الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع في كفارة من جامع امرأته وهي حائض
مدخل في ذكر الضابط الفقهي:
• لم يصح حديث مرفوع في جوب الكفارة على من جامع امرأته، وهي حائض.
• الكفارات بمنزلة الحدود؛ لأنها عقوبات فلا تثبت إلا بتوقيف من الشارع على الصحيح.
• جميع المقادير بالشرع لا تعرف بالقياس.
• النصوص في عصمة مال المسلم قطعية، فلا تنتهك إلا بنص متيقن.
[م-769] اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فقيل: عليه التوبة والاستغفار، وتستحب له الكفارة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والقول الجديد في مذهب الشافعي
(2)
.
(1)
البناية للعيني (1/ 641) عمدة القارئ (3/ 266) البحر الرائق (1/ 207) فتح القدير (1/ 166).
(2)
المجموع (2/ 359) مغني المحتاج (1/ 110) نهاية المحتاج (1/ 332).
وقيل: ما عليه إلا التوبة والاستغفار، وهو مذهب المالكية
(1)
، ورواية عن أحمد
(2)
.
وقيل: تجب عليه الكفارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة
(3)
.
واختلفوا في تقدير الكفارة.
فقيل: هي على التخيير، دينار أو نصفه، وهو المشهور عند الحنابلة
(4)
.
وقيل: إن كان الدم أسود فدينار، وإن كان أصفر فنصف دينار
(5)
وقيل: إن كان في إقبال الدم وفي زمن قوته وشدته فدينار، وإن كان في إدبار الدم بأن كان زمن ضعفه وقربه من الانقطاع فنصف دينار
(6)
.
وقيل: إن جامعها في زمن الحيض فدينار، وإن جامعها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فنصف دينار. وهو قول قتادة والأوزاعي
(7)
.
وقيل: عليه خمسة دنانير وينسب هذا القول لعمر
(8)
.
وقيل: عليه عتق رقبة، وهو قول سعيد بن جبير
(9)
.
وقيل: عليه كفارة من جامع في نهار رمضان، وهو قول الحسن
(10)
.
(1)
أسهل المدارك (1/ 90) القوانين الفقهية (ص 55) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 72).
(2)
الإنصاف (1/ 351) الإقناع (1/ 64) المستوعب (1/ 403) الكافي (1/ 74).
(3)
كشاف القناع (1/ 200، 201) الفروع (1/ 262) الإقناع (1/ 64).
(4)
انظر: الإنصاف (1/ 351) الفروع (1/ 262) المستوعب (1/ 402).
(5)
الإنصاف (1/ 351، 352).
(6)
انظر: الإنصاف (1/ 351)، الفروع (1/ 262).
(7)
انظر: الأوسط (2/ 210)، فقه الأوزاعي (1/ 112).
(8)
انظر: الدارمي (1110).
(9)
الأوسط (2/ 210).
(10)
رواه عبد الرزاق (1267) من طريق هشام عن الحسن، وروى معمر عن الحسن: ليس عليه شيء، يستغفر الله.
• أدلة القائلين بوجوب الكفارة:
(1920 - 380) ما رواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم،
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار، أو نصف دينار.
[الصحيح وقفه على ابن عباس، وفي متنه اختلاف كثير]
(1)
.
(1)
الحديث مداره على مقسم وعكرمة كلاهما، عن ابن عباس، وهو عن الأول أشهر، وكان مقسم تارة يرفعه، وتارة يوقفه
…
على اختلاف كثير في متنه كما سنبين.
ومقسم جاء في ترجمته:
قال مهنا: قلت لأحمد: من أثبت أصحاب ابن عباس فقال: ستة نذكرهم. قلت له: فمقسم؟ قال: دون هؤلاء. هدى الساري (ص 622).
وقال أبو حاتم الرزاي: صالح الحديث، لا بأس به.
وضعفه ابن سعد، وقال ابن حزم: ليس بالقوي، وذكره البخاري في كتاب الضعفاء، وقال الساجي: تكلم الناس في بعض روايته. انظر الجرح والتعديل (8/ 414)، الطبقات الكبرى (5/ 471)، تهذيب التهذيب (10/ 256).
وقال الحافظ في التلخيص (1/ 292) ح 228: «ما أخرج له البخاري إلا حديثًا واحدًا في تفسير النساء قد توبع علي» .اهـ
ووثقه يعقوب بن سفيان، والدارقطني. تهذيب التهذيب (10/ 256).
وقال الذهبي: صدوق من مشاهير التابعين، ضعفه ابن حزم، وقد وثقه غير واحد، والعجب أن البخاري أخرج له في صحيحه وذكره في كتاب الضعفاء. انظر الميزان (4/ 176)، وإذا كان قد أخرج له في المتابعات لم يكن في صنيع البخاري ما يتعجب منه.
وفي التقريب: صدوق وكان يرسل. وما له في البخاري سوى حديث واحد.
وقد روى الحديث عن مقسم جماعة، وما رواه أحد منهم مرفوعًا إلا وقد رواه موقوفًا، وعندي -والله أعلم- أن التردد في وقفه ورفعه من مقسم، وممن دونه
…
وإليك بيان هذه الطرق عن مقسم:
الطريق الأول: عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس.
رواه شعبة، عن الحكم، واختلف على شعبة: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فرواه يحيى بن سعيد القطان كما في مسند أحمد (1/ 230)، وسنن أبي داود (264، 2168)، وسنن وابن ماجه (640) وسنن النسائي (289) والمعجم الكبير للطبراني (12066) ومستدرك الحاكم (1/ 171، 172).
ومحمد بن جعفر كما في مسند أحمد (1/ 230)،
وابن أبي عدي كما في سنن ابن ماجه (640)،
ووهب بن جرير كما في منتقى ابن الجارود (108).
والنضر بن شميل كما في سنن البيهقي (1/ 314)، كلهم رووه عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا.
ورواه سعيد بن عامر، عن شعبة مرفوعًا وموقوفًا
…
فأما الرواية المرفوعة فهي عند ابن الجارود (1109)، وجاء في آخره: قال شعبة: أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلان وفلان فقالا: غير مرفوع، فقال بعض القوم: حدثنا بحفظك، ودع ما قال فلان وفلان. فقال: والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوح، وإني حدثت بهذا أو سكت عن هذا.
وأخرجه الدارمي (1107)، والنسائي في الكبرى (9099) من طريق سعيد بن عامر عن شعبة موقوفًا.
ورواه جماعة عن شعبة موقوفًا، منهم:
1 -
عبد الرحمن بن مهدي كما في منتقى ابن الجارود (110)، والبيهقي (1/ 315).
2 -
أبو الوليد كما في سنن الدارمي (1106).
3 -
عفان كما في سنن البيهقي (1/ 314، 315).
4 -
وسليمان بن حرب كما في سنن البيهقي (1/ 314، 315).
قال البيهقي: وكذلك رواه مسلم بن إبراهيم، وحفص بن عمر الحوضي، وحجاج بن منهال
…
قلت: وأشار أحمد إلى أن بهز رواه أيضًا موقوفًا كما في متن الباب.
