الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويَحتمِلُ شُربَ المَاء.
والجمعُ بين الحديثَين بِما أشَرنا إليه أوَّلَ الباب: أنَّ فِعلَه صلى الله عليه وسلم ذلك غالبًا لكَونه الأفضلَ، وفعلَه الثَّاني بيان لأمَّته أنَّه يَجوزُ، ولا يُقال: إنَّ ذلك من تَعارضِ النَّفي والإثباتِ، فقد تَمَّ الإثباتُ لكَونه زيادةَ علمٍ؛ لأنَّ ذلك إنَّما هو في النَّفي المَحصورِ، وهنا غيرُ مَحصورٍ، بل تَقدَّم النَّفيُ هنا؛ لأنَّه خاصٌّ، والإثباتُ عامٌّ، فيُقَدَّمُ الخَاصٌّ على العَامِّ، أي: يُخصَّصُ به، فقد قالَ أصحابُنا: إذا تَعارَضَ خاصٌّ وعام كانَ مُخَصِّصًا له، عُلمَ تأخُّره أو لا، خلافًا لقَولِ أبي حنيفَةَ أنَّ العامَّ المُتأخِّر يَنسَخُ.
* * *
56 - بابٌ مِنَ الكَبَائِرِ أَنْ لَا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ
(باب مِنَ الكَبَائِرِ أَنْ لَا يَسْتَترَ مِنْ بَوْلهِ) واحدُ الكبائر: (كبيرة)، وفي ضَبطِها (1) خلافٌ مَشهورٌ.
216 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانينِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
(1) يعني: حدّها.
(يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ)، ثُمَّ قَالَ:(بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمشِي بِالنَّمِيمَةِ)، ثمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرها كِسْرتيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ فَعَلْتَ هذَا؟ قَالَ: (لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَم تَيبسَا، أَوْ إِلَى أَنْ يَيبسَا).
(عثمان)؛ أي: ابنُ أبي شَيبة.
(جرير)؛ أي: ابنُ عبدِ الحميدِ.
(منصور)؛ أي: ابنُ المُعتَمِر.
(قال)؛ أي: ابنُ عبَّاس، وهو وإنْ كان عند الهِجرة ابنَ ثلاثِ سنين، لكنْ يُحتَملُ أنَّ ذلك بعد رُجوعه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنةَ الفَتح، أو سنةَ الحجِّ، أو أنه سَمعه من النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرسَلُ صحابيٍّ.
(المدينة): اللامُ فيه للعهد، وصارت عَلَمًا لها بِخلاف مكَّة، فإنَّها لا تدخلُها اللام؛ لأنَّها عَلَم بدونها.
(في قبورها): جَمَعَه مثل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
قال ابن مالك: عُلِمَ من إضافة الصَّوت إلى إنسانيَن جوازُ إفرادِ المثنَّى معنًى إذا كانَ جُزءَ ما أُضيفَ إليه، نحو: أكلتُ رأسَ شاتَين، وجَمعُه أجودُ كما في:{صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، والتَّثنية مع أنَّها الأصلُ قليلةُ الاستعمال، فإن لم يكن المضافُ جُزأَه، فالأكثرُ التَّثنيةُ كـ (سَلَّ الزَّيدان سيفَيهما)، وإنْ أُمِنَ اللَّبسُ جاز بلفظِ الجَمع، فـ (في قبورهِما) شاهدٌ عليه.
(بلى) هي إيجابٌ للنَّفي؛ أي: بلى يُعذَّبان في كبير، والجمعُ بينَهما باعتبارَين، كما قالَ (ط)؛ أي: ما هو كبير عندَكم، ولكنَّه كبيرٌ عند الله كما في:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
قال: وقد اختُلف في عدَد الكبائر، فقيل: سَبعٌ، وقيل: تسعٌ، وقيل: كلُّ معصيةٍ، وقيل: كلُّ ذنبٍ خَتَمه الله بنارٍ أو لَعنةٍ أو عذابٍ أو غَضبٍ.
وقيل لابن عبَّاس: الكبائرُ سبعٌ، فقال: هي إلى السَّبع مئة أقربُ، لأنَّه لا كبيرةَ مع الاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإِصرار.
والحديثُ حجَّةٌ لهذا، لأنَّ تَركَ التَّحرُّزِ من البَول لم يتقدَّم فيه وعيدٌ.
قال: وفيه أنَّ عذابَ القبر حقٌّ يجبُ الإيمانُ به، انتهى.
وقال (خ): معناه: لا يُعذَّبان في أمرٍ كان يكبُر ويشقُّ عليهما الاحترازُ منه؛ إذ لا مشقَّة في الاحترازِ عنهما، لا أنَّ المرادَ غيرُ كبيرٍ في أمر الدِّين.
