الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - بَابٌ: مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ، وَالوُضُوءُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالحَجُّ، وَالصَّوْمُ، وَالأَحْكَامُ،
ــ
باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحِسْبة، ولكل امرئٍ ما نوى
تقدم في أول الكتاب أن النيَّة: قصدُ التقريب إلى الله تعالى بالطاعة، والحِسْبة -بكسر الحاء- اسمٌ من الاحتساب وهو الإخلاص في العمل. وقول الجوهري: الحِسْبة بالكسر: الأجرُ، تسامحٌ ظاهر. (فَدَخَل فيه الإيمان والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام) أي: بقية العبادات كلها. ومن قال: يدخل فيه تمام المعاملات والمناكحات. ولهذا لو سبق لسانُهُ إلى نعت وطلقت ونكحت لم يصحّ شيءٌ منها، فقد أبعد عن الصواب. أما أولًا: فلأن حديث: "إنَّما الأعمال" عامٌ مخصّص، فإن المراد بها الطاعاتُ كما تقدم في أول الكتاب.
وأمَّا ثانيًا: فلأن صرائح هذه العقود لا يحتاج إلى النيَّة. قال التفتازاني في "التلويح": البيعُ والنكاح وأمثالُهما لا تحتاجُ إلى النيَّة إجماعًا. ومن سبق لسانُه إلى قوله: أنتَ حرٌّ لعبده. أو إلى: أنتِ طالقٌ لامرأته. عتق العبدُ وطلقت المرأةُ اتفاقًا، وأمَّا الكناياتُ فالنية إنَّما اعتبرت لتعيين المقصود. وأمَّا النيَّة المستفادة من قوله:"إنَّما الأعمال بالنيات" هي بمعنى قصد التقريب إلى الله ولهذا ذهب أبو حنيفة إلى أن التقدير: ثوابُ الأعمال بالنيات. ثم قوله: دخل فيه الإيمان. يردّ صريحًا قول هذا القائل: إن أعمال القلب لا تحتاج إلى النيَّة، ذكره في صدر الكتاب، وقد نَبّهنا عليه هناك. والعجبُ ممن هو عَلَمٌ في هذا الفنّ صَرّح بأن الإيمان الذي هو بمعنى التصديق لا يحتاج إلى النيَّة كسائر أعمال القلب. هذا بعد أن قال المصنف في أول الباب: دخل فيه الإيمان. أي: فيما يحتاج إلى النيَّة.
وتحقيق المقام: أن كل ما يحتاج إلى النيَّة: هو كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويطلب به الجنَّة، والإيمان وأعمال القلب أشرف وأعظم ما يتقرب به، ولمَ كانت نيَّة المؤمن هو خير من عمله لو لم تكن أعمال القلب مفتقرة إلى النيَّة؟ وكيف ذهل عن قول البُخاريّ: الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وهل يعقل أن يكون محل الحب غير القلب؟ وما فائدة الحصر في قوله:"وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله"؟
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ. «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ» وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» .
54 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ
ــ
"وقال الله تعالى: ({كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]) الشاكلةُ لغةً: الخَاصِرَةُ. قال ابنُ الأثير: استُعير للطريقة والقصد (وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولكن جهاد ونية) هذا بعضُ حديثٍ سيرويه مسندًا. وكذا قوله: "ونفقة الرجل". رواهما هنا تعليقًا تقوية لما استدل به وإثباتًا لما ترجم له بالطريقين.
54 -
(عبد الله بن مَسْلَمَة) بفتح الميم واللام (عن عُمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأعمالُ بالنية) أي: لا عَمَلَ إلَّا بالنية؛ لأنَّ هذه اللام للاستغراقِ، وقد سَبَقَ أن هذا حصر المسند إليه في المسند، وتقدّم أيضًا تحقيق الحديث بما لا مزيد عليه في صدر الكتاب.
فإن قلت: لم أعادَ الحديث وقد عُلم معناه في أول الكتاب؟ قلتُ: أعاده إشارةً إلى أن النيَّة من شعب الإيمان، وأنّ الإيمان الذي هو فعل القلب لا يعتد به بدون النيَّة، وفيه ردٌّ على الكرَّامية والمرجئة القائلين: بأن الإيمان هو القول وحده، مع اختلاف شيخه، وزيادة بعض الألفاظ.
وأعلم أن هذا الإطلاق مقيدٌ بإجتماع الشرائط، فلا يردُ أن الإنسان إذا نوى المنذر أو القضاء في رمضان لا يحصل له ما نوى، لأنَّ المحل غيرُ قابلٍ، وإزالة النجاسة إن قَصَدَ بها التقرب إلى الله يُثاب عليها، وإن أريد الإزالة لا غير فلا.