هذا فيما يتعلق في الاختلاف على إسناد شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، وخلاصته أمران:
أحدهما: أن الحديث يرويه يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عدي، ووهب ابن جرير، والنضر بن شميل، عن شعبه، عن الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا.
ويرويه عبد الرحمن بن مهدي، وأبو الوليد، وعفان، وسليمان بن حرب، وبهز بن أسد، ومسلم ابن إبراهيم، وحفص بن عمر الحوضي، وحجاج بن منهال، عن شعبة به موقوفًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويرويه سعيد بن عامر عن شعبة مرفوعًا وموقوفًا.
الثاني: أن شعبة يرويه عن الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم بذكر عبد الحميد بين الحكم بن عتيبة، وبين مقسم.
ولم ينفرد شعبة بذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن في الإسناد، بل جاء أيضًا من طريق قتادة.
فرواه روح بن عبادة كما في سنن النسائي الكبرى (9104).
وعبد الله بن بكر كما في سنن النسائي الكبرى (9104)
وسعيد بن عروبة كما في سنن البيهقي الكبرى (1/ 315).
وحماد بن الجعد، كما في المعجم الكبير للطبراني (12065)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 315، 316).
كلهم رووه عن عن قتادة، قال، قال: حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، عن ابن عباس، فهنا في الإسناد ذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن من غير طريق شعبة، عن الحكم، وسوف يأتي الكلام على طريق قتادة بمفرده إن شاء الله.
وقيل: الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس بإسقاط عبد الحميد بن عبد الرحمن، على اختلاف على الحكم في رفعه:
فرواه سفيان بن حسين كما عند الطبراني في الكبير (12130) ورجاله ثقات.
ورقبة بن مصقلة كما عند الطبراني في الكبير أيضًا (12131) بسند حسن.
وليث بن أبي سليم كما عند الطبراني أيضًا (12133) وسنده ضعيف.
ومطر الوراق كما عند الطبراني (12132)، والبيهقي (1/ 135) وسنده ضعيف.
كلهم رووه عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا وفيه: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
وخالفهم الأعمش، وعمرو بن قيس الملائي، فروياه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا.
رواه الدارمي (1112) من طريق حفص بن غياث عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا وفيه:(يتصدق بدينار أو بنصف دينار) ورجاله ثقات.
ورواه النسائي في الكبرى (9100) والطبراني في الكبير (12129) من طريق إسماعيل بن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم به موقوفًا إلا أنه قال:(يتصدق بنصف دينار) ورجاله ثقات إلا إسماعيل بن زكريا فإنه صدوق.
فتبين لنا من تخريج طريق الحكم، أن فيه أربع علل:
العلة الأولى: أن الحكم تارة يوقفه وتارة يرفعه.
فقد أخرجت طريق شعبة عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم عن ابن عباس، وبينت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الاختلاف على شعبة في وقفه ورفعه، فقد رواه خمسة حفاظ عن شعبة مرفوعًا على رأسهم يحيى ابن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر.
ورواه ثمانية حفاظ عن شعبة موقوفًا، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن مهدي، وعفان وسليمان بن حرب.
وقد مال العلامة أحمد شاكر إلى كونه مرفوعًا، وحجته أن شعبة كان يقول بعد روايته للحديث:«أما حفظي فمرفوع، وأما فلان وفلان فقالا: غير مرفوع» .
فقال أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه للسنن (1/ 250): «هذه الروايات عن شعبة، يفهم منها أنه كان واثقًا، وموقنًا برفعه، ثم تردد واضطرب حين رأى غيره يخالفه فيرويه موقوفًا، ثم جعل هو يرويه موقوفًا أيضًا، وهذا عندنا لا يؤثر في يقينه الأول برفعه، وقد تابعه فيه غيره
…
» إلخ كلامه رحمه الله.
وعمدة هذا الترجيح بأن الحفظ القديم مقدم على الشك الطارئ، وهذا الكلام جيد، لو كان الاختلاف فيه فقط على شعبة، وكان حفظه الأول مرفوعًا ثم طرأ الشك، لكن الاختلاف في الحقيقة على شيخ شعبة، الحكم بن عتيبة نفسه، فكان يرويه تارة موقوفًا وتارة مرفوعًا.
وكان شعبة سمعه من الحكم مرفوعًا
…
ثم سمعه منه موقوفًا، فترك رفعه له، لا أن شعبة إنما ترك رفعه لأن غيره خالفه في الحكم.
قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 50 - 51) رقم 121: «اختلفت الرواية، فمنهم من يروي عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا، ومنهم من يروي عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وأما من حديث شعبة، فإن يحيى بن سعيد أسنده. وحكي أن شعبة أسنده، وقال: أسنده الحكم لي مرة ووقفه مرة» .
ففي هذا الكلام فائدتان:
الأولى: أن الشك في وقفه ورفعه من شيخ شعبة.
الثانية: أن شعبة سمعه من الحكم مرفوعًا وموقوفًا. لقوله: «أسنده الحكم لي مرة، ووقفه مرة» .
فلما رأى شعبة أن شيخه لم يضبط حديثه تارة يرفعه وتارة يوقفه رجع عن رفعه له، وصرح بأن رفعه له من قبل جنون منه، فلا سبيل إلى الاحتجاج برواية الراوي وقد صرح بخطئه فيها.
فقد أخرج ابن الجارود في المنتقى (110): حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال: ثنا بندار، قال: ثنا شعبة بهذا الحديث ولم يرفعه.
فقال رجل لشعبة: إنك كنت ترفعه. قال: كنت مجنونًا فصححت».
العلة الثانية: أن الحكم بن عتيبة تارة يرويه عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، عن ابن عباس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتارة يرويه عن مقسم مباشرة، عن ابن عباس.
وتارة يرويه عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقد اختلف العلماء هل سمع الحكم من مقسم هذا الحديث أم لا؟ مع أن الحكم مشهور بأنه كثير الإرسال.
فقال أبو حاتم في العلل (1/ 51)«الحكم لم يسمع من مقسم هذا الحديث» .
وقال البيهقي (1/ 315): «هكذا رواه جماعة عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم.
وفي رواية شعبة عن الحكم دلالة على أن الحكم لم يسمعه من مقسم، إنما سمعه من عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مقسم».اهـ
وذكر ابن حجر في التهذيب، في ترجمة الحكم بن عتيبة (2/ 434):«قال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب إلا خمسة أحاديث» . اهـ
ولم يذكر الإمام أحمد الأحاديث الخمسة لكن عدها يحيى بن سعيد القطان كما في التهذيب: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض.
وفي العلل رواية عبدالله بن أحمد (1/ 192): «قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه الذي يُصَحَّح الحكم عن مقسم أربعة أحاديث» ، فذكرها، ولم يذكر منها حديث الحائض إذا أتاها زوجها.
والحكم ذكر عنه التدليس والإرسال، ولم أقف على رواية أنه قال: حدثني مقسم.
قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلا ما قال: سمعت» اهـ، وهذا هو التدليس.
وقال ابن حبان في الثقات: كان يدلس.