قال: وفيه وجوبُ الاستِتار عندَ قضاءِ الحاجَةِ عن أَعيُنِ النَّاس، وأنَّه يُستحَبُّ قراءةُ القرآنِ عند القُبور، لأنَّها أعظمُ بركةً وثوابًا، وعلى رواية (يستَنزِه) -بالزَّاي- فيه وجوبُ الاحتراز عن الأبو الِ لكوبها نَجسةً.
وقال (ن) بعد ذِكر التأويلَين: إنَّ سببَ كونهما كبيرَين أنَّ عدمَ التَّنزُّه من البَول يلزمُ منه بطلانُ الصَّلاة، وتركُها كبيرةٌ، والمشيُ
بالنَّميمةِ من أقبحِ القبائحِ، لا سيَّما مع قوله:(كان)، وهي تُشعِرُ بالغَلَبة.
قال (ك): لا يصحُّ هذا على قاعدةِ الفقهاء، فإنَّ الكبيرةَ ما أَوجبَ حدًّا، ولا حدَّ في المَشي بالنَّميمة، إلا أنْ يُقالَ: الاستمرارُ إصرارٌ على صغيرة، فيكونُ كالكبيرة، وليس المُرادُ بالكبيرةِ معناها الاصطلاحي.
قلتُ: إذا قلنا بتعريفِ إمامِ الحرمَين الذي يَظهر من كلامِ الرَّافعيِّ والنَّوويِّ ترجيحُه؛ كانَ كلُّ ذلك كبيرةً. ومن طُرِق الجَمع أيضًا: أنَّ النَّفيَ كان قبلَ الوَحيِ بأنَّه كبيرةٌ، أو أنَّ:(في كبير) متعلقٌ بقَوله: (ليعذبان)، وجُملَةُ:(وما يُعذَّبان)؛ مُعترِضةٌ على أنَّ (ما) استفهاميَّةٌ للتَّعظيمِ، وتأكيدٌ للتَّعذيب.
(لا يستتر): قال (ط): أي: لا يستُرُ جسدَه ولا ثيابَه من مماسَّته، فلمَّا عُذِّبَ على عَدَم التَّحرُّز منه دلَّ على أنَّ مَن تركَ البولَ في مَخرَجِه؛ ولم يغسِله؛ أنَّه حقيقٌ بالعذاب، وقد رواه البخاريُّ في مَوضعٍ:(لا يستبرِئُ)، أي: لا يستَفرِغُ جُهدَه بعد فراغِه منه.
وقد اختُلِف في إزالة النَّجاسة، فأوجَبَها الشَّافعيُّ مُطلقًا، والحديثُ من حُجَجِه، فإنَّه عُذِّب في القبر، وهو وعيدٌ.
وقال مالكٌ: لا، وأبو حنيفَة: يجبُ إزالةُ ما زادَ على قَدرِ الدِّرهم، وحَمَلَ مالكٌ الحديثَ على أنَّه عُذِّب لتَركه البَولَ يسيلُ،
فيصلِّي بغيرِ طُهرٍ؛ لأنَّ الوضوء لا يصحُّ مع وجودِه، أو لأنَّه يفعلُه عَمدًا بغير عذر.
(بالنميمة) هي نقلُ كلامِ بعضِ النَّاس لبعضٍ بقَصدِ الإفساد.
(جريدة)؛ أي: سعَفَةٌ جُرِّدَ خُوصُها.
(لعله أن) شبَّه (لعلَّ) بِـ (عسى) فقرنَها بِـ (أنْ).
(عنهما) قال ابنُ مالك: يُروى (عنها) بالإفراد، وجازَ إعادةُ الضَّمير في (لعلَّه) و (عنها) إلى الميِّتِ باعتبارِ كَونِه نَفْسًا وإنسانًا، ويجوزُ كونُ الهاءِ في (لعلَّه) ضميرَ الشَّأن، وفُسِّر بِـ (أنْ) وصلتِها، لأنَّه كجملةٍ، لاشتِماله على مسنَدٍ ومسندٍ إليه، أو تكونُ (أن) زائدةً مع كونها ناصبةً، كما زيدت الباءُ مع كونِها جارَّةً.
قال (ك): أو يكونُ الضَّمير مُبهمًا يُفسِّره ما بعدَه، لا ضميرُ الشَّأن، كما في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29].
(تيبسا) بمُثنَّاةٍ فوقَ أوَّله في أكثر الرِّوايات، وفي بعضِها من تحت، وبفَتحِ الموحَّدة وكسرِها لغة، والضَّميرُ للكِسْرَتَين.
قال العلماء: هو مَحمولٌ على أنَّه سألَ الشَّفاعةَ لَهما، فأُجيبَت شفاعتُه بأن يُخفَّفَ عنهما إلى أنْ ييبَسا.
ويحتملُ أنَّه صلى الله عليه وسلم يدعو لَهما تلك المُدَّة.
ويحتملُ أنَّهما يسبِّحان ما داما رَطبين، وليسَ لليابسِ تسبيحٌ، فإنَّ قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ} [الإسراء: 44]: أي شيءٍ حيٍّ،