الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - باب
7 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ،
ــ
7 -
(عَبْدان) على وزن شعبان (عُبَيد الله بن عبد الله) الأول مصغر وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة.
(أن أبا سفيان بن حرب) اسمه صخر أسلم يوم الفتح، فأُصيبتْ إحدى عينيه يوم حنين، والأخرى في يرموك، وهو أحد المؤلفة. ونقل ابن عبد البر عنه في "الإستيعاب" كلامًا يدل على قُبح حاله (أن هِرَقل أرسَلَ إليه في رَكْب من قريش) - بكسر الهاء وفتح الراء على وزن دِمَشق، وُيروى بسكون الراء وكسر القاف، غير منصرفٍ، لأنه عَلَمٌ أعجمي - والركب، قال الجوهري: هم أصحاب الإبل دون سائر الدواب إذا كانت فوق العشرة. قال ابن الأثير: اسم جمع لراكب، لأنه يُصَغَّر على لفظه يقال: رُكيب. والراكب هو راكب الإبل خاصةً.
فإن قلتَ: هذا أصله والآن يطلق على كل قافلةٍ. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" أن المغيرة بن شعبة كان في ذلك الركب، ولا يصحُّ. قال ابن عبد الله: أسلم المغيرةُ عام الخندق، وهذه القضية كانت بعد الحديبية.
(في المدة التي مادَّ فيها أبا سفيان) أي: صالحه. وماد من المدّ أي: أطال المدة، وكانت المدة عشر سنين، هي صلحُ حديبية، ثم غَدرت قريش فانتقض الصلح، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة، وكان فيها فتح مكة. وسيأتي في غزوة الفتح بيان وجه الغَدْر. (بإِيْلِياء) على وزن كبرياء وحكى البكري فيه القصر ويُروى بحذف الياء الأولى وسكون اللام والمدّ، وهو عَلَم بيت المقدس (وحوله عظماء الروم) نصب على الظرف حولَ الشيء وحواله وحواليه بمعنىَ واحدٍ. والرومُ هذه الطائفة المعروفة، أصله رومي نسبةً إلى جدهم الأعلى
ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا
ــ
روم بن عيص بن إسحاق (دعا بتُرجمانه) - بضم التاء وفتحه، والثاني أفصح - وهو الذي يفسر لسانًا بآخر، من الرجم، لأنه إلقاء المعنى في لفظ آخر، والباء زائدة، وقيل: لفظ عَجَمي، وقيل: الباء أصلية (فاجعلوه عند ظهره) لأنه إذا كان مواجهًا يُسْتَحى من تكذيبه (فإن كَذَبَني فكَذِّبوه) - الأول مخفف، والثاني مثقل - أي: انسبوه إلى الكذب (لولا الحياء من أن يؤثروا علي الكذب) أي: يقولوه علي، من أثرت الحديثَ نقلته (وكان أولُ ما سألني) بالرفع اسم كان، وخبره: أن قال، ويجوزُ العكس (قطُّ) ظرف الزمان الماضي على وجه الاستغراق، وفيه ستُ لغاتٍ أفصحُها: فتح القاف وضم الطاء مشددًا، ومجيئه في الإثبات قليلٌ (هل كان من آبائه من مَلِكٍ) بمِن الجارة وكسر اللام، ورُوي بفتح الميم على أنها مِن الموصوفةُ، وملك: فعل ماض صفته، وفي رواية مسلم:"مَلِكٌ" بدون مِن، فتعَيّن اْن يكون اسمًا (هل يرتدُّ أحدٌ سُخْطةً لدينه) فعلَةٌ من السخط وهو عدم الرضا، ويُروى: سُخْطًا - بضم السين -.
فإن قلتَ: قد ارتدّ في زمانه أناسٌ كالعرنيين، وكاتب الوحي؟ قلتُ: لم يرتدوا سُخْطة للدين، بل لأمور أخرى.
(يَغْدِر) - بكسر الدال - من الغدر وهو عدم الوفاء بالعهد (لم تمكني كلمة) بالتاء
غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ،
ــ
الفوقانية والتحتانية أيضًا، والأول أَوْلى لعدم الفاصل. ولم يَرِدْ بالكلمة مصطلح النحاة، وذلك ظاهرٌ من عبارته (غيرُ هذه) بِرفع غيرُ؛ لأنه صفةُ كلمةٍ لعدم تعرفه بالإضافة.
