الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والآن فرض كفايةٍ لحصول الانتشار.
* * *
38 - بابُ إِثمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
(باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم)
106 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَناَ شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِج النَّارَ".
(لا تكذبوا عليَّ) الكذِب عدَم مطابقة الخبر للواقع، سواءٌ طابَق الاعتقاد أو لا، وقيل: عدَم مطابقة الاعتقاد، طابق الواقع أو لا، وقيل: عدم مطابقتهما، كما أنَّ الصِّدق مطابقتهما، فبينهما واسطةٌ، ومعنى:(عليَّ) نسَب الخبر إليَّ كاذبًا، لا أنَّ بين:(كذَب عليه)، و (كذَب لَه) فَرقًا، ويدخل الكذب على الله في الكذب على رسوله؛ لأن خبره عن الدين خبر الله.
واعلم أن الكذب من حيث هو معصيةٌ، سواءٌ على النبي صلى الله عليه وسلم أو على غيره، والعاصي في النار، ففائدة الوعيد على الكذب عليه أنَّ عذابه أشدُّ من عذاب مَن كذب على غيره، لكونه مقتضيًا شرعًا عامًّا إلى يوم القيامة، ففيه من المفسدة ما لا ينحصِر، أو أنَّ الكذب عليه كبيرةٌ، وعلى
غيره صغيرةٌ، والصغائر تكفَّر عند اجتناب الكبائر، أو أن المراد من قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]: عصيانه بالكبيرة.
(فيلج النار) وجه تسبب الجزاء هنا على الشرط: أن المُسبَّب هو لازم الأمر بالوُلوج، وهو الإلزام به، إلا أنْ يكون الكذِب سببًا للأمر به؛ لأنَّه إنما هو سبَب الوُلوج نفسه.
قال (ن): في الحديث أن هذا جزاؤه، وقد يجازى، وقد يعفو الله عنه، فلا نقطع بدخوله النار، وكذا كل وعيدٍ لكبيرةٍ غير الكفر، وإنْ جُوزي بدخول النار، فلا يخلَّد في النار بل لا بُدَّ من خروجه بفضل الله ورحمته.
* * *
(باب)
كذا في نسخةٍ شرَح عليها (ك)، وفي كثيرٍ لفظ:(باب) هنا ساقطٌ، فعلى الثبوت:
107 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لَا أَسمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
(لا أسمعك)، وفي بعضها:(إني لأَسمعُك).
(تحدث) حذفت مفاعيله الثلاثة.
(أما) بتخفيف الميم، حرف تنبيهٍ.
(لا أفارقه) المراد نفي المفارقة العُرفية، أي: الملازمة حضَرًا وسفَرًا، على عادة مُلازمة الملوك، وهو وإنْ هاجر للحبشَة لكن ذلك قبل ظُهور شوكة الإسلام، أو أن المراد: في أكثر الأحوال.
(لكني) في بعضها: (لكنَّني)؛ لأن نون الوقاية مع (لكن) تُحذف وتُذكر، ووجه الاستدراك هنا: أن من لازِم عدَم المفارقة السماع، ولازِم السماع الحديث، ولازِم ما رواه من ذلك أن لا يحدث، فبين اللازمين مُنافاةٌ.
(يقول) سبق مراتٍ وجْهُ الجمع بينه وبين (سمعت) بلفْظ المضيِّ: أنَّه إما استحضاره للسامعين، أو حكاية الحال.
(فليتبوأ) بسكون اللام في المشهور، وإنْ كان الأصل كسرها، والتَبَوُّؤ: اتخاذ المَبَاءَة، أي: المنْزِل، يُقال: تبوَّأ المكان: اتخذه موضعًا لمقامه.
وقال الجَوْهَري: تبوَّأْتُ منْزلًا، أي: نزلته، وهذا ظاهر الأمر، ومعناه الخبر، أي: إن الله يُبوِّئه مقعدَه من النار.
قال (خ): إنما خاف الزبير من ذلك أن يزلَّ أو يُخطئ، فيكون كذبًا، حيث لم يتيقَّن أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَه، لا أنَّه خاف أن يتعمد الكذب عليه.
ففي الحديث أنَّه لا يجوز التحديث عنه بالشك وغالب الظن، حتى يتيقن سماعه.
وقال (ط): الأمر بالتبوُّؤ إن كان للكاذب فله إلى تركه سبيل، أو لله تعالى، فأمر العبد بما لا سبيل إليه غير جائز، وأجيب بأنَّه بمعنى الدُّعاء، أي: بوأه الله.