وممن ذكره بالتدليس النسائي، والذهبي، والمقدسي، والحلبي، والعلائي.
وعلى كل حال سواء سمع منه أو لم يسمع، فقد عرفنا الواسطة بينهما، وهو ثقة، فلا يكون هذا الأمر علةً مؤثرة في الحديث بخلاف العلة الأولى.
وأما رواية الحكم عن عكرمة عن ابن عباس.
فقد أخرجها النسائي في السنن الكبرى (9102): أخبرنا واصل بن عبد الأعلى قال: أنا أسباط ابن محمد، عن أشعث، عن الحكم، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يقع على امرأته، قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
وهذا سند ضعيف، فيه أشعث بن سوار الكندي، وقد توبع، فقد أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9114) من طريق محمد بن عيسى، والطبراني (12025) من طريق عبد الرحمن بن شيبة الجدي، كلاهما عن شريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلًا وقع على امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بنصف دينار.
وهذا سند ضعيف أيضًا فيه شريك وخصيف، وكلاهما في حفظه شيء. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد اختلف على خصيف كما سيأتي، فروى عنه مرفوعًا، وموقوفًا على ابن عباس، ومرسلًا عن مقسم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على رواية خصيف إن شاء الله.
العلة الثالثة: الاختلاف في كلمة (أو) بقوله (دينار أو نصف دينار) هل هي للشك أو للتخيير أو للتنويع.
فالقول الأول: اختار ابن عباس رحمه الله أن (أو) للتنويع، ولا شك أن الصحابي أدرى بما روى، وإذا رجحنا أن الأثر أصله موقوف عليه، فتفسيره لقوله أولى من تفسير غيره له.
فقد روى البيهقي (1/ 319) من طريقين عن أبي العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الجواب، حدثنا سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء،
عن ابن عباس في الرجل يأتي امرأته وهي حائض قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف دينار.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أبا الجواب فإنه صدوق، وأبو الجواب هو أحوص.
قال ابن معين: ثقة.
وقال مرة: ليس بذاك القوي. الجرح والتعديل (2/ 328) تهذيب الكمال (2/ 288).
وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (2/ 328).
وقال ابن حبان: كان متقنًا، وربما وهم. الثقات (6/ 89).
وفي التقريب: صدوق ربما وهم.
وأما عنعنة ابن جريج فإنها لا تضر وشيخه عطاء؛ فإنه مكثر عنه جدًّا، ويكفي قوله فيما رواه عبد الرزاق عنه اختلفت إلى عطاء ثماني عشرة سنة. وقد توبع ابن جريج.
فقد رواه أبو داود (265)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 318) من طريق علي ابن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار.
وأبو الحسن الجزري لم يرو عنه إلا علي بن الحكم البناني.
قال فيه ابن المديني: مجهول. تهذيب التهذيب (12/ 77).
وقال الحاكم في المستدرك (1/ 172)، أبو الحسن عبد الحميد بن عبد الرحمن الجزري ثقة مأمون.
قال أحمد شاكر: «لم يتعقبه الذهبي في مختصره» اهـ. يريد أن يشير إلى موافقة الذهبي للحاكم، لكن قال الذهبي في الميزان (4/ 515) تفرد عنه علي بن الحكم البناني اهـ، ولم ينقل الذهبي عن أحد توثيقه مما يدل على أنه مجهول.
وفي التقريب مجهول. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومع ذلك هو سند صالح في المتابعات يقوي طريق ابن جريج، فهذا هو القول الأول: أن (أو) للتنويع.
القول الثاني: قالوا إن (أو) في قوله (يتصدق بدينار أو نصف دينار) للشك. فقد أخرج الدارمي (1106): حدثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار.
قال شعبة: شك الحكم.
ورجح العلامة أحمد شاكر أن شعبة فهم من كلمة (أو) أنها للشك، ورجح أن (أو) للتخيير.
والحقيقة أن الحكم قد صرح بالشك، وليس قول شعبة: شك الحكم فهمًا منه، فقد أخرجه عبد الرزاق (1262) عن ابن جريج قال: كان الحكم بن عتيبة عن مقسم يقول: لا أدري قال مقسم دينارًا أو قال: نصف دينار، وكما وقع الشك من الحكم وقع الشك من مقسم أيضًا كما سيأتي.
القول الثالث: ذهب الإمام أحمد أن (أو) للتخيير، فقد نقل الخطابي في معالم السنن (1/ 173): «أن أحمد بن حنبل كان يقول: هو مخير بين الدينار ونصف الدينار. وهذا من أضعفها، ولا أعرف له شبهًا في الكفارات، أن يكون الإنسان مخيرًا في جنس واحد، بمعنى أن نصف الدينار واجب والنصف الآخر مستحب، فالصدقة المستحبة مفتوحة ليس لها حد، والمعروف في الكفارات التي تأتي على التخيير أن يكون كل واحد منها واجبًا لا بعينه، وذلك مثل كفارة اليمين، فالتخيير بين الإطعام، والكسوة، وتحرير الرقبة كل واحد منها واجب لا بعينه، ومثله المحرم في كفارة حلق الرأس من الأذى، بخلاف قوله:(يتصدق بدينار أو نصف دينار)، فإن الدينار ليس واجبًا، والنصف منه واجب على القول بالتخيير.
العلة الرابعة: الاختلاف على الحكم في متنه.
فتارة يقول: (دينار أو نصف دينار) على الخلاف السابق في (أو).
وتارة يجزم بأن الواجب نصف دينار بدون (أو).
وتارة يجزم بأن الواجب دينار فإن لم يجد فنصف دينار.
لاشك أن أكثر الروايات عن الحكم لفظها: (يتصدق بدينار أو نصف دينار) على الخلاف في معنى (أو) كما سبق وقد عزوت طرق الحكم فيما سبق من رواية شعبة وغيره فارجع إليها في أول البحث.
وقد أخرجه النسائي في الكبرى (9100) والطبراني في الكبير (12129) من طريق إسماعيل ابن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا: يتصدق بنصف دينار.
ورجاله ثقات إلا إسماعيل بن زكريا فإنه صدوق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد تابعه خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس.
كما في سنن الدارمي (1109) من طريق سفيان الثوري عن خصيف به، وكذا رواه ابن جريج عن خصيف كما في سنن النسائي الكبرى (9109).
وخصيف سيئ الحفظ، وتغير بآخره، إلا أن سوء حفظه قد زال بمتابعة عمرو بن قيس الملائي.
وتغيره فإن الذي ذكر ذلك يحيى بن سعيد القطان، قال: «كنا تلك الأيام نتجنب حديث خصيف، وما كتبت عن خصيف بالكوفة شيئًا، إنما كتبت عن خصيف بآخرة، وكان يحيى يضعف خصيفًا.
فهذا النص من يحيى فيه فوائد:
أولًا: أن خصيفًا حديثه حين كان بالكوفة لم يتغير، وسفيان الثوري كوفي، وهو ممن رواه عن خصيف.
ثانيًا: أن يحيى بن سعيد القطان من صغار أصحاب خصيف، فابن جريج والثوري أكبر من القطان سنًا وهما ممن روياه عن خصيف، فهذه قرينة أن روايتهما عنه كانت قبل تغيره.
