ.
(وَإِنْ شَرَطَ كُلَّ الرِّبْحِ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (فَمُسْتَقْرِضٌ) فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ الرِّبْحِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ رَأْسُ الْمَالِ مِلْكًا لَهُ، لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُهُ لَهُ يُوجِبُ تَمْلِيكَهُ رَأْسَ الْمَالِ اقْتِضَاءً.
(وَإِنْ شَرَطَ) كُلَّ الرِّبْحِ (لِرَبِّ الْمَالِ فَمُسْتَبْضِعٌ) حَيْثُ يَكُونُ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ بِلَا بَدَلٍ، وَعَمَلُهُ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَكَأَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُتَبَرِّعًا.
(وَإِنْ فَسَدَتْ) الْمُضَارَبَةُ بِشَيْءٍ (فَأَجِيرٌ) لِأَنَّ الْمُضَارِبَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ وَمَا شَرَطَهُ لَهُ كَالْأُجْرَةِ عَلَى عَمَلِهِ، وَمَتَى فَسَدَتْ ظَهَرَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَلَا رِبْحَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَمَّا فَسَدَتْ صَارَتْ إجَارَةً (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (أَجْرُ مِثْلِهِ) أَيْ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ (رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى لِعَدَمِ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْعَمَلِ مَجَّانًا فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا أَجْرَ لَهُ إذَا لَمْ يَرْبَحْ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ.
(وَلَا يُزَادُ) أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ (عَلَى) قَدْرِ (مَا شُرِطَ لَهُ) مِنْ الرِّبْحِ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ عِنْدَهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
(وَلَا يَضْمَنُ) الْمُضَارِبُ (الْمَالَ) بِالْهَلَاكِ (فِيهَا) أَيْ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ (أَيْضًا) أَيْ كَمَا لَا يَضْمَنُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَلَا يَكُونُ ضَمِينًا، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَبِهِ يُفْتَى وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَدَمُ الضَّمَانِ قَوْلُ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ كَمَا فِي الْعِنَايَةِ.
(وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِمَالٍ تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ) مِنْ النَّقْدَيْنِ وَالتِّبْرِ وَالْفَلْسِ النَّافِقِ، لَكِنْ فِي الْكُبْرَى أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ بِالتِّبْرِ رِوَايَتَيْنِ وَعَنْ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُمَا تَصِحُّ بِالْفَلْسِ، وَلَمْ تَصِحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
(وَإِنْ دَفَعَ عَرْضًا وَقَالَ: بِعْهُ وَاعْمَلْ فِي ثَمَنِهِ مُضَارَبَةً) فَقَبِلَ (أَوْ قَالَ: اقْبِضْ مَالِي عَلَى فُلَانٍ) مِنْ الدَّيْنِ (وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً) فَقَبِلَ (جَازَتْ أَيْضًا) كَمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أُضِيفَتْ إلَى ثَمَنِ الْعَرْضِ وَهُوَ مِمَّا تَصِحُّ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أُضِيفَتْ إلَى زَمَانِ الْقَبْضِ، وَالدَّيْنُ إذَا قُبِضَ صَارَ عَيْنًا فَيَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِك، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَفِي الْمِنَحِ وَلَوْ قَالَ: اقْبِضْ دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً، فَعَمِلَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ كُلَّهُ ضَمِنَ، وَلَوْ قَالَ: فَاعْمَلْ بِهِ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا بِالْعَمَلِ إلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْكُلِّ
بِخِلَافِ الْفَاءِ وَالْوَاوِ فَإِنَّهُ يَكْفِي قَبْضُ الْبَعْضِ كَذَا فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ، لَكِنْ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَاءَ كَالْوَاوِ فِي هَذَا الْحُكْمِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ثُمَّ يُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، وَالْفَاءَ يُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِذْنُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَلْ يَثْبُتُ عَقِيبَهُ بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ وَلَا تَرْتِيبٍ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا نَسِيئَةً ثُمَّ بِعْهُ وَاعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ وَعَمِلَ فِيهِ جَازَ وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْغَاصِبِ، أَوْ الْمُسْتَوْدَعِ، أَوْ الْمُبَعَّضِ: اعْمَلْ بِمَا فِي يَدِك مُضَارَبَةً جَازَ.