ثم هذا الوعيد هل يعم كلَّ كاذبٍ عليه، أو خاصٌّ بمن كذب في الدِّين، فيُنسب إليه تحريم حلالٍ، أو تحليل حرامٍ، فيه خلافٌ، والأرجح العموم.
وقيل: إنما كان هذا في رجلٍ بعينه كذَب عليه، فادعى عند قومٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم بعثَه إليهم للحُكم فيهم.
وقال الطِّيْبِي: الأمر بالتبوُّؤ تهكُّمٌ وتغليظٌ، إذ لو قيل: كان مقعده في النار لم يكُن فيه هذا التغليظ، وأيضًا ففيه معنى أنَّه يقصد في جزاء الذَّنب، كما قصَد في نفْس الذَّنب حيث تعمَّد.
قلت: لكن المَحفوظ في حديث الزبير أنَّه ليس فيه: متعمِّدًا، وقد رُوي عن الزُّبير أنَّه قال: واللهِ ما قال: مُتعمِّدًا، وأنتم تقولون: متعمِّدًا، قاله المنذِري في "مختصر السنن".
قال (ك): ويحتمل أنَّه على حقيقته، وأنَّه يلزم بالتبوُّؤ أنْ لو قصد الكذب، ولكن لم يكن في الواقع كذب، فإنَّه يأْثم بقصد المعصية، لا بها نفسها؛ لأنَّها لم تقَع.
واعلم أن هذا الحديث في نهاية الصحة، وقيل: إنَّه متواترٌ، قال
الصَّيْرفي في "شرح رسالة الشافعي": رُوي عن أكثر من ستِّين صحابيًّا، منهم العشرة، قال: ولا يُعرف في غيره.
قلتُ: قد اجتمع العشرة في حديث رفْع اليدين، والمسح على الخفين، وقال بعضهم في حديثِ:"من كذَبَ عليَّ"، رواه مئتان من الصحابة.
قال ابن الصلاح: ثم لم يزل عدده في ازدياد على الاستمرار، وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر، ولا للمتواتر مثالٌ إلا هو.
وقال (ك): تواتره معنويٌّ.
قال (ن): ومن فوائده: أن الكذب: الخبر عن الشيء بخلاف ما هو أعم من العمد والشهود، كما هو قاعدة أهل السنة، وتحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وأن الكذب فاحشةٌ عظيمةٌ، لكن لا يَكْفُر به إلا من يستحلُّه خلافًا لقول الشيخ أبي محمَّد الجُوَيني: يكَفْرُ ويُراق دمه، ومن كذب عليه ثم تابَ وحسُنت توبته تُقبل روايته بعد ذلك، جريًا على القواعد، خلافًا لقول أحمد، وجماعةٍ من أصحابنا: لا تُقبل روايته أبدًا، ثم يحتم جرحه.
وقد أجمعوا على قبول الكافر إذا أسلم، ولا فرق في تحريم الكذب عليه بين الأحكام، والكذب في الترغيب والترهيب، خلافًا لتجويز الكرَّامية وَضْعَ الحديث فيما لا حكمَ له، فالزبير إنما خاف الغلَط، أو النِّسيان، وإنْ كان لا إثمَ عليه، فقد يُنسب لتفريطٍ بتساهلٍ،
أو نحوه، بل الناسي قد يؤاخذ بغرامة المتلَفات، وانتقاض الطهارات، ونحو ذلك.
* * *
108 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
(أن أحدثكم) هو المفعول الثاني لـ (يمنع)، وفاعله:(أن النبي صلى الله عليه وسلم) إلى آخره، ومعنى قوله:(حديثًا كثيرًا)، أي: عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه إذا أُطلق الحديث فالمراد به ذلك.
وعبارة (ك) في إعراب ذلك فاسدةٌ يحتمل أنَّها من الناسخ.
ومعنى كون هذا الحديث يمنعه من الحديث الكثير وإنْ كان لا يمنع الصادق: أنَّه يجرُّ إلى الوقوع في كَذِب، "فإنَّ مَنْ حامَ حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يقَعَ فيهِ" وإنْ لم يكن بالقصد.
(كذبًا) نكرةٌ في سياق الشَّرط، فيعمُّ كما في سِياق النفي.
* * *
109 -
حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أقلْ فَلْيتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
(ما لم أقل) حذف مفعوله، أي: أقله، وهذا الحكم لا يختص بالقول، فمن نسب إليه فعل لم يفعله كان كذلك، إذ لا فرق.
(من النار) يحتمل أن تكون (من) بيانيةً، وأن تكون ابتدائيةً.