(الحربُ بيننا وبينه سِجَال) فسَّره بقوله: (ينال منا وننال منه) أي: تارةً له الغلبةُ وتارةً لنا. والسّجال مصدر ساجَلَ، أصله مغالبة المتباريين في استقاء الماء من بئرٍ واحد، مأخوذ من السّجل وهو الدَّلْو الملآن. وقيل: هو جمع سجِل وهو الدلو. وليس المعنى عليه، وإن كان صحيحًا لغةً (واتركوا ما يقول آباؤكم) من العقائد الفاسدة والتقليد لآبائهم، (ويأمرنا بالصلاة والصدق) وفي رواية:"والصدقة". وسيأتي في الجهاد: الصدق والصدقة (والعفاف) من الزنى، وأكل الميتة والدم (والصلة) الإحسان إلى الأقارب بما أمكن. (وكذلك الرسل تُبعَثُ في نَسَب قومها) أي: في وسطه، لئلا يأنفُوا عن اتّباعه لو كان دَنِيًّا أو كان أجنبيًّا، كيف ومع علمهم بذلك أَنِفُوا وقالوا:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}
وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ " وَ {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
ــ
[الفرقان: 21]. (لَتَجَشَّمْتُ لقاءَهُ) لتكَلّفْتُ. وفي رواية مسلم: "أحببتُ" وما في البخاري أبلغ (حتى تخالط بشاشتُه القلوبَ) بنصب القلوب. ورُوي بشاشةَ القلوبِ بالإضافة على أن في تخالط ضميرَ الإيمان. قال ابن الأثير: البشاشةُ: الفرحُ والانبساط والأنس بالشيء.
(ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بَعَثَهُ مع دِحْيَة) بكسر الدال وفتحها. قال ابن السّكّيت: بكسر الدال لا غيرُ. وقال أبو حاتم: بالفتح لا غير- هو دحية بن خليفة الكلبي، كان أجمل الناس، وكان أكثر ما يأتي جبريل في صورته، ولعل ذلك ليكون أسهلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لأن دحية لغةً: رئيس الجُند، وجبريل رئيسُ الملائكة. وبُعْدُهُ لائحٌ على أنه يقتضي أن يكون دحيةُ اسمَ جبريل.
(بُصْرى) بضم الباء. مدينة بحوران.
(إلى هرقل عظيم الروم) لم يقل: مَلِك الروم؛ لأنه كان معزولًا عن المُلْك بعد ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حُكم لأحد على عباد الله إلَاّ مَنْ ولاه. لكن عظيم عند الروم. ذكَرَه بذلك ملاطفةً في الخطاب.
(أدعوك بدعاية الإسلام) مصدر كالشكاية. وفي رواية مسلم: "بداعية الإسلام" وهو أيضًا مصدر كالعافية. والمراد به كلمةُ التوحيد التي يدعى بها الناسَ إلى الله (أَسْلِمْ) بقطع الهمزة (تسْلَمْ) بفتح التاء من السلام جزم على الجواب (يؤتِك اللهُ أجرَك مرتين) لإيمانه بنبيّه قبل البعثة، وإيمانه برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح (وإن تولّيْتَ فعليك إثمُ الأريسيين) وروي يرسيين وروي بفتح الهمزة وكسرها. وهم الأكَّارون والرعايا، لأنهم أتباعُ الملوك، كما يُسمع في العُرف: الناسُ على دين ملوكهم. وفي سنن البيهقي: "وإلاّ عليك إثمُ
أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ،
ــ
الأكّارين" وروَى أبو عُبيد في كتاب "الأموال": "وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام" وقيل: هم اليهود والنصارى أصحاب عبد الله بن أريس، وقيل: هم الملوك الذين يَدْعُون إلى المذاهب الفاسدة، ولا يخفى بُعْدُه عن المقام.
فإن قلتَ: كيف يكون عليه إثمُ الغير وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؟ قلتُ: إثم الإخلال والسبب. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] هو في أمثال هذا.
(لقد أَمِرَ) بفتح الهمزة وكسر الميم: عَظُمَ (أمرُ ابن أبي كبشة) أي: شأنه. وأبو كبشة هو الحارث بن عبد العزى السعدي، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم رضاعًا. وقال ابن قُتَيبة: جده من طرف أمه؛ لأن أمه آمنة بنت وهب وأم وهب قيلة بنت أبي كبشة، أرادوا القدح في نسبه ولم يكن لهم سبيل إلى نسبه المعروف، وقيل: أبو كبشة رجل من خزاعة. فارقَ قومَه في عبادة الأوثان وعَبَدَ الكوكب المسمّى شِعْرى. فشبَّهوه به لانفراده بدين غيرِ دينهم. قال زبير بن بكار: أرادوا مطلق التشبيه لا القدحَ فيه. (يخافه مَلِكُ بني الأصفر) هم الروم. قال ابنُ الأنباري: غَلبت الحبشةُ على الروم فوطئوا نساءَهم، فجاءت أولادُهم صُفرًا بين البياض والسواد. قال إسحاق الحربي: نُسبوا إلى جدهم أصفر بن رُوم بن عيص بن إسحاق بن الناظور -بالمهملة والمعجمة-: حافظُ الكَرْمِ لغةً. (صاحب إيلياء) وإليها نيابةً عن هرقل، قوله:(وهرقلَ) بالفتح مجرور عطفًا على إيلياءَ. والصاحبِ لغةً وعرفًا: من يصاحبُ الشيءَ
سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا اليَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ
ــ
بلدًا كان أو غيرَه، فلا حاجةَ إلى القول بعموم المشترك أو المجاز.
