الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَكِنْ: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ" [الحديث 103 - أطرافه في: 4939،
6536، 6537].
38 - بَابٌ: لِيُبَلِّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ــ
صدر الكلام، ومآله إلى ما قلنا. وقد رواه بعضُهم هكذا: أكان كذلك وليس يقول الله عز وجل. وهذا فسادُهُ ظاهر، وكذا جعل ليس بمعنى لا، حتَّى لا يحتاج إلى الاسم لم يوجد في كلام العرب.
(إنما ذلك العرض ولكن من نُوقش في الحساب عُذّب) ذلكِ: بكسر الكاف لأنه خطابٌ لعائشة، والعرضُ النظر في عمل العبد كما يعرض السلطان عَسْكَرَهُ من غير نقاش ومبالغة في ذلك، والمناقشة السؤالُ على وجه التدقيق بالكشف عن النقير والقطمير. أصله: نَقَشَ الشوكة إذا أخرجها من جسمه بالمنقاش، وذلك لأن التقصير غالب على الناس.
قال النووي: قوله: "عذب". يجوزُ أن يكون ذلك العذاب نفس المناقشة، وأن يكون العذابُ بالنار، وهذا هو الظاهر لقوله في الرواية الأخرى:"يهلك" مكان: "يعذب". وفي الحديث فوائد إثبات الحساب وتنوعه إلى العرض والمناقشة. وفيه بيانُ فضل عائشة وقوةُ فهمها، ومقابلة السنة بالكتاب، وجواز المناظرة وغيرها، مما يظهر بالتأمل والله أعلم.
باب: ليُبَلِّغ الشاهدُ الغائبَ
(قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم) ذكره تعليقًا عنه بقوته لما أسنده بعده، وقد رواه عنه مسندًا في باب الحج.
قال ابنُ الصلاح: ما يذكره البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، ليس من قبيل الضعيف، بل صحيح معروف الاتصال، وقد يفعل ذلك لكون الحديث مذكورًا في كتابه مسندًا متصلًا، وقد يفعل ذلك لأسباب أُخَر لا يصحبها خَلَلُ الانقطاع، فسقط ما يقال: إن مثل هذا التعليق يُسمى معضلًا.
104 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: - وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً،
ــ
104 -
(عن أبي شُرَيح) بضم المعجمة مصغر شرح بالحاء المهملة، خويلد بن عمرو.
قال النووي: أو عكسه. وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقال هانئ: الخزاعي الكعبي.
(قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البُعُوثَ إلى مكة) عمرو بن سعيد هذا هو ابن سعيد بن العاص الأموي، المعروف بالأشدق. خرج على عبد الملك بن مروان ثم قتله في داره غدرًا، ولما حضر عبدَ الملك الوفاةُ، قال لأولاده: احفظوا هذا السيف، فانه قتلتُ به عمرًا. والبُعُوث -بضم الباء- جمع بعث -بفتحها وسكون العين- قال الجوهري: هي الجيوش، وكان إرساله تلك البعوثَ لقتال ابن الزبير (ائذن لي أيها الأمير، أحدّثك حديثًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح) أي: يأتي يوم الفتح، ومعنى القيام به أنَّه خطب به (سمعَتْهُ أُذَنَاي) أي: لفظ ذلك (ووعاه قلبي) أي: معناه، وأبصرته عيناي. أي: ما يمكن رؤيته من تحريك الشفتين واللسان (إن مكة حَرَّمها الله ولم يُحَرّمها الناس).
فإن قلت: قد جاء في الرواية الأخرى: "إن إبراهيم حرَّم مكة"؛ قلت: مجاز عن إظهار ما حرَّم إذ لا حكم [إلا] لله تعالى وتقدس.
