الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفس المجاهدين، محتجين بفعل عمر، حيث وقف الأراضي التي افتتحها كمصر والشام والعراق. جـ ـ وقال الحنفية والحنابلة: إن الأصل المقرر أن يكون للإمام الخيار في الأراضي، فله أن يقسمها، وله أن يتركها وقفاً، وعمر رضي الله عنه قد استعمل حقه، فقرر أن تكون وقفاً، أي ملكاً للجماعة الإسلامية بأن تكون ملكية الرقبة للدولة، وملكية المنفعة فقط لأهلها القائمين عليها.
أدلة القائلين بإعطاء الخيار للإمام في وقف الأرض:
استدل هؤلاء، وهي في الواقع أدلة لعمر بما يأتي:
1 -
إن آية الأنفال: {واعلموا أنما غنمتم .. } [الأنفال:41/ 8] وآيات الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] واردة في موضوع واحد، ولكن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال، أي أنه بعد أن كانت الثانية شاملة للأرض والمنقول، خصصتها آية الحشر بما عدا الأرض. أما الأرض فقد أعطت آية الحشر الحق للإمام في أن يتصرف بما يجده من المصلحة: إما أن يقف الأرض، أو يقرها في أيدي أهلها ويضع عليها الخراج؛ لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة بين المسلمين جميعاً دون التخميس، وبذلك يجمع بين الآيتين (1)، والجمع بين الأدلة عند كثير من الأصوليين مقدم على القول بالنسخ، أي بنسخ آية الحشر لآية الأنفال، كما قال بعضهم (2).
(1) الفيء: ما أخذ بغير قتال، مصروفاً لمصالح المسلمين يفعل ولي الأمر في ذلك ما يراه مصلحة، ولا يخمس الفيء عند الجمهور خلافاً للشافعية والزيدية. (بداية المجتهد: 321/ 1، القوانين الفقهية: ص 147، 150، نهاية المحتاج: 106/ 5، البحر الزخار: 443/ 5).
(2)
المقدمات الممهدات لابن رشد: 271/ 1 ومابعدها.
والرسول عليه الصلاة والسلام قد عمل بآية الأنفال، وعمر قد عمل بآية الفيء، وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم براد لفعل عمر؛ لأن فعل الرسول إما على سبيل الإباحة لجهالة صفة الفعل منه، وإما على سبيل الوجوب فهو واجب مخير، بدليل الآية التي استنبط منها عمر خصلة الواجب الأخرى (1)، قال عمر: فاستوعبت هذه الآية (آية الحشر) الناس إلى يوم القيامة (2)، وقال أيضاً:«والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع، حتى راعٍ بعدن» (3).
وبناء عليه شملت آية الحشر جميع المؤمنين، وشَّركت آخرهم بأولهم في الاستحقاق. ولا سبيل إليه إلا بعدم قسمة الأرض، وهو معنى وقفها عند المالكية. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض، كما هو عمل الأمة، وقد أجمع العلماء على أنها تورث، والوقف لا يورث، إلى آخر ما هنالك من فروق (4).
2 -
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرى لم يقسمها، وقد ظهر على مكة عنوة (5)، وفيها أموال، فلم يقسمها، وظهر على قريظة والنضير، وعلى غير دار من دور العرب، فلم يقسم شيئاً من الأرض غير خيبر. فكان الإمام بالخيار: إن قسم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسن، وإن ترك كما ترك رسول الله غير خيبر فحسن (6).
(1) مخطوط الدرة اليتيمة في الغنيمة للشيخ الفزاري: ق 102.
(2)
رواه أبو داود (سنن أبي داود: 195/ 3، القسطلاني: 201/ 5).
(3)
رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (سنن البيهقي: 351/ 6).
(4)
المنتقى على الموطأ: 223/ 3 ومابعدها، زاد المعاد: 69/ 2.
(5)
كما خرَّج مسلم في صحيحه، وهو الأصح عند العلماء (بداية المجتهد: 388/ 1).
(6)
القسطلاني شرح البخاري: 202/ 5، زاد المعاد: 69/ 2، الخراج لابي يوسف: ص 68، القياس لابن تيمية: ص 40.
3 -
إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على ما ارتآه عمر، حينما فتح سواد العراق، فقد ترك الأراضي في أيدي أهلها، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، بمحضر من الصحابة محتجاً بآيات الحشر السابق ذكرها، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فكان ذلك إجماعاً منهم. ومن خالف منهم في مبدأ الأمر كبلال وسلمان، عاد فوافق بعدئذ (1).
4 -
المعقول: إذا قسمت بين الغانمين الأرض المفتوحة التي كادت تشمل معظم العالم في أوج الفتوحات الإسلامية، فماذا يبقى لمن يأتي بعدهم؟
ومن أين تجد خزانة الدولة نفقاتها لإنفاقها في المصالح العامة للمسلمين؟
لهذا قال عمر، بعد أن تلا آيات الفيء في سورة الحشر:«قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه» .
وقال أيضاً: «أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلتزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟» فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت (2).
وإذا قسمت الأرض بين الغانمين واشتغلوا بالزراعة، وتركوا الجهاد، فسرعان ما تضعف الأمة الإسلامية، وتصبح نهبة للطامعين؛ بل إن في ذلك أمراً مهماً
(1) انظر الخراج لأبي يوسف: ص 27، 35، شرح السير الكبير: 254/ 3، القسطلاني: 200/ 5، الأموال: ص 58.
(2)
شرح السير الكبير: 254/ 3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 ومابعدها، الأموال لأبي عبيد: ص57، فتوح البلدان: ص 275.