الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الصلح عن القصاص كان بمثابة السكوت عن ذكر عوض، وإذا لم يذكر العوض كان معناه هو العفو، وبعد العفو لا يجب شيء. أما في النكاح فلا يحتمل العفو عن المهر؛ لأنه إذا سكت عنه يجب حكماً لأنه من ضرورات عقد النكاح، فإنه ما شرع إلا بالمال، فإذا لم يكن المسمى صالحاً للمهر، صار كما لو لم يسم العاقد مهراً، وإذا لم يسم مهراً وجب مهر المثل.
وأما الصلح: فليس من ضروراته وجوب المال، فإنه لو عفا بلا تسمية شيء لم يجب شيء (1).
والصلح عن القصاص جائز سواء أكان بدل الصلح قدر الدية أم أقل أم أكثر لقوله تعالى: {فمن عفي له (2) من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] قال ابن عباس: «إنها نزلت في الصلح عن دم العمد» واسم الشيء يتناول القليل والكثير، فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل والكثير.
وهذا بخلاف الصلح عن القتل الخطأ وشبه العمد: فإنه إذا صالح على أكثر من الدية والأرش لا يجوز الصلح؛ لأن الأرش والدية مقدران شرعاً بمقدار معلوم لا زيادة عليه، فالزيادة على المقدر تكون ربا، فلا يجوز، أما بدل الصلح عن القصاص فعوض عن القصاص، والقصاص ليس بمال، حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر، وليس فيه تقدير شرعي، فلا يتحقق الربا (3).
الصلح عن المجهول:
لا يشترط عند الحنفية والحنابلة: أن يكون المصالح عنه
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 33/ 7، تبيين الحقائق: 35/ 5.
(2)
أي أعطي له. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر الولي بالاتباع بالمعروف إذا أعطي له شيء.
(3)
البدائع: 49/ 6، العناية مع تكملة الفتح: 34/ 7، تبيين الحقائق: 36/ 5، الدر المختار: 497/ 4.
معلوماً، فيصح الصلح عن المجهول، سواء أكان عيناً أم ديناً، فمن ادعى على آخر حقاً في عين، فأقر به المدعى عليه، أو أنكر، فصالح على مال معلوم، جاز (1)؛ لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط، وهذا إسقاط حق، فصح في المجهول كالعتاق والطلاق، ولأنه إذا صح الصلح مع العلم، وإمكان أداء الحق بعينه، فلأن يصح مع الجهل أولى، إذ لو لم يجز الصلح حينئذ أدى إلى ضياع المال، والصلح هنا ليس بيعاً وإنما هو إبراء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست:«استهما، وتوخيا، وليحلل أحدكما صاحبه» (2)، وهذا صلح على المجهول كما قال ابن قدامة.
وقال المالكية: ينبغي أن يعرف المدعي قدر ما يصالح عنه من الدين، فإن كان مجهولاً لم يجز.
وقال الشافعي: لا يصح الصلح على المجهول؛ لأن الصلح بيع، ولايصح على المجهول (3).
(1) يعني أن يكون بين رجلين معاملة وحساب من زمن طويل، ولا علم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه، فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق، لا علم له بقدره، جاز أن يصالح عليه.
(2)
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأصله في الصحيحين عن أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرِست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاماً (أي المسعار وهو الحديدة التي يسعر بها النار) في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما إذ قلتما فاذهبا، فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحلل كل واحد منكما صاحبه» ليحلل: أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته، وفيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول (راجع نيل الأوطار: 253/ 5).
(3)
راجع البدائع: 49/ 6، مجمع الضمانات: ص 388، تبيين الحقائق: 32/ 5، الدر المختار: 493/ 4، المغني: 490/ 4 ومابعدها، الميزان: 79/ 2، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 310/ 3.