(يؤمن بالله واليوم الآخر) أي: بالمبدأ والمعاد، وهذا مثل قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وإن كان هدًى للناس كافة؛ لأن المتقين هم الذين انتفعوا بها (أن يَسْفِكَ بها دمًا). السَّفْكُ: الإراقةُ مع الكثرة في كل مائع. قال ابن الأثير: وهو بالدم اختصّ (ولا يَعْضِدُ بها شجرةً) أي: لا يقطع، وكذا حكم سائر ما ينبت بنفسه إلا الإذخر، كما سيأتي
فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ " فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرٌو قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ [الحديث 104 - طرفاه في: 1832، 4295].
ــ
صريحًا، وأما ما استنبته الناس، فلا بأس به أيَّ نوع كان (فإن أحدٌ تَرَخَّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: مستدلًا على ذلك بوقوع القتال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتفاع "أحدٌ" على أنَّه فاعلُ فعلِ فَسَّره تَرَخَّص (فقولوا: إن الله أَذِنَ لرسوله) إشارةً إلى بطلان القياس بأنه معدول عن سنن القياس، لأنه من خواصّه.
(وإنما أذن لي ساعةً من نهار) نكره ليتناول كل يوم من الأسبوع على سبيل البدل وهو يوم دخوله مكة إن قاتله المشركون. والمراد بالساعة حصّة من ذلك النهار، وهو مقدار ما يحتاج إليه، لا الساعة العرفية وهي جزء من أربعة وعشرين جزءًا من يوم وليلة (ثم عادت حُرْمَتُها اليوم كحُرمتها بالأمس) أي: قبل الإذن بالقتال فيها أو بعد الإذن فيكون المراد من قوله: "ثم عادت حرمتها اليوم" استمرار الحرمة، قيل: يجوزُ أن يُراد باليوم ما بين طلوع الشمس إلى الغروب، واللام فيه للعهد إشارةً إلى يوم الفتح. وهذا فاسدٌ؛ لأن يوم الفتح كان مأذونًا له فيه القتال، وهذا القول إنما صَدَر عنه الغد من الفتح، كما صَرَّح به أبو شُرَيح، وإنما التبس عليه من لفظ الأمس فظنَّهُ أمس يوم الفتح، وليس كذلك، بل هو يوم الدخول، قبل الدخول أو بعده، إن لم يقاتله أحد.
(لا يُعيذُ عاصيًا ولا فارًا بخَربة) الضمير في لا يُعيذ لمكة. والخَرْبة بفتح الخاء وسكون الراء وكسرها وقد تضم الخاء مع سكون الراء. قال الجوهري ناقلًا عن الأصمعي: إنها سرقة الإبل خاصة، وقال ابن الأثير: لكن اتسع فيها. والمراد بها هنا مطلقًا: الجناية والبلية، فإن مكة لا تجيره. وفي رواية الترمذي:"بخزية" -بالزاي المعجمة- من الخزي، وهو الفضيحة والمعنى واحد. وعلى كل تقدير من عطف الخاصّ على العام.
105 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ،
ــ
فإن قلت: مَنِ المُصيبُ في هذه المناظرة، عمرو بن سعيد أم أبو شُريح؟ قلتُ: أبو شُريح؛ لأن القتال لا يحل بمكة بنص الحديث. وابنُ الزبير كانت الخلافة له باتفاق أهل الحل والعقد، وكان عمرو خارجيًّا وقوله:"لا يُعيذ عاصيًا ولا فارًا بخربة". محمول عند الشافعي على ظاهره، فيُقتَصُ من الجاني، وإن تحصّن بها البُغَاة يقاتلون، لأن ذلك من حقوق الله. وفيه إشكال. وعند أبي حنيفة: من لزمه القتلُ بردة أو قصاص والتجأ إلى الحرم، لا يتعرض له، ولكن لا يطعم ولا يسقى ليضطر إلى الخروج. وظاهر الحديث دل على أن مكة فُتحت عنوة، كما قاله أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد. وقال الشافعي: معنى قوله: "إن ترخص أحدٌ لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للإذن فيه. قال النووي: إنما أولّه الشافعي لما ثبت بالأحاديث المشهورة أنَّه صالَح أهل مكة وهو بمرّ الظهران قبل دخول مكة، وفائدة هذا الخلاف أنَّه مَنْ قال: فُتحت صلحًا، يجوزُ بيعُ دُور مكة، ومن قال: فُتحت عنوةً لا يجوزُ ذلك. وقال: تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس سواء.
