الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذاهب الأخرى، فأجازوا الشفعة في كل مبيع، عقاراً أو منقولاً، سواء أكان المنقول متصلاً بالعقار أم لا، وسواء أكان الشيء المبيع مما ينقسم، أم مما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو ثوب، أو سيف أوطعام أو حيوان، أو أي شيء بيع، فلا يحل لمن له الجزء، أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه (1).
المبحث الثالث ـ الشفيع
أولاً ـ من الشفيع
؟ للفقهاء رأيان فيمن يحق له الأخذ بالشفعة: رأي للحنفية: في أن الشفيع: هو الشريك، أو الجار. ورأي للجمهور: في أن الشفيع هو الشريك فقط.
قال الحنفية (2): تثبت الشفعة للشريك (الخليط) في المبيع نفسه، أو في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، كالشِّرب (النصيب من الماء)، والطريق الخاصين، كما تثبت للجار الملاصق للمبيع، ولو كان باب داره من سكة أخرى. والملاصق من جانب واحد ولو بشبر، كالملاصق من ثلاثة جوانب، وواضع جذع على حائط، وشريك في خشبة على حائط: جار لا شِريك؛ لأن وضع الجذوع على الحائط لا يصير صاحبه شريكاً في الدار، والشفعة تثبت في العقار دون المنقول، والخشبة منقول. ولا فرق بين مسلم وذمي في استحقاق الشفعة، لعموم أدلة مشروعيتها، ولتساويهما في سبب الشفعة وحكمتها، فيتساويان في الاستحقاق.
(1) المحلى: 101/ 9، م 1594.
(2)
البدائع: 4/ 5، تكملة الفتح: 406/ 7، 414، 436، تبيين الحقائق: 239/ 5 - 241، اللباب: 106/ 2، الدر المختار: 155/ 5.
ودليلهم الأحاديث السابقة في مشروعية الشفعة، والتي منها:«جار الدار أحق بسقبه» (1) و «جار الدار أحق بدار الجار، والأرض» (2) و «الجار أحق بشفعته» (3). ويؤكده أن العلة الموجب للشفعة هو دفع الضرر الدائم، الذي يلحق المرء بسبب سوء العشرة على الدوام. وهذا يتحقق في الجار، كما يتحقق في الشريك، فتكون حكمة مشروعية الشفعة ظاهرة فيهما، وهو دفع الضرر عنهما.
وقال الجمهور (غير الحنفية)(4): لا شفعة إلا لشريك في ذات المبيع، لم يقاسم (أي أن حقه مشاع لم يقسم) فلا شفعة عندهم لشريك مقاسم، ولا لشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع، ولا للجار.
وتثبت الشفعة عند المالكية والشافعية والظاهرية للذمي الكافر على المسلم، كما قال الحنفية. ولا تثبت للكافر عند الحنابلة في بيع عقار لمسلم، للحديث النبوي:«لا شفعة لنصراني» (5) فهو يخص عموم ما احتجوا به، ولأن الأخذ بالشفعة يختص به العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، والكافر ممنوع من ذلك بالنسبة للمسلم، ولأن في شركته ضرراً بالمسلم. ولكن رأي الجمهور في هذا أرجح، بسبب ضعف الحديث الذي احتج به الحنابلة.
(1) سبق تخريجه، أخرجه البخاري عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم (نصب الراية: 174/ 4).
(2)
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، من حديث الحسن عن سمرة (نصب الراية: 172/ 4).
(3)
من حديث جابر عند الترمذي.
(4)
بداية المجتهد: 253/ 2، الشرح الكبير: 473/ 3، الشرح الصغير: 631/ 3، مغني المحتاج: 297/ 2، المهذب: 377/ 1 وما بعدها، المغني: 285/ 5 وما بعدها، 357، كشاف القناع: 149/ 4، 182، القوانين الفقهية: ص 286، المحلى: 115/ 9، م1598.
(5)
رواه الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس، وأبي بكر، لكن في إسنادهما بابل بن نجيج، ضعفه الدارقطني وابن عدي.
واتفق الفقهاء ماعدا الحنابلة على أن الشفعة تثبت للذمي على الذمي، لعموم الأخبار الواردة في الشفعة، ولأنهما تساويا في الدين والحرمة، فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلم على المسلم. وتثبت الشفعة لأهل البدع الذين حكم بإسلامهم؛ لأن عموم الأدلة يقتضي ثبوتها لكل شريك. وأما أصحاب البدع الذين حكم بكفرهم فلا شفعة لهم على مسلم عند الحنابلة، بخلاف الجمهور (1).
وأدلة الجمهور: حديث جابر السابق: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقعت الحدود، وصرِّفت الطرق، فلا شفعة» وحديث سعيد بن المسيب: «إذا قسمت الأرض، وحُدَّت، فلا شفعة فيها» (2)، فإذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى ألا تكون واجبة للجار، والشريك المقاسم إذا قاسم: جارٌ.
ولأن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، فيقتصر فيها على مورد النص.
وأما حديث أبي رافع: «الجار أحق بصقبه» فليس بصريح في الشفعة، فيحتمل أنه أراد بالصقب: إحسان جاره وصلته وعيادته ونحوها. وخبر جابر صريح صحيح، فيقدم. وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال، فحديث سمرة يرويه عنه الحسن، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة. ويتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة، فيكون لفظ الجار مراداً به الشريك. وهذا الرأي في تقديري أولى؛ لأن الشفعة تثير مشكلات متعددة، والأصل المقرر في الشريعة هو حرية التعاقد، فيقتصر فيها على حالة الشركة فقط.
وقد توسط ابن القيم بين الرأيين، فقرر ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً مع
(1) المغني: 358/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 183/ 4.
(2)
رواه أبو داود، ومالك مرسلاً، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.