الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19 - بَابُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلَامُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوِ الخَوْفِ مِنَ القَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَإِذَا كَانَ عَلَى الحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19][وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ].
ــ
عليه الثوابُ. وقيل: هو ما لا إثمَ فيه. وقيل: ما لا معصية بعده. ولا يخفى عليك أن (ثم) للتراخي رتبةً. ومن قال: إن (ثم) للترتيب في الذكر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] فقد غَلِط فهمًا ونقلًا. أما فَهْمًا فظاهر أن مراد الشارع بيانُ مراتب الأعمال وتراخي بعضها عن بعض. وأما نقلًا فإن الآية التي ذُكر استشهادًا. ثُمَّ فيها للتراخي رتبةً لا للترتيب ذِكرًا. قال صاحب "الكشاف" في تفسير تلك الآية: ثم لتراخي الإيمان وتباعُدِه في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة.
فإن قلتَ: إذا كان الجهاد أفضلَ من الحج يلزمُ أن يكون فرضُ الكفاية أفضلَ من فرض العين. قلتُ: الجهادُ أيضًا قد يكون فرض عين على أن مختار إمام الحرمين أن فرض الكفاية أفضلُ من فرض العين؛ لأنه يسقط الإثمُ عن جميع الأمة، وأنا أقول تأييدًا له: إنه قد تقعُ السّنة أفضل من الفرض، كمسألة السلام؛ فإن ابتداءَ السلام سنةٌ، وهو أفضلُ من ردّ السلام مع أنه فرضٌ.
فإن قلتُ: لِمَ عرَّف الجهاد ونكّر الحج؟ قلتُ: تَفَنُّنٌ في العبارة، وإشارةٌ إلى علو شأن الجهاد؛ فإن المعرف بلام الجنس والنكرةَ وإن كان مؤداهما واحدًا إلا أنّ في المعرفة يعتبر الحضور الذهني.
فإن قلتَ: فيلزم تفضيله على الإيمان فإنه منكَرٌ. قلتُ: التنوين فيه للتعظيم على أن الوهم لا يذهب إلى ذلك، فإنه أساس الأعمال، والذي لا يُعتدّ بعمل دونه. ومن قال: التنوين في "حج مبرور" للإفراد شخصًا. فقد زلّتْ به القدمُ؛ وذلك أن الشارع ليس بصدد بيان أفراد الحقائق، بل بصدد بيانها، والتفاضل فيما بينهما.
27 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ
ــ
باب: إذا لم يكن الإسلامُ على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوفِ من القَتْلِ
27 -
(أبو اليمان) هو الحكم بن نافع (سعد بن أبي وقاص) أبو وقاص: هو مالك بن سنان بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. وهناك يتفقُ نسبُه ونسبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رُوي أنه قال:"هذا خالي فليأتِ كلُ واحدٍ منكم بخاله" إشارةً إلى أنه فريدٌ لا يُوجَد له في الأخوال نظيرُهُ. وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدَى سعدًا يوم أُحُدٍ بأبيه وأمه ومساعيه في خلافة عمر في فتح القادسية وغيرها لم تخف على أحد، وهو السابع في الإسلام، وعنه أنه قال: كنتُ ثلث الإسلام، كما سيأتي في مناقبه، وهو أحدُ العشرة المبشرة، وهو أحدُ الستة من أصحاب الشورى للخلافة، وكان مجاب الدعوة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه:"اللهم سَدِّدْ رَمِيَّتَهُ، وأجبْ دعوتَهُ". وهو أولُ من رَمى بسهم في الإسلام. وكان في أيام فتنة عليٍ ومعاوية جالسًا في بيته، لا مع علي ولا مع معاوية، فَطَمِعَ فيه معاويةُ فأرسل إليه يَحُثُّه علىَ طَلَب دم عثمان، فأجابه جوابًا فاحشًا. نقله ابنُ عبد البر في "الإستيعاب"، وهَجَا معاويةَ بقصيدةٍ أرسلَها إليه.
(أعطى رهطًا وسعدٌ جالس) راوي الحديث سعدٌ، كان مقتضى الظاهر أن يقول: وأنا جالسٌ، لكن التفتَ منه إلى الغَيْبة. وقوله:(فتَرَكَ رجلًا هو أعجبهُم إليَّ) التفات آخر عكس الأول. ومعنى قوله: "أعجبهم إليَّ" في كمال الإيمان الذي هو السبب في التقدم والشرف،
فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ:«أَوْ مُسْلِمًا» فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ:«أَوْ مُسْلِمًا» . ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ»
ــ
اشتقاقه من العَجَب وهو: استعظامُ الشيء. (إني لأراهُ مؤمنًا) قال النووي: بفتح الهمزة من الرؤية بمعنى العلم، لقوله:(غلبني ما أعلم) وقال القرطبي: الروايةُ بضم الهمزة. قلتُ: وكذلك ضبطه الصنعاني. فعلى هذا الوجه يحمل العلم على الظن. كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ويجوزُ حلفُ الإنسان على الأمر المظنون (أوْ مسلمًا) بسكون الواو. عطفٌ على مقدر، أي: أو تراه مسلمًا لا مؤمنًا. رد على سعد الجزم بإيمانه، فإنه فعل القلب الذي لا يطلع عليه إلا الله، بل ليس لك إلا الاطلاعُ على ظاهر حاله، ولا دلالةَ في الكلام على أن ذلك الرجل لم يكن مؤمنًا، بل فيه دلالةٌ على كمال إيمانه، حيثُ تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقرُّر إيمانه، كما فَعَل مثل ذلك في غنائم حُنين، حيث بالَغَ في العطاء للمؤلفة، وترك الأفاضلَ الكُمَّل من الأنصار والمهاجرين كيف لا وقد رُوي بسند صحيح عن أبي ذرٍّ لسعد أن هذا الرجل اسمه جَعْبَل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا سعدُ، كيف ترى جَعْبَلًا"؟ قال: أحد المهاجرين قال: "فكيف ترى فلانًا"؟ قال: من سادات الناس. قال: "فإنَّ جعبلًا خير من ملء الأرض منه".
قال ابن عبد البر: ويقال: جعال هو أبو سراقة الضمري. كان من فقراء الصحابة، قبيحٍ المنظر، وسيأتي الكلام بأطولَ من هذا. والقولُ بأنه على تقدير إيمانه لا يكون الحديثُ دالا على ما عُقد له البابُ، ساقطٌ؛ لأن الدالَّ على ما عُقد له البابُ هو ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد من الجزم بإيمانه، فإنه صريحٌ في أن الإسلام قد يُوجد بدون الإيمان كما قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فإن المرادَ به الاستسلامُ الشرعي الذي يتصادف هو والإيمان ويتلازمان لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
(قال [يا] سعدٌ: إني لأُعطي الرجلَ وغيرُهُ أحبُّ إلي خشيةَ أن يكبَّهُ اللهُ في النار) وذلك أنه لعدم تقرَّر إيمانه لو أعطى غيره وتركه ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ميلًا وظلمًا كما قال له ذو الخويصرة: اعدلْ يا محمد.