(وَشُرِطَ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ بِلَا يَدٍ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ) لِأَنَّ تَخْلِيَةَ الْمَالِ لِلْعَامِلِ وَاجِبٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ مَعَهُ لَفَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُخِلٌّ بِالتَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ (عَاقِدًا كَانَ) رَبُّ الْمَالِ (أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ إذَا عَقَدَهَا) أَيْ الْمُضَارَبَةَ (لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (وَلِيُّهُ) أَيْ وَلِيُّ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتٌ لَهُ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُضَارِبِ (وَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا عَقَدَهَا) أَيْ الْمُضَارَبَةَ (الْآخَرُ) أَيْ إذَا دَفَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَوْ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ شَرِيكِهِ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عَمَلُ الْمَالِكِ لَا الْعَاقِدِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ الْأَبُ الْوَصِيُّ مَالَ الصَّغِيرِ وَشَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَوْ دَفَعَ مَالَهُ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُتَصَرِّفَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ الْوَصِيَّ إذَا دَفَعَ مَالَ الصَّغِيرِ إلَى نَفْسِهِ مُضَارَبَةً جَازَ كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْعَلُ لِأَمْثَالِهِ كَمَا قَالَهُ الطَّرْطُوسِيُّ.
(وَ) شُرِطَ (كَوْنُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا) أَيْ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ حَتَّى يَكُونَ الرِّبْحُ مُشَاعًا بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ أَثْلَاثًا أَوْ مُنَصَّفًا وَنَحْوَهُمَا، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَلَوْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ تَبْطُلُ فَيَكُونُ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَشُرِطَ كَوْنُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا تَسْمِيَةً أَوْ إشَارَةً (فَتَفْسُدُ) الْمُضَارَبَةُ (إنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَثَلًا) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْبَحُ بِالشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مُسْتَوْفَاةً بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ.
وَفِي التَّنْوِيرِ وَلَوْ ادَّعَى الْمُضَارِبُ فَسَادَهَا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَبِعَكْسِهِ فَلِلْمُضَارِبِ (وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةَ الرِّبْحِ) كَشَرْطِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ، دَارِهِ لِيَسْكُنَهَا سَنَةً (يُفْسِدُهَا) أَيْ الْمُضَارَبَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الرِّبْحِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ وَالْبَعْضَ أُجْرَةَ دَارِهِ أَوْ أَرْضِهِ وَلَا يَعْلَمُ حِصَّةَ الْعَمَلِ
حَتَّى تَجِبَ حِصَّتُهُ وَتُسْقِطَ مَا أَصَابَ مَنْفَعَةَ الدَّارِ (وَمَا) أَيْ كُلُّ شَرْطٍ (لَا) يُوجِبُ جَهَالَةَ الرِّبْحِ (فَلَا) يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ (وَ) لَكِنْ (يَبْطُلُ الشَّرْطُ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى جَهَالَةِ حِصَّةِ الْعَمَلِ، إذْ نَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ مُقَابَلٌ بِعَمَلِهِ لَا غَيْرُ وَلَا جَهَالَةَ فِيهِ (كَشَرْطِ الْوَضِيعَةِ) وَهِيَ الْخُسْرَانُ (عَلَى الْمُضَارِبِ) لِأَنَّ الْخُسْرَانَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ غَيْرَ رَبِّ الْمَالِ لَكِنَّهُ شَرْطٌ زَائِدٌ لَا يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ وَلَا الْجَهَالَةَ فِيهِ فَلَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ صِحَّتَهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ كَالْهِبَةِ.
(وَلِلْمُضَارِبِ فِي مُطْلَقِهَا) أَيْ مُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ مَا لَمْ يُقَيَّدْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلَمْ؛ يَزِدْ عَلَيْهِ (أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ بِهِمَا) أَيْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (وَيُسَافِرَ) بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ بَرًّا وَبَحْرًا، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ فِي بَلَدِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسَافِرُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَعَنْ الْإِمَامِ إنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلَا يُسَافِرُ سَفَرًا مَخُوفًا يَتَحَامَى النَّاسُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِمْ.
(وَيُبْضِعَ) مِنْ الْإِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ مَالًا يَعْمَلُ فِيهِ وَيَكُونَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ (وَيُودِعَ وَيَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ وَيُؤَاجِرَ وَيَسْتَأْجِرَ وَيَحْتَالَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
(وَلَوْ أَبْضَعَ) الْمُضَارِبُ (لِرَبِّ الْمَالِ صَحَّ وَلَا تَفْسُدُ بِهِ) أَيْ بِالْإِبْضَاعِ (الْمُضَارَبَةُ) وَقَالَ زُفَرُ: تَفْسُدُ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ حِينَئِذٍ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ فَيَكُونُ مُسْتَرِدًّا لَهُ، وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ صَارَ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ وَكِيلًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ.
(وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يُضَارِبَ) مَالَ الْمُضَارَبَةِ لِآخَرَ (إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ) صَرِيحًا (أَوْ بِقَوْلِهِ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (اعْمَلْ بِرَأْيِك) لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوْ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ لَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ إلَّا بِقَوْلِ الْأَصِيلِ اعْمَلْ بِرَأْيِك، بِخِلَافِ الْإِبْضَاعِ وَالْإِيدَاعِ لِأَنَّهُمَا دُونَ الْمُضَارَبَةِ لَا مِثْلُهَا فَيَتَضَمَّنُهُمَا.
(وَلَا) أَيْ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يُقْرِضَ أَوْ يَسْتَدِينَ) بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ (أَوْ يَهَبَ أَوْ يَتَصَدَّقَ) ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ التَّعْمِيمُ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ صَنِيعِهِمْ إذْ الرِّبْحُ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ لَا يَحْصُلُ بِهَا (إلَّا بِتَنْصِيصٍ) مِنْ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِدَانَةِ وَالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ فَحِينَئِذٍ مَلَكَهَا، وَفَرَّعَ عَلَى الِاسْتِدَانَةِ بِقَوْلِهِ.
(فَإِنْ شَرَى بِمَالِهَا) أَيْ الْمُضَارَبَةِ (بَزًّا) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ: ثِيَابُ الْكَتَّانِ لَا ثِيَابُ الصُّوفِ وَالْخَزِّ كَمَا فِي الْمُغْرِبِ (وَقَصَرَهُ) أَيْ غَسَلَهُ بِأُجْرَةٍ مِنْ مَالِهِ مِنْ قَصَرَ
يَقْصُرُ بِالضَّمِّ قَصْرًا وَقَصَارَةً، أَوْ مِنْ قَصَّرَ الثَّوْبَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ جَمَعَهُ فَغَسَلَهُ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (أَوْ حَمَلَهُ) مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخِرِهِ (بِمَالِهِ) أَيْ بِمَالِ الْمُضَارِبِ لَا بِمَالِهَا (فَهُوَ) أَيْ الْمُضَارِبُ (مُتَبَرِّعٌ) فَلَا يَرْجِعُ بِمَالِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك) لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ بِلَا إذْنٍ صَرِيحٍ فَلَوْ قَصَرَ بِالنَّشَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبْغِ (وَلَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (الْخَلْطُ بِمَالِهِ) أَيْ الْمُضَارِبِ (وَالصَّبْغُ) بِمَالِهِ (إنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ اعْمَلْ بِرَأْيِك، وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّبْغِ أَنْ يَصْبُغَهُ أَحْمَرَ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ زِيَادَةً فِيهِ بِخِلَافِ السَّوَادِ فَإِنَّهُ نُقْصَانٌ عِنْدَ الْإِمَامِ لَكِنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُشْعِرُ أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ الْإِمَامَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ، تَتَبَّعْ.