ومع ذلك فقد اختلف على خصيف وسيأتي الكلام على طريقه بطريق مستقل.
هذان نوعان من الاختلاف على الحكم في متنه.
أحدهما: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
والثاني: يتصدق بنصف دينار».
وأما اللفظ الثالث عن الحكم فقد رواه الطبراني في الكبير (12065)، والبيهقي (1/ 315 - 316) من طريق هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن الجعد، ثنا قتادة، حدثني الحكم ابن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبدالرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فزعم أنه وقع على امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار.
فهذا اللفظ أوجب الدينار مطلقًا إلا عند العجز عنه فنصف دينار.
وفي الإسناد حماد بن الجعد ضعفه جماعة منهم ابن معين والنسائي.
وقال ابن حبان: منكر الحديث.
وقال أحمد شاكر في تحقيقه للسنن (1/ 251): «وأنا أرجح أنه ثقة؛ لأن أبا داود الطيالسي تلميذه قال: كان إمامنا أربعين سنة ما رأينا إلا خيرًا. قال شاكر: والنفس تطمئن إلى شهادة من عرفه أربعين سنة، وروى عنه» .
قلت: حتى ولو كان ثقة، فقد رواه شعبة عن الحكم بنفس الإسناد، وخالفه في المتن، فهذا اللفظ إما شاذ أو منكر.
ورواه بلفظ حماد بن الجعد أيضًا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن عكرمة عن ابن عباس كما في سنن البيهقي (1/ 317). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهذه المتابعة لحماد من الجعد لايفرح بها؛ لأن عبدالكريم أبي أمية متروك، ومختلف عليه في الحديث اختلافًا كثيرًا سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى.
ولعل قوله: (فإن لم يجد فنصف دينار)، أدرجها حماد بن الجعد، وكانت من تفسير قتادة.
فقد أخرجه البيهقي (1/ 315) من طريق يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار، ففسره قتادة، قال: إن كان واجدًّا فدينار، وإن لم يجد فنصف دينار.
ويحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وسيأتي الكلام عليه، وقتادة قد عنعن وهو مدلس، وقد اختلف على قتادة، وسيأتي الكلام على طريقه بحديث مستقل.
إلى هنا انتهى الكلام على طريق الحكم بن عتيبة، ومع كون طريقه من أحسن طرق هذا الحديث إلا أنه تبين لنا أن فيه اختلافًا كثيرًا.
وفي بيان هذا الاختلاف يتبين لنا خطأ العلامة أحمد شاكر حين احتج لتصحيح رواية:
(دينار أو نصف دينار) بقوله: «وهذه الرواية -يعني بدينار أو نصف دينار- هي اللفظ في جميع الروايات التي ذكرناها على الحكم بن عتيبة
…
ثم ذكر من تابعه عليها».
فقد تبين أن الحكم تارة يقول: (دينار أو نصف دينار) وكلمة (أو) تحتمل التنويع، وتحتمل الشك، وتحتمل التخيير.
وتارة يقول: (نصف دينار) بالجزم.
وتارة بالتفصيل عن ابن عباس: إن أصابها في الدم فدينار، وإن أصابها بانقطاع الدم فنصف دينار.
وتارة يقول: (دينار فإن لم يجد فنصف دينار).
وتارة يرفعه، وتارة يوقفه، إلا أن هذا الاختلاف لا يوجب الاضطراب لإمكان الترجيح، فالراجح أنه موقوف على ابن عباس، وأن اللفظ:(دينار أو نصف دينار) والله أعلم.
الطريق الثاني: طريق خصيف، عن مقسم.
وخصيف وثقه أبو زرعة: وابن سعد، والعجلي. الجرح والتعديل (3/ 403)، الطبقات الكبرى (7/ 472)، ثقات العجلي (1/ 335).
وقال أبو حاتم: صالح يخلط، وتكلم في سوء حفظه. الجرح والتعديل (3/ 403).
وقال أحمد بن حنبل: ليس بقوي في الحديث. وقال أيضًا: مضطرب الحديث. ضعفاء العقيلي (2/ 31)، الكامل (3/ 69)، تهذيب التهذيب (3/ 123).
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (77).
وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الذهبي في الكاشف وابن حجر في التقريب: صدوق سيء الحفظ، زاد ابن حجر: خلط بآخره، وزاد الذهبي: ضعفه أحمد. الكاشف (1389).
ومع سوء حفظ خصيف فقد اختلف عليه فيه
…
فروي عنه، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا ومرسلًا.
وروي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس.
واختلف عليه في متنه أيضًا فروي: (يتصدق بنصف دينار).
وروي: (يتصدق بدينار).
وإليك بيان هذا الاختلاف، فرواه شريك، واختلف عليه فيه:
فرواه حسين بن محمد بن بهرام عند أحمد (1/ 272).
وأبو الوليد (هشام بن عبد الملك) كما في سنن الدارمي (1105).
ومحمد بن الصباح البزاز عند أبي داود (266)، والبيهقي (1/ 316).
وعلي بن حجر عند الترمذي (136)، والنسائي في الكبرى (9113).
كلهم رووه عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بنصف دينار.
وخالفهم محمد بن عيسى الطباع كما في سنن النسائي الكبرى (9114).
وعبد الرحمن بن شيبة الجدي كما في المعجم الكبير للطبراني (12025)، كلاهما عن شريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي أهله وهي حائض؟ قال: يتصدق بنصف دينار.
ولا أدري هل هذا التخليط من شريك أو من شيخه خصيف، فإن كلا منهما سيء الحفظ، ولا يبعد أن يكون هذا من شريك، فقد تفرد بذكر عكرمة، وقد رواه غير شريك عن خصيف، فلم يذكر عكرمة في إسناده.
فرواه سفيان الثوري، عن خصيف، واختلف على سفيان به:
فرواه عبد الرزاق (1263) عن الثوري، عن خصيف، عن مقسم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أتى امرأته حائضًا أن يتصدق بنصف دينار. وهذا مرسل.
ورواه الفريابي محمد بن يوسف، واختلف عليه فيه.
فرواه النسائي في السنن الكبرى (9111)، أخبرنا محمد بن ميمون، قال: أخبرنا الفريابي، قال: أنا سفيان به مرسلًا، كرواية عبد الرزاق.
وأخرجه الدارمي (1109)، أخبرنا محمد بن يوسف -يعني الفريابي- حدثنا سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يقع على امرأته وهي حائض يتصدق بنصف دينار، فوصله. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والفريابي ثقة. وفيه كلام يسير جدًّا في روايته عن الثوري خاصة.
ورواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن يزيد بن الصلت، عن سفيان عن خصيف، وقرن به غيره عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا.
وهذا الطريق ضعيف لضعف ابن الصلت.
ورواه ابن جريج عن خصيف واختلف على ابن جريج فيه.
فرواه عبد الرزاق (1262) عن ابن جريج، عن خصيف، عن مقسم مرسلًا.
