الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التصرفات الشرعية المعينة إما أن تكون إنشاء أو اقراراً. والتصرفات الإنشائية نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع يحتمل الفسخ.
أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ: فهي كالطلاق والنكاح والظهار واليمين والعفو عن القصاص. وقد أوصلها بعض الحنفية إلى عشرين، والتحقيق أنها خمسة عشر (1).
وأما التصرفات التي تحتمل الفسخ: فهي كالبيع والإجارة ونحوهما من كل تصرف يعتبر سبباً للملك.
أولاً ـ التصرفات التي لا تحتمل الفسخ (أي الرد، وهي التصرفات اللازمة):
يرى الحنفية أنه لا تأثير للإكراه على التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ أي الرد، ولا يشترط فيها الرضا، فتعتبر هذه التصرفات نافذة مع الإكراه؛ لأنها لا تقبل الفسخ، فتصبح لازمة. فلو أكره الرجل على الطلاق أو النذر أو اليمين أو الظهار أو النكاح أو الرجعة، أو الإيلاء أو الفيء فيه باللسان، أو العفو عن القصاص، وقع المكره عليه؛ لأنها تصرفات يستوي فيها الجدل والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما، والأصل فيه حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، وهو «أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فحلف مكرهاً، ثم أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم» وقد أخرج عبد الرزاق في
مصنفه عن ابن
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار عليه: 96/ 5.
عمر أنه أجاز طلاق المكره (1). ويؤيده عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/ 2] الآية.
والخلاصة: أن هذه التصرفات تصح وتلزم من المستكره.
ويرى جمهور الأئمة غير الحنفية أن الإكراه يؤثر في هذه التصرفات، فيفسدها، فلا يقع طلاق المكره مثلاً، لا يثبت عقد النكاح بالإكراه ونحوهما. وهذا هو الأرجح.
واستدلوا بأن الله تعالى لما لم يرتب على التلفظ بالكفر حالة الإكراه أثراً في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106/ 16] فلا يترتب على أي تصرف قولي مع الإكراه أي أثر.
وقد ثبت في السنة أن خنساء بنت خزام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها (2)، ويؤيدها حادثة أخرى وهي أن فتاة زوجها أبوها من ابن أخيه وهي كارهة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر إليها (3).
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (نصب الراية: 222/ 3).
(2)
رواه البخاري عن خنساء بنت خزام (نصب الراية: 191/ 3).
(3)
أخرجه النسائي وأحمد عن عائشة بلفظ: «إن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته (أي دنا ءته) وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء، أن ليس للآباء من الأمر شيء» قال البيهقي: هذا مرسل. ويؤيده خبر آخر في موضوعه، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه مرسلاً عن ابن عباس (راجع سبل السلام: 122/ 3، نصب الراية، المرجع السابق: ص 192).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (1) وفسر الشافعي الإغلاق بالإكراه، وقال عليه السلام أيضاً:«إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) أي رفع حكم الإكراه وغيره. ثم إن هذه التصرفات لا تصح مع الإكراه حتى لا يترتب عليها زوال حقوق الناس وأملاكهم بدون رضاهم.
وبناء عليه قال الشافعية: إن طلاق المستكره وعتاقه وبيعه وإجارته ونكاحه ورجعته وغيرها من التصرفات لا تصح؛ لأن رفع حكم الإكراه إنما يكون بانعدام الحكم المتعلق به، كوقوع الطلاق، وصحة البيع والنكاح.
وأما وجوب القصاص عندهم على القاتل المستكره، فيستثنى من عموم الصيغة، تعظيماً لأمر الدم، فإنه لا سبيل إلى استباحته، وتجب رعاية حرمته (3).
وأما حديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (4) الذي تمسك به الحنفية فهو ضعيف على الأرجح، وأما حديث حذيفة فهو حديث مكذوب كما قال ابن حزم.
وأما ما روي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، فيقدح فيه ما رواه ابن حجر في فتح الباري أن عبد الرزاق أخرج عن ابن عمر عدم جواز طلاق المكره في قصة
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولفظه:«لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» قال أبو داود: أظنه الغضب ـ يعني الإغلاق ـ وقال ابن قتيبة: الإغلاق. وقال بعضهم: الصحيح أنه يعم الإكراه والغضب والجنون، وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده (راجع نصب الراية: 223/ 3).
(2)
رواه الطبراني عن ثوبان، ورمز السيوطي لصحته. (راجع الفتح الكبير: 35/ 4).
(3)
تخريج الفروع على الأصول: ص 149.
(4)
رواه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة، وفي رواية لابن عدي من وجه آخر ضعيف:«الطلاق والعتاق والنكاح» (راجع سبل السلام: 175/ 3، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 423 وما بعدها، نصب الراية: 293/ 3 ومابعدها).