الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16 - بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي العِلْمِ وَالحِكْمَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» . وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ».
ــ
وهو هذا الحديث المذكور فالظاهر أنه كان يذكره تأسفًا على ما فاته من الإخبار به في ذلك المجلس الشريف، وأما ما يقال: إنما لم يتحدث إلا بذلك، فلأنه [كان] متوقيًا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملًا بقول أبيه عمر: أقلّوا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيء بعيدٌ، وابن عُمر لم ينحصر حديثه في هذا، بل هو من المكثرين في الرواية، والقول بأن ابن عمر إنما كثُرت الرواية عنه؛ لأنه كان يسأل كثيرًا، ليس بظاهر؛ فإن كتمان العلم مذموم، وتبليغه مأمور به، فالوجهُ ما أرشدناك إليه، وإن كنت في ريب تأمل قول أبي هريرة: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم بشيء (2)، على أن هذا لا يُسلَّم لهم، لأنه لو كان متوقيًا لم يكثر فتواه في المسائل، لأن هذا أحرى بالتوقي من مطلق الرواية.
باب الاغتباط: في العلم والحكمة
الاغتباط افتعال من الغبطة وهي تمنّي مثل ما لغيرك من غير إرادة زواله عنه. وأصلها حسن الحال، قاله الجوهري. وعطف الحكمة على العلم من قبيل عطف جبريل على الملائكة، لأنها علم الشريعة خاصة، أو العلم المقرون بالعمل، ولذلك اقتصر عليها في الحديث الذي رواه.
(وقال عمر: تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا) بضم التاء على بناء المفعول من السَّيدودة وهي السيادة؟ وذلك أن الإنسان إذا صار سيد قومه يمنعه من كسب العلم شيئان: الاشتغال بأمور الناس، والاستحياء من الناس خوفًا على رياسته. ولهذا قال ابنُ معين: مَن عاجَلَ الرياسةَ فاته علمٌ كثير (قال أبو عبد الله: وبعد أن تَسَوَّدوا [وقد] تعلَّم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سِنّهم). أبو عبد الله هو البخاري وناقل هذا الكلام عنه: الفِرَبْرِي. وأشار البخاري بهذا الكلام إلى أن المراد بقوله: تفقهوا قبل أن تُسوّدوا. هو بيان الأولى والأليق؛ لأن الإنسان إذا فاته ذلك يستمر مع الجهل، بل عليه السعي في تحصيله كما فعله خير القرون أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا خُلاصة كلامه.
73 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ:
ــ
قال بعضُ الشارحين: أقول لا بُدّ من مقدرٍ في الكلام يتعلق به لفظ: وبعد. والمناسب أن يقدر: تَفَهموا بمعنى الماضي، فيكون لفظ: تَسَوّدوا -بفتح التاء- ماضيًا أيضًا. ويحتمل أن يكون من التسويد المأخوذ من السواد أي: بعد أن يُسَوِّدوا لحيتهم في كبرهم. هذا كلامه. وقد فهم أن قول البخاري: وبعد أن تسودوا من تمام كلام عمر، فوقع في هذه الأشياء الركيكة التي تمجها الأسماعُ.
73 -
(الحُميدي) -بضم الحاء على وزن المصغر- المنسوب (قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حَسَدَ إلا في اثنين).
فإن قلتَ: وَضَعَ البابَ للاغتباط، وهو ضدّ الحسد؛ لأنه تمني زوال نعمة الغير وحصولها لَكَ؟ قلتُ: أراد بالحسد: الاغتباط، بقرينة قوله:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
فإن قلتَ: أيّ نكتة في العدول إلى المجاز من الحقيقة؟ قلت: المبالغة في ذلك الاغتباط حتى كأنه يبلغ به الحسد. وقيل: الحسدُ نوعان: منه ما هو جائزٌ كالواقع في الحديث هنا نظيره الكذب، فإنه قد يباح وليس بشيءٍ، لأن تمني زوال العلم عن المسلم أو المال. وحصوله لك مما لا يُسَوِّغُهُ عاقلٌ متدين، فكيف يطلقه الشارعُ؟ وقيل: هو من قبيل: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وهذا أيضًا من ذلك النمط، لأن الشارع حَثَّ عليه ورغّب فيه، فكيف يرغب في شيء لا وجود له؟ وكيف يعقل الاستدلالُ حينئذٍ على الترجمة بالحديث؟ وقد اتفق هؤلاء على أنه لا يعقل في هذين الأمرين الحسدُ. وهذا ظاهر؛ فإنه لو تمنّى زوال العلم عن غيره. وحصوله له كان أقبحَ أنواع الحسد.