ورواه النسائي في الكبرى (9109) من طريق حجاج - يعني المصيصي الثقة - عن ابن جريج، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا وفيه: فأمره بنصف دينار فصار ابن جريج تارة يرويه مرسلًا وتارة يرويه موصولًا.
ورواه النسائي في الكبرى (9110): أخبرنا هلال بن العلاء، قال: أخبرنا حسين قال: أخبرنا أبو خيثمة قال: أخبرنا خصيف، عن مقسم مرسلًا وفيه: فأمره بنصف دينار يتصدق به. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا شيخ النسائي، وهو صدوق.
ورواه معمر كما في مصنف عبد الرزاق (1261) عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إذا أصابها حائضًا تصدق بدينار. وخالف فيه من ناحيتين:
الأولى: أنه رواه موقوفًا
…
والأكثر عن خصيف إما على رفعه أو على إرساله.
الثانية: أنه قال: (يتصدق بدينار) مع أن أكثر من رواه عن خصيف قال: يتصدق بنصف دينار.
ورواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن خصيف به مرفوعًا. وعبد الله بن محرر متروك.
هذا هو الاختلاف على خصيف، وعلى ضعفه فإن في الرواية عنه اضطرابًا كثيرًا فلا يمكن أن يفرح به كمتابعة لطريق الحكم؛ لأنه خالف الحكم في لفظه من جهة، فإن أكثر الروايات عنه يتصدق بنصف دينار، ثم الاختلاف عليه في وصله وإرساله.
الطريق الثالث: طريق قتادة بن دعامة. وقد اختلف عليه في الإسناد.
فقيل: قتادة، عن مقسم.
وقيل: قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم.
وقيل: قتادة حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم.
وروى عنه مرفوعًا وروى عنه موقوفًا.
وإليك تخريج هذه الطرق:
فرواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، واختلف على سعيد بن أبي عروبة:
فرواه يزيد بن هارون كما في مسند أحمد (1/ 237). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعبد الوهاب بن عطاء كما في مسند أحمد (1/ 237)، وسنن البيهقي الكبرى (1/ 315).
وعبدة بن سليمان كما في سنن النسائي الكبرى (9105) ثلاثتهم (يزيد، وعبد الوهاب، وعبدة) رووه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه:(أن يتصدق بدينار أو نصف دينار) وكل هؤلاء رووا عن سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه.
وخالفهما روح بن عبادة كما في سنن النسائي الكبرى (9104).
وعبد الله بن كبر كما في سنن النسائي الكبرى (9104)، وسنن البيهقي (1/ 315)، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن عبد الحميد، عن مقسم به. مرفوعًا، فزادوا في الإسناد:
عبد الحميد بين قتادة ومقسم.
وروح بن عبادة، وعبد الله بن بكر سمعا من سعيد بن أبي عروبة قبل تغيره على الراجح من أقوال أهل العلم. انظر: حاشية الكواكب النيرات تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي (ص 209، 212).
وكل من تقدم رووه مرفوعًا.
ورواه عاصم بن هلال كما في سنن النسائي الكبرى (9106) عن قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفًا.
وهذا سند ضعيف فيه عاصم بن هلال.
وجميع هذه الطرق على اختلافها عن قتادة، قد عنعن فيها قتادة، وهو مدلس مكثر.
ورواه حماد بن الجعد كما في المعجم الكبير للطبراني (12060)، وسنن البيهقي (1/ 315 - 316) حدثنا قتادة، حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فزعم أنه وقع على امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار.
وهنا صرح قتادة بالتحديث، والإسناد وإن كان فيه ضعف يسير من قبل حماد بن الجعد، وهو أضعف إسنادًا من الطريقين السابقين المرفوعين، إلا أن شعبة قد تابعه فرواه عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس.
فهذا الإسناد كإسناد حماد بن الجعد سواء بسواء.
قال البيهقي في السنن الكبرى (1/ 315): «لم يسمعه قتادة من مقسم» وقال أيضًا: «ولم يسمعه أيضًا من عبد الحميد» ، ثم ساق حديث قتادة عن الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم.
فرجع طريق قتادة إلى طريق الحكم بن عتيبة، وقد أشبعنا طريق الحكم بن عتيبة بحثًا مبينًا الاختلاف على الحكم في إسناده، فارجع إليه إن شئت.
الطريق الثالث: عن عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري، عن مقسم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعبد الكريم ضعيف جدًّا، قال فيه أيوب: كان غير ثقة. لقد سألني عن حديث لعكرمة، ثم قال: سمعت عكرمة. ضعفاء العقيلي (3/ 62)، الكامل (5/ 338).
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (401).
واعتذر ابن عبد البر عن مالك في روايته عنه بقوله: «كان مجمع على ضعفه. ومن أَجَلِّ من جرَحَه أبو العالية، وأيوب مع ورعه، غَرَّ مالكًا سمته، ولم يكن من أهل بلده» .اهـ تهذيب التهذيب (6/ 335).
وهذه الطريق -على شدة ضعفها- فيها علل أخرى، منها:
الاختلاف في وقفه ورفعه، أو هو من قول مقسم، الراوي عن ابن عباس.
ومنها: الاختلاف هل قال: (دينار أو نصف دينار)، أو جزم بـ (نصف دينار)، وفي بعضها التفصيل:(إن كان الدم كذا فدينار، أو كذا فنصف دينار).
ومنها: الاختلاف في إسناده.
فقيل: عن عبد الكريم، عن مقسم عن ابن عباس.
وقيل: عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ومنها: الاختلاف في عبد الكريم هل هو ابن أبي المخارق المتروك، أو هو ابن مالك الثقة.
وإليك بيان هذا الاختلاف بالتفصيل.
أما الاختلاف في وقفه ورفعه، فقد أخرجه البيهقي (1/ 317) من طريق هشام الدستوائي، حدثنا عبد الكريم أبو أمية، عن مقسم، عن ابن عباس، في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار. وهذا موقوف.
وإسناده إلى عبد الكريم كلهم ثقات ولكن ما ينفع وعبد الكريم ضعيف جدًّا؟
وفي هذا الإسناد فائدة أخرى، وهي التصريح أن عبد الكريم هو أبو أمية المتروك. ولنا في هذا وقفة.
وتابع سفيان بن عيينة هشامًا، إلا أنه اختلف على سفيان.
فرواه أحمد بن حنبل في العلل (1/ 178) عن سفيان، حدثنا عبد الكريم، عن مقسم به موقوفًا، كرواية هشام الدستوائي.
قيل لسفيان: يا أبا محمد، هذا مرفوع، فأبى أن يرفعه، وقال: أنا أعلم به، يعني أبا أمية.
ورواه إسحاق بن راهوية كما في سنن النسائي الكبرى (9107) أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، إن كان الدم عبيطًا فدينار، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار.
فصار الحديث عن سفيان بن عيينة يرويه أحمد موقوفًا، ويرويه إسحاق بن راهويه مرفوعًا، والبلاء فيه من عبد الكريم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ورواه جماعة عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعًا:
فرواه ابن جريج ومحمد بن راشد كما في مصنف عبد الرزاق (1264، 1265، 1266)، والمعجم الكبير للطبراني (12134)، وسنن البيهقي (1/ 316) بلفظ:(من أتى امرأته في حيضتها فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها فلم تغتسل فنصف دينار).