(فَلَا يَضْمَنُ) الْمُضَارِبُ (بِهِ) أَيْ بِالْخَلْطِ وَلَا بِالصَّبْغِ فَإِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ " اعْمَلْ بِرَأْيِك " يَتَضَمَّنُهُ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُتَعَدِّيًا (وَيَصِيرُ) الْمُضَارِبُ (شَرِيكًا) لِرَبِّ الْمَالِ (بِمَا زَادَ الصَّبْغُ) فِيهِ (وَحِصَّتُهُ) أَيْ حِصَّةُ قِيمَةِ الصَّبْغِ (لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (إذَا بِيعَ) الْمَصْبُوغُ (وَحِصَّةُ الثَّوْبِ) الْأَبْيَضِ (فِي) مَالِ (الْمُضَارَبَةِ) حَتَّى إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ أَلْفًا وَمَصْبُوغًا أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ كَانَ الْأَلْفُ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ لِلْمُضَارِبِ بَدَلَ مَالِهِ، وَهُوَ الصَّبْغُ بِخِلَافِ الْقَصَارَةِ وَالْحَمْلِ، وَتَمَامُهُ فِي الْعِنَايَةِ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَإِنْ قُيِّدَتْ) الْمُضَارَبَةُ (بِبَلَدٍ) مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ: دَفَعْته مُضَارَبَةً فِي الْكُوفَةِ مَثَلًا (أَوْ سِلْعَةٍ) أَيْ مَتَاعٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ: دَفَعْته مُضَارَبَةً فِي الْكِرْبَاسِ مَثَلًا (أَوْ وَقْتٍ) مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ: دَفَعْته مُضَارَبَةً بِالصَّيْفِ مَثَلًا (أَوْ مُعَامِلٍ مُعَيَّنٍ) بِأَنْ قَالَ: دَفَعْته مُضَارَبَةً لِفُلَانٍ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يَتَجَاوَزَ) مِمَّا عَيَّنَهُ الْمَالِكُ، لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ، وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ لِأَنَّ التِّجَارَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ بِضَاعَةً إلَى مَنْ يُخْرِجُهُ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ أَوْ سِلْعَةً بِعَيْنِهَا أَوْ مَا لَا يَعُمُّ وُجُودُهُ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ (كَمَا) لَا يَتَعَدَّى الشَّرِيكُ (فِي الشَّرِكَةِ) عَمَّا عَيَّنَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بِشَيْءٍ مِنْهَا (فَإِنْ تَجَاوَزَ) الْمُضَارِبُ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ أَوْ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ أَوْ بَاعَ مَعَ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ (ضَمِنَ) لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمُخَالَفَةِ وَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ (وَالرِّبْحُ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ، وَعَلَيْهِ خُسْرَانُهُ، ثُمَّ قِيلَ: يَضْمَنُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْبَلَدِ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ وَقِيلَ بَلْ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَشْرِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ إلَى الْبَلَدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنْ عَادَ زَالَ الضَّمَانُ فَصَارَ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ (فَإِنْ قَالَ لَهُ) أَيْ قَالَ الْمَالِكُ لِلْمُضَارِبِ (عَامِلْ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَوْ) عَامِلْ (الصَّيَارِفَةَ فَعَامَلَ فِي الْكُوفَةِ غَيْرَ أَهْلِهَا) أَيْ الْكُوفَةِ (أَوْ صَارَفَ) أَيْ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الصَّرْفِ (مَعَ غَيْرِ
الصَّيَارِفَةِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا) فَيَجُوزُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ، وَفَائِدَةَ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
(وَكَذَا) لَا يَكُونُ مُخَالِفًا (لَوْ قَالَ اشْتَرِ فِي سُوقِهَا) أَيْ الْكُوفَةِ (فَاشْتَرَى فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ سُوقِ الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَمَاكِنَ الْمِصْرِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي السِّعْرِ وَالنَّقْدِ وَالْأَمْنِ فَيَجُوزُ (بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا تَشْتَرِ فِي غَيْرِ السُّوقِ) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَوْ اشْتَرَاهُ فِي غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ، وَالْوِلَايَةُ إلَى الْمَالِكِ.
وَفِي الْعِنَايَةِ كَلَامٌ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَإِنْ قَالَ) الْمَالِكُ لِلْمُضَارِبِ (خُذْ هَذَا الْمَالَ، تَعْمَلُ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ (فِي الْكُوفَةِ) مَرْفُوعًا أَوْ مَجْزُومًا (أَوْ) خُذْ هَذَا الْمَالَ (فَاعْمَلْ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ (فِيهَا) أَيْ الْكُوفَةِ (أَوْ خُذْهُ) أَيْ الْمَالَ الْمُضَارَبَ (بِالنِّصْفِ فِيهَا) أَيْ فِي الْكُوفَةِ (فَهُوَ تَقْيِيدٌ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ " تَعْمَلُ بِهِ " تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ خُذْهُ، وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ كَانَ الْحُكْمُ لِلتَّفْسِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَاعْمَلْ بِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ، وَاَلَّذِي وَصَلَ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ وَتَعَقَّبَهُ كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّ " فِي " لِلظَّرْفِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْبَلْدَةُ ظَرْفًا إذَا حَصَلَ الْفَاعِلُ وَالْفِعْلُ فِيهَا، وَكَذَا إذَا قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ " عَلَى " لِلشَّرْطِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ كَمَا فِي التَّبْيِينِ (بِخِلَافِ خُذْهُ) أَيْ الْمَالَ مُضَارَبَةً (وَاعْمَلْ بِهِ فِيهَا) أَيْ فِي الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَقْيِيدٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ فِي الْعَمَلِ فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ إذَا كَانَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فَتَكُونُ مَشُورَةً لَا شَرْطًا لِلْأَوَّلِ.
وَالضَّابِطُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَتَى ذَكَرَ عَقِيبَ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّلَفُّظُ بِهِ ابْتِدَاءً أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا قَبْلَهُ يُجْعَلُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْمَتْنِ، وَإِنْ اسْتَقَامَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لَا يُبْنَى عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيُجْعَلُ مُبْتَدَأً كَمَا فِي اللَّفْظِ الْأَخِيرِ.
(وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِنَسِيئَةٍ) مُعَارَفَةً عِنْدَ التُّجَّارِ كَسَنَةٍ أَوْ دُونَهَا (مَا لَمْ يَكُنْ إجْلَالًا يَبِيعُ إلَيْهِ التُّجَّارُ) كَعِشْرِينَ سَنَةً مَثَلًا، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَبِيعُ بِنَسِيئَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ يُوجِبُ قَصْرَ يَدِ الْمُضَارِبِ عَنْ التَّصَرُّفِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنٍ، وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ بِالنَّسِيئَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالنَّقْدِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَفِينَةً لِلرُّكُوبِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
(وَإِنْ بَاعَ) الْمُضَارِبُ (بِنَقْدٍ ثُمَّ أَخَّرَ) أَيْ الثَّمَنَ (صَحَّ إجْمَاعًا) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَ
ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ ثُمَّ الْبَيْعَ بِالنَّسَأِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
(وَلَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ الْمُضَارَبَةِ) أَيْ الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ (فِي التِّجَارَةِ) .
وَفِي رِوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً.
(وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مِنْ مَالِهَا) أَيْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ، مَعَ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْكِيلَ بِالتِّجَارَةِ فَلَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ، وَإِنْ كَانَ اكْتِسَابًا بِجِهَةٍ أُخْرَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ لِأَنَّهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ إذْ يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَهْرَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ رَبِحَ أَوْ لَا وَأَذِنَ بِهِ أَوْ لَا كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
(وَلَا) يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ) أَيْ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ (مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعِتْقُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ كَاشْتِرَاءِ ابْنِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ بِسَبَبِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: إنْ مَلَكْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ بِالْعِتْقِ، فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ يُنَافِيهِ (فَإِنْ شَرَى) الْمُضَارِبُ بِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ (كَانَ) الشِّرَاءُ (لَهُ) أَيْ لِنَفْسِ الْمُضَارِبِ وَيَضْمَنُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (لَا لَهَا) أَيْ لَا يَكُونُ لِلْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ نَافِذٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لِكَوْنِهِ أَصِيلًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ.
(وَلَا) يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ (أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُضَارِبِ (إنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ) لِأَنَّهُ يَعْتِقُ نَصِيبُهُ، وَيَفْسُدُ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ بِسَبَبِهِ أَوْ يَعْتِقُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي مَضَى بَيَانُهُ فِي الْعِتْقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الرِّبْحِ هُنَا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ فِي جُمْلَةِ رَأْسِ الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالُ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ عَبْدَيْنِ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ لَا يَصِحُّ عِتْقُهُ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْجُمْلَةِ رِبْحٌ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ صَحَّ وَضَمِنَ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْهُمَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا كَمَا فِي الْمِنَحِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (ضَمِنَ) أَيْ الْمُضَارِبُ لِأَنَّهُ مُشْتَرًى لِنَفْسِهِ.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) فِي الْمَالِ (رِبْحٌ صَحَّ) شِرَاؤُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذْ لَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِلْمُضَارَبَةِ فَيَصِحُّ (فَإِنْ حَدَثَ رِبْحٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ) بِأَنْ كَانَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (عَتَقَ نَصِيبُهُ) أَيْ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ لِكَوْنِهِ مَالِكًا قَرِيبَهُ (وَلَا يَضْمَنُ) لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ قِيمَتِهِ لِعَدَمِ صُنْعِهِ فِي زِيَادَتِهَا فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ (بَلْ يُسْعَى الْمُعْتَقُ) بِفَتْحِ التَّاءِ (فِي) قِيمَةِ (نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ) مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ رَأْسِ الْمَالِ وَنَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