الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن الجدير بالذكر أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه وأعطي لفقير، مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحض المسلمين على البذل، ويرغبهم في العطاء من غير أمر ولا عزيمة، فجاء أبو بكر مرة بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة بجميع ما يلزمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (1).
تقييد الملكية:
يقول بعض الكاتبين: لما كان المال مال الله، والناس جميعاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله هي أيضاً لله، كان من الضروري أن يكون المال ـ وإن ربط باسم شخص معين ـ لجميع عباد الله، وينتفع به الجميع، قال الله تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وبهذا يكون للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه، وتكون الملكية الشخصية إذن في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية (2).
ويرى أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة أنه لا مانع من وصف الملكية بكونها وظيفة اجتماعية، ولكن يجب أن يعرف أنها بتوظيف الله تعالى، لا بتوظيف الحكام؛ لأن الحكام ليسوا دائماً عادلين (3).
وفي تقديري أن الإسلام منهج واضح لا غبار عليه، واستعمال هذا التعبير
(1) انظر بحث الملكية الفردية في الإسلام للأستاذ محمد عبد الله كنون المنشور مع بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث في الأزهر: ص186، وانظر حديث عثمان في التلخيص الحبير: ص278.
(2)
انظر مقال شيخ الأزهر السابق: أستاذنا الشيخ محمود شلتوت في جريدة الجمهورية 22 كانون الأول (ديسمبر) 1961م، اشتراكية الإسلام للسباعي: ص80.
(3)
التكافل الاجتماعي في الإسلام، المصدر السابق: ص23.
المأخوذ من تعاليم الشيوعية أو الاشتراكية الماركسية يزج الإسلام في حمأة المبادئ الماركسية، ويناقض حرية الإنسان الطبيعية الفطرية في التملك، ويضلل الأفكار في فهم حقيقة نظرة الإسلام للملكية، فالملكية الخاصة حق مصون في الإسلام، اللهم إلا في حدود حق الغير ومصلحة المجتمع. فحق الملكية ليس وظيفة اجتماعية تجعل المالك مجرد موظف لصالح الجماعة، وإنما هو ذو وظيفة اجتماعية، كما أنه ذو صفة فردية، إذ لو اعتبر الحق وظيفة اجتماعية، لكان صاحب الحق موظفاً أو مجرد وكيل يعمل لصالح الجماعة، دون نظر إلى مصلحته الخاصة، وهذا في الحقيقة إلغاء لفكرة الحق، ويعتبر إلغاء الملكية مناقضاً للفطرة الإنسانية ومصادماً لمشاعر الإنسان وحبه التملك، وسبباً واضحاً في كبت الطاقات البشرية ونزعة الإبداع والتقدم الذاتي.
وبعبارة أخرى: إن الإسلام لايمنع الملكية الخاصة مطلقاً، ولايطلقها بلا حدود. قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]، {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/ 51]، {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16]، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54/ 5] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (1)«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (2)، «لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (3).
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (راجع الترغيب والترهيب: 3ص609 ومابعدها).
(2)
رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله (جمع الفوائد لابن سليمان الروداني:474/ 1).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لايحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا ماطابت به نفسه» وله ألفاظ وروايات كثيرة منها: مارواه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي بلفظ: «لايحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه» (انظر مجمع الزوائد: 4ص171، نصب الراية: 4ص169، سبل السلام: 3ص60، نيل الأوطار: 152/ 8).
وبناء عليه يحرم التعدي على ملكيات الأفراد مادامت مشروعة، قال صلى الله عليه وسلم:«من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (1).
وقرر الإسلام عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش، والجباية الظالمة ونحوها، وطالب بضمان الأموال المتلفة. وأما الملكية غير المشروعة فيجوز للدولة التدخل في شأنها لرد الأموال إلى صاحبها، بل إن لها الحق في مصادرتها، سواء أكانت منقولة أم غير منقولة، كما فعل سيدنا عمر في مشاطرة بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولايتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة: وهو البعد بها عن الشبهات وعن اتخاذها وسيلة للثراء (2)؛ لأن الملكية مقيدة بالطيبات والمباحات، أما المحرمات التي تجيء عن طريق الرشوة أو الغش أو الربا أو التطفيف في الكيل والميزان أو الاحتكار أو استغلال النفوذ والسلطة، فلا تصلح سبباً مشروعاً للتملك.
وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل حق الملكية، أو في منع المباح وتملك المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعماله إلى ضرر عام، كما يتضح من مساوئ الملكية الإقطاعية، ومن هنا يحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية في بداية إنشائها في حال إحياء الموات، فيحددها بمقدار معين، أو ينتزعها من أصحابها مع دفع تعويض عادل عنها (3) إذا كان ذلك في سبيل المصلحة العامة للمسلمين (4).
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة (نيل الأوطار: 317/ 5).
(2)
انظر التلخيص الحبير: ص254.
(3)
ولا تعويض وإنما يصادر المال إذا كان مكتسباً بطريق غير مشروع كالاغتصاب والاختلاس أو كان سبب اكتسابه مشتبهاً فيه، ولقد صادر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وبخاصة سيدنا عمر أموال الولاة الذين ذكروا سبباً غير مشروع لملكياتهم كالإهداء أو لم يبينوا من أين ملكوا المال.
(4)
انظر بحث الأستاذ الشيخ علي الخفيف «الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام» ص 113، 128 ومابعدها من كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية.
ومن المقرر عند الفقهاء أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإن طاعة ولي الأمر واجبة بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: الأمراء والولاة كما روى ابن عباس وأبو هريرة، وقال الطبري: إنه أولى الأقوال بالصواب.
ومن أمثلة تدخل ولي الأمر في الملكية: ما روي محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين أنه قال: «كان لسمرة بن جندب نخل في حائط (أي بستان) رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لصاحب النخل: بعه، فأبى، فقال الرسول: فاقطعه، فأبى، فقال: فهبه ولك مثله في الجنة، فأبى، فالتفت الرسول إليه وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال: اذهب فاقلع نخله» (1) ففي هذه الحادثة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية، وهو القائل في القضاء في حقوق الارتفاق:«لا ضرر ولا ضرار» (2)، وروى أبو هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (3). وشرع الإسلام حق الشفعة على الملكية، دفعاً للضرر وإقراراً لقاعدة المصلحة.
ومن الأمثلة أيضاً: ما روى الإمام مالك في الموطأ: وهو أن رجلاً اسمه
(1) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، مطبعة البابي الحلبي: ص 285.
(2)
رواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه، ورواه أحمد في مسنده وابن ماجه والدارقطني في سننيهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري. وله طرق يقوي بعضها بعضاً. والضرر: إلحاق مفسدة بالغير، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر.
(3)
رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم: 47/ 11) بل رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.