واعلم أن هذا الحديث من ثلاثيات البخاري، أي: بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثةٌ، وهذا أعلى ما له.
وفي الحديث كما قبله من تعظيم أمر الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ما لا نهايةَ له، فلقد كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يمتنع من إكثار التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا من الزيادة والنقصان والغلَط، حتى إنَّ من التابعين من كان يُهمل رفع المرفوع، فيوقفه على الصحابة، ويقول: الكذب عليه أهون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار بين الزُّهري وربيعة مُعاتبةٌ، فقال ربيعة للزُّهري: إنما أنا أُخبر الناس برأيي، وأنت تُخبرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما تخبرهم به.
* * *
110 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أبي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتي، وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
(تسموا) تفعَّلوا، إما على حقيقته، أو بمعنى: سمُّوا.
(تكنوا) من الكنية، كأبي زيد، وهو تَفعُّل، وفي نسخةٍ من الفِعْل،
وفي نُسخةٍ من الافتِعال، والكلُّ صحيحٌ.
قال الجَوْهَري: أن تتكلم بشيء وتريد غيره، يقال: كنَيتُ، وكَنَوت بكذا، وعن كذا، والكنية والكِناية بالضم والكسر، وكُنِّي فلانٌ بكذا، وكنَّيتُه أبا زيد، وبأبي زيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه: محمد، وكنيته: أبو القاسم، ولقبه: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد المرسلين.
قلت: هذا مثالٌ، وإلا فله غير هذا الاسم والكنية واللَّقب.
وفي التكني بكنيته خلاف، فمنع أهل الظاهر التكنية بأبي القاسم مطلقًا؛ لظاهر هذا النهي ونحوه.
وجوَّزه مالك مطلقًا؛ لأنَّ هذا إنما كان في زمنه للالتباس، فرُوي أن رجلًا نادى: يا أبا القاسم، فالتفت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أَعْنِكَ، بل عَنَيتُ فُلانًا، ثم نُسخ فلم يبق التباسٌ.
وقال جُرير: النهي للتنزيه، لا للتحريم.
وقال جمعٌ من السلَف: النهي مختصٌّ اسمه محمد، أو أحمد؛ لحديث:"نَهى أَنْ يُجمَع بين اسمِهِ وكُنْيتِه"، وزاد بعض مَن منع مطلقًا أن يُسمى ولده بقاسِم، بل منَع بعضهم التسمية بمحمدٍ، سواءٌ كان له كُنيةٌ، أو لا؛ لحديث:"تُسمُّون أَولاكُم محمَّدًا، ثم تَلْعَنونَهم".
قلت: تُعارضه أحاديث: "تَسَمَّوا باسمِي"، "خيرُ الأسماء ما حُمِّد"، ونحو ذلك.
(فقد رآني) مغايرتُه للشرط حتى يصحَّ وقوعه جوابًا، إما على
تقدير محذوفٍ، أي: فليَستبشر بأنَّه قد رآني، أو أن الثاني مرادٌ به بُلوغ غاية الكمال، كما في:"فمَنْ كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه"، كما سبق.
ثم قال القاضي أبو بكر الباقِلَّاني: إن معنى الرؤية هنا أنَّها رؤيةٌ صحيحةٌ، لا أضغاث أحلامٍ، ولا من تشبيهات الشيطان، وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة، كمن يراه أبيض اللحية، وقد يراه شخصان في زمنٍ واحدٍ، أحدهما في المشرق، والآخر في المغرب، يراه كلٌّ في مكانه.
وقال قومٌ: الحديث على ظاهره، ولا مانع من حقيقته؛ فإن العقل لا يُحيله حتى يؤوَّل، وأما قوله: قد يُرى على خلاف صفته، أو في مكانين، فذلك لأن التغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته مرئيةً، وصفاته متخيلةً، والرؤية أمرٌ يخلقه الله تعالى في الحي، لا بمواجهةٍ، ولا تحديق بصرٍ، ولا كون المرئي ظاهرًا، بل الشرط كونه موجودًا فقط، حتى تجوز رؤية أعمى الصين من في قبة الأندلس، ولم يقم دليل على فَناء جسمه صلى الله عليه وسلم، بل الحديث يقتضي بقاءه.
وقال الغزالي: ليس معناه أنَّه رأى جسمي وبدني، بل رأى مثالًا يتأدَّى به المعنى الذي في نفسي إليه، بل البدن في اليقظة أيضًا ليس إلا آلة النفس، فالحقُّ أن ما يَراه مثالُ حقيقةِ روحه المقدَّسة، التي هي محل النُّبوَّة، لا نفس روحه، ولا شخصه.