قال بعضُهم: فإن قلت: يَرِدُ عليه بعض الأفعال كاعتداد المرأة المتوفى عنها زوجُها وهي غير عالمة، فإن عِدَّتها تنقضي مع عدم قصدها؟ قلتُ: هذا ليس فعلًا ولا تركًا، بل هو عبارة عن انقضاء مدةٍ يُعلم منه براءة الرحم، هذا كلامه، وقد نبّهناك على أن هذا غلطٌ، فإن الكلامَ في العبادات لا غير، على أن قوله: هذا ليس بفعل مخالف لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234](ولكل امرئٍ ما نوى) هذا حصرُ المسند على المسند إليه عكس الأول (ومن كانت
هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
55 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» . [الحديث 55 - طرفاه في: 4006 - 5351]
56 -
حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ» .
ــ
هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُهُ الى الله ورسوله) أي: فهجرتُه تلك الهجرة الكاملة، فلا يُتَوهَّم اتحاد الشرط والجزاء. ومثله قوله:(ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبها فهجرتُه [إلى] ما هاجر إليه) أي: هجرته تلك الهجرة الخسيسة، وقد تقدم في أول الكتاب الكلامُ على هذا الحديث بأطولَ من هذا.
55 -
(حَجّاج بن مِنْهال) بفتح الحاء وتشديد الجيم وكسر الميم (عَدِي بن ثابت) بفتح العين وكسر الدال وتشديد الياء (عبد الله بن يزيدَ) من الزيادة (عن أبي مسعود) عقبة [بن] عمرو الأنصاري الخزرجي المشهور بالبدري. قال ابن الصلاح: لم يشهدْ بدرًا، وسكن به فنُسِبَ إليه. (إذا أنفَقَ الرجلُ على أهله يَحْتَسِبُها) أي: امتثالًا لأمر الله، وقصدًا إلى القيام بما أوجب الله أو نَدَبَ إليه (فهو له صدقةٌ) أي: يثاب به كما يثاب بالصدقة؛ لأنَّه ليس صدقةً في العرف.
56 -
(الحكم بن نافع) بفتح الحاء والكاف (عن سعد بن أبي وقاص) واسم أبي وقاص: مالك بن سنان (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتَّى ما تَجعَلُ في فم امرأتك) الخطابُ لسعدٍ وإن كان الحكم عامًّا؛ لأنَّه تمام
[الحديث 56 - أطرافه في: 1295 - 2742 - 2744 - 3936 - 4409 - 5354 - 5659 - 5668 - 6373 - 6733].
ــ
حديث طويل. كان مريضًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقيدُ باللقمة وجعلُها في فم امرأته مبالغةٌ في الاعتداد بالنفقة على الأهل لأنَّ اللقمة مثلٌ في القلة، والإنسان إنَّما يجعلُ اللقمة في فم امرأته إذا كانت محبوبةً إليه، وإذا حصل الأجرُ مع ذلك فما ظنك بسائر الأهل والقرابات. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينارًا أنفقته على أهلك أعظمُها أجرًا الذي أنفقتَهُ على أهلك" وروى الشيخان: "لا صدقة إلَّا عن ظهر غنىً، وابدأْ بمن تعولُ".
واستدل بعضُ الشارحين على أن النفقة على الأهل ليست صدقة حقيقةً بل مجازًا لجواز صرفها على الزوجات الهاشميات. ثم قال: كيف صَحَّ التشبيهُ والثوابُ في النفقة زائدٌ؟ قلتُ: التشبيه في أصل الثواب لا في الكمية. ثم قال: فإن قلتَ: أهل البيان شرطوا أن يكون المشبَّه به في وجه التشبيه أقوى من المشبه. وهنا وَقَعَ بالعكس قلتُ: هذا من قبيل التشابه. هذا كلامه. وفيه خَبْطٌ من وجوهٍ:
الأول: أن المحرّم على الهاشميات إنَّما هو الزكاة، لا سائرُ الصدقات صرّح بها الفقهاء.
الثَّاني: أن قوله: هذا من قبيل التشابه بعدما سلَّم أن وجه الشبه في المشبّه به أقوى، ليس بصحيح؛ لأنَّ التشابه عند أهل البيان، إنَّما يكون إذا كان الطرفان متساويين.
فإن قلتَ: فما الجوابُ الصواب؛ فإن الحديث الذي رويته عن مسلم دلَّ على زيادة ثواب النفقة على سائر الصدقات؟ قلتُ: الزيادة في المشبّه به إنَّما يكون عند إرادة إلحاق الناقص بالكامل؛ فإن التشبيه يقع في الكلام على سبعة وجوه. ولا تُعتبر الزيادة إلَّا في ذلك الوجه. وهذا الذي في الحديث من إلحاق الخفي بالمشهور يكفي فيه أن يكون المشبه به أشهر بوجه الشبه.