ورواه أبو حمزة السكري كما في سنن الترمذي (137).
وأبو جعفر الرازي كما في مسند أبي يعلى (2432)، وسنن الدارمي (1111)، والمعجم الكبير للطبراني (12135)، وسنن الدراقطني (3/ 287) وسنن البيهقي (1/ 317).
وعبد الله بن محرر مقرونًا معه غيره كما في سنن الدراقطني (1/ 287)، ثلاثتهم (السكري،
وأبو جعفر، وعبد الله بن محرر) عن عبد الكريم به، بلفظ:(إن كان دمًا أحمر فدينار، وإذا كان دمًا أصفر فنصف دينار).
ورواه الحجاج بن أرطأة كما في سنن النسائي الكبرى (9108).
وأبو الأحوص كما في سنن النسائي كلاهما (حجاج وأبو الأحوص) عن عبد الكريم به بلفظ: (يتصدق بنصف دينار). فخالفا في لفظه.
ورواه سعيد بن أبي عروبة، واختلف عليه فيه:
فرويناه فيما سبق، عن سعيد عن قتادة عن مقسم، وسبق الكلام عليها في طريق الحكم.
ورواه عبد الله بن بكر كما في المنتقى لابن الجارود (111) عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم به بلفظ:(يتصدق بدينار أو نصف دينار).
والسند إلى عبدالكريم سند صحيح.
ورواه البيهقي (1/ 317) من طريق يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن عبد الكريم به بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار.
وفسر ذلك مقسم، فقال: إن غشيها في الدم فدينار، وإن غشيها بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل فنصف دينار. فجعل التنويع هذا من قول مقسم، وليس من قول ابن عباس.
وخالف روح بن عبادة عبد الوهاب بن عطاء، وعبد الله بن بكر، فأخرجه البيهقي (1/ 317) من طريق أبي قلابة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا فذكر عكرمة بدلًا من مقسم، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار، وفسره مقسم فقال: إذا كان في إقبال الدم فدينار، وإذا كان في انقطاع الدم فنصف دينار ..
وأبو قلابة: صدوق يخطئ، وتغير حفظه بآخره، وقوله:(يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار) مع أن المشهور في الحديث: (يتصدق بدينار أو نصف دينار)، وتفسير مقسم غير مناسب للفظ الحديث؛ لأن تفسير مقسم يصلح لو أن اللفظ جاء بقوله: (يتصدق بدينار أو نصف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= دينار) فهذا يمكن أن يقال: إن تفسير مقسم يرجح أن (أو) ليست للشك ولا للتخيير، وإنما هي للتنويع، وما دام أن اللفظ دينار فإن لم يجد فنصف دينار، لم يبق للتفسير مجال ..
فتبين من هذه الطرق: أنه روي الحديث عن عبد الكريم موقوفًا، وروي مرفوعًا.
وروي عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقيل: عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ولم يسلم لفظ الحديث من الاختلاف.
فروي بلفظ: (إن كان الدم عبيطًا -وفي رواية أحمر- فدينار، وإن كان في الصفرة فنصف دينار).
وجعل هذا التفصيل مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه أبو جعفر الرازي وسفيان، وأبو حمزة السكري، عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا.
وروي بلفظ: (من أتاها في حيضتها فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها فلم تغتسل فنصف دينار).
وهذا اللفظ يختلف عن اللفظ الأول لأنه جعل النصف دينار بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، وجعل الدينار وقت نزول الدم مطلقًا سواء كان أحمر أو أصفر.
وممن روى هذا اللفظ عن عبد الكريم ابن جريج، ومحمد بن راشد.
ومنهم من جعل التفصيل من قول مقسم، ولم يجعله مرفوعًا، ولا موقوفًا، كرواية عبد الوهاب ابن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم.
وقد رجح العلامة أحمد شاكر أن التفصيل من قول مقسم.
وفي الحقيقة لا يمكن لنا أن نركن إلى هذه الرواية، والتي مدارها على رجل متروك، ونترك ما ثبت عن ابن عباس من قوله بسند حسن، فقد روى البيهقي (1/ 319) من طريق أبي الجواب، حدثنا سفيان الثوري عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف دينار.
وله متابع عند أبي داود (265)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 318) من طريق أبي الحسن الجزري عن مقسم عن ابن عباس وسنده ضعيف إلا أنه صالح في المتابعات.
كما أن الرواية التي جعلت التفصيل من كلام مقسم فيها أكثر من علة، فلا يمكن أن تعارض ما ثبت عن ابن عباس.
العلة الأولى: أن مدار الإسناد على عبد الكريم بن أبي المخارق وهو متروك.
العلة الثانية: أن من رواه عن سعيد بن أبي عروبة، وجعله من قول مقسم: هما روح بن عبادة، وعبد الوهاب بن عطاء على اختلاف عليهما في إسناده. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فالراوي عن روح هو أبو قلابة، وهو صدوق يخطئ، وتغير حفظه بآخرة، وقد استبدل مقسمًا بعكرمة، ولم يتابع على ذكر عكرمة.
والراوي عن عبد الوهاب يحيى بن أبي طالب، وهو مختلف فيه.
فقال الآجري: خط أبو داود سليمان بن الأشعث على حديث يحيى بن أبي طالب. لسان الميزان (6/ 262).
وقال موسى بن هارون قوله: «أشهد على يحيى بن أبي طالب أنه يكذب» . قال الحافظ ابن حجر: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث. قلت: الكذب جرح على كل حال. تاريخ بغداد (14/ 220)، لسان الميزان (6/ 262).
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين. تاريخ بغداد (14/ 220).
وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 134).
وقال الدارقطني: لا باس به عندي، ولم يطعن فيه أحد بحجة.
انظر: تاريخ بغداد (14/ 220)، وسير أعلام النبلاء (12/ 619)، وشذرات الذهب (2/ 68).
العلة الثالثة: أن عبد الله بن بكر قد رواه عن سعيد بن أبي عروبة، وخالف فيه عبد الوهاب بن عطاء، وروح بن عبادة، فرواه عن سعيد بلفظ:(فليتصدق بدينار أو نصف دينار)، من غير تفصيل.
العلة الرابعة: أن سعيد بن أبي عروبة قد كثر الاختلاف عليه مما يضعف روايته:
فقيل: عن سعيد عن قتادة عن مقسم، عن ابن عباس.
وقيل: عن سعيد عن عبد الكريم عن مقسم مرفوعًا.
وقيل: سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا فجعل بدلًا من مقسم عكرمة.
العلة الخامسة: أن سفيان بن عيينة، وأبو حمزة السكري، وابن جريج وهما ثقات، وأبا جعفر الرازي، ومحمد بن راشد كل هؤلاء الخمسة رووه عن عبد الكريم وجعلوا التفصيل مرفوعًا.