فإن قلت: لو كانت عنوة لكانت أرضُها خراجيةً؟ قلتُ: ذكروا أن أرض مكة مستثناة.
ومن فوائد الحديث وجوب الأمر بالمعروف بقدر الإمكان، وجواز القياس وعدم جوازه مع الفارق. وجواز مخالفة المجتهد للصحابي، وشرف مكة وثبوت خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
105 -
(حَمَّاد) بفتح الحاء وتشديد الميم (عن محمد) هو ابن سيرين (عن ابن أبي بكرة) اسمُهُ عبد الرحمن (عن أبي بكرة) تقدم أن اسمه نُفيع بن الحارث. قال الغَسّاني: قد يوجد في بعض النُسَخ عن محمد عن أبي بكرة، بإسقاط ابن أبي بكرة، وفي بعضها: عن محمد بن أبي بكرة بإسقاط عن أبي بكرة، وكلاهما لحنٌ فاحشٌ، وذلك أن محمدًا هو ابن سيرين، وابن أبي بكرة: عبد الرحمن. يروي عن أبيه. تقدم الحديث، كذلك في باب "رُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع".
قال بعضُ الشارحين ناقلًا عن الغساني ما نقلنا عنه من الوهم، وفي بعضها: عن محمد بن أبي بكرة عن أبي بكرة بتبديل: عن، بلفظ: ابن. هذه عبارته ولم ينقله على الصواب؛ إذ لا تبديل فيه، بل ترك لفظ عن، من: ابن، كما ذكرناه.
ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ - وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ» . وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ ذَلِكَ «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» مَرَّتَيْنِ.
ــ
(ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) بنصب النبي، أو بتقدير قال، كما في بعض النسخ، لأنه مفعول ذكر، والفاعل أي: الذاكر هو ابن أبي بكرة.
(فإن دماءَكم وأموالكم) بدل من النبي صلى الله عليه وسلم بدلَ اشتمالٍ (وقال محمد: وأحسِبُهُ قال: وأعراضَكم) أي: ظنَّ أن ابن أبي بكرة قال هذه الزيادة أيضًا.
(ألا هل بلّغتُ مرتين) من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول البخاري:(وكان محمد يقول: صَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملةٌ معترضة.
قال بعض الشارحين: قوله: "هل بلغت" متعلق بقال مقدَّرًا، ولا يجوزُ أن يكون متعلقًا بقال المذكور سابقًا، وإلا يلزم أن يكون المجموع مذكورًا مرتين، ولم يثبُتْ ذلك. قلتُ: قد ثَبَتَ ذلك من رواية ابن عباس في كتاب الحج، فإنه قال بعد قوله:"في شهركم هذا" فأعادها مرارًا ثم رأيته وقال: "اللهم هل بلَّغتُ؟ اللهم هل بلَّغتُ؟ " ولولا ذلك لأمكن أن يكون هل بلّغتُ من كلام ابن سيرين قال ابن بَطَّال: لما أَخَذَ اللهُ العهدَ على الأنبياء أن يُبَلّغوا، والعلماء ورثة الأنبياء وَجَبَ عليهم أيضًا أن يبلغوا. قلتُ: لا حاجة إلى القياس، قد نَطَق القرآنُ بالعهد على العلماء. قال الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ولا يجوزُ أن يراد بهم الأنبياء لقوله بعده: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] ورَوَى أبو داود والترمذي: "من كَتَم علمًا أُتي يوم القيامة ملجومًا بلجامٍ من النار"، وزاد ابن مَاجَة:"علمًا مما ينفع الله به الناس".