(وسُقِّف) بضم السين وتشديد القاف على بناء المجهول. أي: جُعل أُسْقُفًّا. قال ابنُ السّكيت: السقف بتحريك القاف طولٌ مع انحناء. قال: ومنه اشتق أُسْقُف النصارى، لأنه يتخاشع وهو رئيسٌ من رؤسائهم (ملك الختان قد ظَهَر) بضم الميم وسكون اللام، ورُوي مَلك بفتح الميم وكسر اللام، والختان بكسر الخاء المعجمة مصدر خَتَن معروفٌ، ويطلق على موضع الخِتان كما في الحديث:"إذا التقى الختانان وَجَبَ الغُسل".
(فلا يُهمنَّك) -بضم الياء- يقال: أهمني الأمرُ إذا أَقلَقَكَ وأحزَنَك (هذا مَلِك) بفتح الميم وكسر اللام. والمشارُ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورُوي على صيغة المصدر، وعلى صيغة الفعل ماضيًا ومضارعًا. (هذه الأمة) أي: الموجودين ومن بعدهم إلى آخر الدهر (بروميّة) -بتشديد الياء وتخفيفها-: مدينة معروفة وبها خليفةُ عيسى على زعم النصارى وهو الذي يُسمونه ببولس (وكان نظيرَه) بالنصب خبر كان.
(فلم يرِمْ) بكسر الراء أي: لم يفارق.
عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 7 - أطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541].
ــ
(في دَسْكَرة له) على وزن مَسْكَنة: قصرٌ حواليه بيوتُ الخدم، لفظٌ غير عربي (الرُّشد) ضد الغي بضم الراء والسكون وبفتحهما لغتان. قُرئ بهما في السبعة وهي قراءة حمزة والكسائي (فتُبَايِعُوا هذا النبيِّ) من البيعة بالباء الموحدة. ويروى بتاءين من المتابعة (فحَاصُوا) بالحاء والصاد المهملتين أي: نَفَروا نَفْرة (حُمُر الوحش) الذي هو مثل في هذا الباب، لما فيه من شدة النَّفار. ومنه المحيص: للمَهْرَب (آنفًا) يروى المدّ والقصر. وبه قراءة ابن كثير في السبعة (فكان ذلك آخرَ شأن هرقل) يُشير إلى أنه لم يثبتْ إسلامه بحسب الظاهر، بل الإقرار بالكفر، وإن كان هداه الله تعالى ومات مؤمنًا، فيا لها من سعادة. ومن تأمل في محاورته لأبي سفيان وتقريراته الحُجج، عَرَف قَدْرَ ما كان فيه من الكمالات والعطية، بأنواع السياسات ومعرفة أحوال ابتداء الأنبياء والانتهاء، لله دَرُّه إن رزقه اللهُ الإسلامَ!.
ومناسبة الحديث للباب أنه لم يثبت عنده إيمانه، لكن إن كان في نفس الأمر مؤمنًا ينفعه؛ لأن الأعمال بالنية.
(صالح بن كَيْسَان) -بفتح الكاف وسكون إلياء- تابعي جليلُ القدر، قال ابنُ معين: هو أكبر من الزهري، فعلى هذا روايتُه من رواية الأكابر عن الأصاغر، عاش مئة ونيفًا وستين سنة. قيل: اشتغل بالعلم وعمره ستون سنةً.
قال بعضُ الشارحين: هذا داخل تحت الإسناد الأول، كأنه قال أبو اليمان: أخبرني هؤلاء الثلاثة. وردّه شيخُ الإسلام بأن أبا اليمان لم يَلْحق صالح بن كيسان ولا يسمعُ يونس. قلتُ: عدم السماع مُسَلَّم، لكن عدم اللحوق ممنوع؛ فإن أبا اليمان ولد سنة ثمان وثلاثين ومئة. ومات سنة ست وأربعين. قاله أبو الفضل المقدسي.