فالذي أميل إليه أن اللفظ المشهور عن عبد الكريم، هو ما رواه البيهقي (1/ 317) من طريق هشام الدستوائي، ثنا عبد الكريم أبو أمية عن مقسم، عن ابن عباس موقوفًا عليه (يتصدق بدينار أو نصف دينار) على خلاف في تفسير (أو) كما سبق.
قال البيهقي: وهذا أشبه بالصواب.
كما اختلفوا في عبد الكريم، هل هو ابن أبي المخارق البصري، أبو أمية المتروك، أو هو عبد الكريم ابن مالك الثقة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فأكثر الطرق عن عبد الكريم غير منسوب.
وجاء عند الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن عبد الكريم بن مالك،
وعبد الله بن محرر متروك.
فرواه البيهقي (1/ 317) بسند صحيح إلى هشام الدستوائي، قال: حدثنا عبد الكريم أبو أمية.
وتابعه أبو جعفر الرازي كما في مسند أبي يعلى (2432)، والمعجم الكبير للطبراني (12135)، وسنن البيهقي (1/ 317)، والبغوي في شرح السنة (315)
وأبو جعفر وإن كان سيء الحفظ، فقد تابعه ثقة هشام الدستوائي، فتبين من هذا أن المعروف في طرق عبد الكريم أنه ابن أبي المخارق، وقد أخطأ العلامة أحمد شاكر حين جزم أنه ابن مالك الثقة. هذا ما يخص طريق عبد الكريم ابن أبي المخارق.
الطريق الرابع: طريق يعقوب بن عطاء، عن مقسم.
أخرجه الدارقطني (3/ 286، 287)، والبيهقي (1/ 318) من طريق أبي بكر بن عياش، عن يعقوب بن عطاء، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي يقع على امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
قال البيهقي: ويعقوب بن عطاء لا يحتج بحديثه.
الطريق الخامس: علي بن بذيمة، عن مقسم.
أخرجه الدارقطني (3/ 187) من طريق عبد الله بن محرر، عن علي بن بذيمة، وقرن به غيره، عن مقسم به مرفوعًا
…
وعبد الله بن محرر متروك وقد سبق.
وأخرجه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن يزيد بن الصلت، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، وقرن معه غيره، عن مقسم به مرفوعًا: من أتى امرأته في الدم فعليه دينار، وفي الصفرة نصف دينار.
وعبد الله بن يزيد بن الصلت ضعيف جدًّا، وسبقت ترجمته.
الطريق السادس: ابن أبي ليلى، عن مقسم.
أخرجه الدارمي (1115): أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلي، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفًا قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
وأخرجه الدارمي أيضًا (1118) أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس في الذي يقع على امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار. وابن أبي ليلى ضعيف من قبل حفظه.
هذا فيما يتعلق بطريق مقسم عن ابن عباس.
وقد رواه عكرمة عن ابن عباس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه أحمد (1/ 245) حدثنا يونس،
وأخرجه أحمد أيضًا (1/ 306) حدثنا شريح،
وأخرجه أحمد أيضًا (1/ 363) حدثنا أبو كامل.
وأخرجه الطبراني (11921) من طريق حجاج بن المنهال، كلهم عن حماد بن سلمة، عن عطاء العطار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار.
وأخرجه البيهقي (1/ 318) من طريق يزيد بن زريع، عن عطاء العطار به.
وفي إسناده: عطاء بن عجلان العطار، قال يحيى بن معين: عطاء العطار، ليس بثقة. تهذيب التهذيب (7/ 186)، الجرح والتعديل (6/ 335).
وقال في موضع آخر: كذاب. ضعفاء العقيلي (3/ 402).
وقال عمر بن علي: كان كذابًا. الجرح والتعديل (6/ 335).
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 476)، والضعفاء الصغير (279).
وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب الكمال (20/ 94).
بقي قبل أن نطوي البحث في هذا الحديث أن ننقل لك خلاف العلماء المتقدمين وما قالوه فيه.
ذهب فريق من العلماء إلى تصحيحه مرفوعًا. على رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، والحاكم، وابن القطان الفاسي، وابن دقيق العيد، وابن حجر.
جاء في تلخيص الحبير (1/ 293): قال الخلال عن أبي داود، عن أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد؟ فقيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم.
وقال ابن حجر أيضًا في التلخيص: «والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جدًّا
…
وقد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه -وسوف أنقل لك كلام القطان بطوله- ثم قال: «وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام، وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين ونحوهما.
وقال الحاكم في المستدرك (1/ 172): «هذا حديث صحيح، فقد احتجا جميعًا بمقسم ابن بجرة» .
قلت: لم يحتج مسلم بمقسم، وما خرج له البخاري إلا حديثًا واحدًا قد توبع فيه.
وأطال الكلام ابن القطان الفاسي في تصحيحه للحديث في كتابه بيان الوهم والإيهام وأورد لك خلاصة منه: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال رحمه الله (5/ 276): بعد أن بين بعض الاختلاف على بعض الرواة: «والصواب أن ننظر رواية كل راو بحسبها، ويعلم ما خرج عنه فيها، فإن صح من طريق قبل، ولو كانت له طرق أخرى ضعيفة. وهم إذا قالوا: هذا روي فيه (بدينار). وروي فيه: (بنصف دينار) وروي باعتبار صفات الدم، وروي دون اعتبارها، وروي باعتبار أول الحيض وآخره، وروي دون ذلك، وروي بخمس دينار، وروي بعتق نسمة قامت من هذا في الذهن صورة سواء، وهو عند التبيين والتحقيق لا يضره، ونحن نذكر الآن كيف هو صحيح بعد أن نقدم أن نقول:
يحتمل قوله: (دينار أو نصف دينار) ثلاثة أمور.
أحدها: أن يكون تخييرًا.
ويبطل هذا بأن يقال: التخيير لا يكون إلا بعد طلب، وهذا وقع بعد الخبر، إذ حكم التخيير الاستغناء بأحد الشيئين؛ لأنه إذا خير بين الشيء وبعضه، كان بعض أحدهما متروكًا بغير بدل.
الأمر الثاني: أن يكون شكًّا من الراوي.
الثالث: أن يكون باعتبار حالين. وهذا هو الذي يتعين منها، ونبينه الآن فنقول: قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار.
قال أبو داود: «كذا الرواية الصحيحة: (بدينار أو بنصف دينار) وربما لم يرفعه شعبة. وهذا ليس فيه توهين له، لاحتمال أن يكون عنده فيه المرفوع، والموقوف، ويكون ابن عباس رضي الله عنه قد رواه، ورآه فحمله، وأفتى به.
قلت: فرق بين أن يرويه موقوفًا، أو أن يسأل فيفتي به، والمحدثون يفرقون بين هذا وهذا، وإن كان الفقهاء لا يفرقون بين الرواية والفتوى، فيحملون الموقوف على المرفوع ظنًا منهم أن هذا منه من قبيل الفتوى، ولا يتمشى هذا على طريقة المحدثين، بل إن المحدثين يذهبون إلى أبعد من هذا فيفرقون بين ما سمعوه في المذاكرة، وإن كان على سبيل الرواية، وبين غيره؛ لأن المذاكرة قد يتساهل الشيخ في النص المروي .. فلله درهم، وأين هذا من طريقة الفقهاء والأصوليين فيما إذا تعارض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف، فإنهم يحكمون لمن وصله أو رفعه مطلقًا ما دام أن الراوي مقبول الرواية! !
نعود إلى كلام ابن القطان
…
قال: «فأما طريق أبي داود فصحيح، فإن عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب اعتمده أهل الصحيح، منهم البخاري، ومسلم، ووثقه النسائي والكوفي.
ويحق له، فقد كان محمود السيرة في إمارته على الكوفة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ضابطًا لما يرويه، ومن دونه في الإسناد لا يسأل عنهم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويتكرر على سمعك من بعض المحدثين أن هذا الحديث في كفارة من أتى حائضًا لا يصح، فلتعلم أنه لا عيب له عندهم إلا الاضطراب زعموا.
ثم قال: «فنقوله: الرجال الذين رووه مرفوعًا ثقات، وشعبة إمام أهل الحديث كان يقول: أما حفظي فمرفوع، وقال فلان وفلان إنه كان لا يرفعه، فقال له بعض القوم: يا أبا بسطام، حدثنا بحفظك ودعنا من فلان وفلان، فقال: والله ما أحب أني حدثت بهذا أو سكت أو أني عمرت في الدنيا عمر نوح في قومه فهذا غاية التثبت منه.
وهبك أن أوثق أهل الأرض خالفه فيه فوقفه على ابن عباس، كان ماذا؟ أليس إذا روى الصحابي حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له، بل يجب عليه أن يقلد مقتضاه فيفتي، هذا قوة للخبر لا توهين له.
فإن قلت: فكيف بما ذكر ابن السكن، قال: حدثنا يحيى وعبد الله بن سليمان وإبراهيم، قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة بالإسناد المتقدم مثله موقوفًا، فقال له رجل: إنك ترفعه، فقال: إني كنت مجنونًا فصححت.
قلنا -القائل ابن القطان- نظن أنه رضي الله عنه، لما أكثر عليه في رفعه إياه توقى رفعه، لا لأنه موقوف، لكن إبعادًا للظنة عن نفسه.
وأبعد من هذا الاحتمال أن يكون شك في رفعه في ثاني حال فوقفه، فكان ماذا فلا نبالي ذلك أيضًا، بل لو نسى الحديث بعد أن حدث به لم يضره، فإن أبيت إلا أن يكون شعبة رجع عن رفعه، فاعلم أن غيره من أهل الثقة والأمانة أيضًا قد رواه عن الحكم مرفوعًا، كما رواه شعبة فيما تقدم - وهو عمرو بن قيس الملائي، وهو ثقة، قال فيه عن الحكم ما قاله شعبة من رفعه إياه، إلا أن لفظه:(فأمره أن يتصدق بنصف دينار)، وذلك لا يضره، فإنه إنما حكى قضية معينة، وهو مؤكد لما قلناه: من أن دينارًا أو نصف دينار، إنما هو باعتبار حالين، لاتخيير ولا شك.
ورواه أيضًا مرفوعًا هكذا عن عبد الحميد بن عبد الرحمن المذكور قتادة، وهو من هو، ثم ساق إسناد النسائي للحديث من طريق روح بن عبادة، وعبد الله بن بكر، قالا: حدثنا ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس أن رجلًا غشى امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بدينار أو نصف دينار.
ثم قال القطان: فهذا شأن حديث مقسم، ولن نعدم فيه وقفًا وإرسالًا، وألفاظًا أخر لا يصح منها شيء غير ما ذكرناه».
قلت: هذا الكلام مدخول من وجوه:
أولًا: أن العلة ليست شك شعبة الطارئ، بل شك شيخه الحكم بن عتيبة، وقد سمعه شعبة من الحكم تارة مرفوعًا وتارة موقوفًا فترك رفعه، وقد نقلنا صريح عبارة شعبة قال: أسنده لي الحكم مرة، وأوقفه أخرى، وكون الحكم يشك في رفعه تارة يرويه مرفوعًا وتارة موقوفًا هذا دليل على عدم ضبطه
…
وقد أشبعنا هذه المسألة بحثًا في أول البحث فلا نرجع إليه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثانيًا: قوله: إن عمرو بن قيس الملائي قد رواه عن الحكم مرفوعًا، فالذي وقفنا عليه من رواية عمرو بن قيس أنه رواه موقوفًا ولم أقف عليه مرفوعًا من طريقه، ولم يذكر لنا ابن القطان من الذي رواها. انظر رواية عمرو بن قيس الملائي الموقوفة في سنن النسائي الكبير (9100)، والطبراني في الكبير (12129) وإسنادهما حسن.
وقد رواه الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا أيضًا. انظر سنن الدارمي (1112) وسنده صحيح.
ثالثًا: رواية قتادة التي أشار إليها ابن القطان قد بينا الاختلاف على قتادة، فروي عن قتادة عن مقسم، وروي عن قتادة عن عبد الحميد، وقد بينت أن طريق قتادة المحفوظ فيه قتادة عن الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم عن ابن عباس. فرجع طريق قتادة إلى طريق الحكم فما أضاف شيئًا.
وما عداه من الطرق كطريق خصيف، أو عبد الكريم بن أبي المخارق، فالأول مضطرب، والثاني ضعيف جدًّا.
القول الثاني: ممن ضعف الحديث مرفوعًا.
ضعفه الإمام الشافعي رحمه الله، جاء في تلخيص الحبير (1/ 293): قال البيهقي: قال الشافعي في أحكام القرآن، لو كان هذا الحديث ثابتًا لأخذنا به.
وضعفه ابن عبدالبر، وسوف أنقل كلامه في أدلة القول الثاني.
وقال النووي في المجموع (2/ 391): «اتفق المحدثون على ضعف حديث ابن عباس واضطرابه.
وروي موقوفًا، وروي مرسلًا، وألوانًا كثيرة، وقد رواه أبو داود، والترمذي والنسائي وغيرهم، ولا يجعله ذلك صحيحًا، وذكره الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وقال: هو صحيح، وهذا الذي قاله الحاكم خلاف قول أئمة الحديث، والحاكم معروف عندهم بالتساهل في التصحيح، وقد قال الشافعي في أحكام القرآن: هذا حديث لا يثبت مثله، وقد جمع البيهقي طرقه، وبين ضعفها بيانًا شافيًا، وهو إمام حافظ متفق على إتقانه وتحقيقه، فالصواب أنه لا يلزمه شيء والله أعلم». اهـ كلام النووي.
وحكاية الاتفاق عند النووي كثيرة، ولا يوافق على كثير منها، بل إن ابن المنذر على تساهله في حكاية الإجماع أقرب منه، ويستطيع الباحث أن يجمع مؤلفًا فيما قال فيه النووي: ضعيفًا أو صحيحًا باتفاق المحدثين والتحقيق خلافه.
وممن قال لا يلزمه شيء من السلف جماعة، منهم:
- ابن سيرين، رواه عبدالرزاق (1267، 1268) عنه بسند صحيح، وكذلك الدارمي (1103). =