الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال (ك): الأوسط من الثلاثة أرجح، فخير الأمور أوسطها.
قال (ع): خُصَّ صلى الله عليه وسلم بأن رؤيته صحيحةٌ، لا يتصور الشيطان في صورته؛ لئلا يكذب على لسانه في النوم، فخرق الله العادة للأنبياء بالمعجزة.
قال البَغَوي: رؤياه حقٌّ، وكذا جميع الأنبياء والملائكة، نعم، مَن رآه في المنام لا يصدُق عليه صحابي؛ لأن المراد من الصحابي: أن يَراه الرؤية المعهودة في حياته في الدنيا؛ لأنَّه مخبرٌ عن الله، وما كان مخبرًا عنه إلا في الدنيا، لا في القبر، ولهذه مدَّته ثلاث وعشرون سنةً على أنَّه لو التزم إطلاق الصحابي له لجاز، قاله (ك)، ولا يُستدلُّ بما يرويه عنه الرائي له في المنام؛ لأن شرط الراوي أن يكون ضابطًا عند السماع، والنوم ليس حالة ضبطٍ.
* * *
39 - بابُ كِتَابَةِ الْعِلْمِ
(باب كتابة العلم)
111 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَناَ وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ،
وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
(م د ت).
(سُفْيان) يجوز أن يُريد به الثَّوري، وأن يُريد به ابن عُيَينة؛ لأنَّ وكيعًا يروي عنهما، وهما يرويان عن مُطرِّف، ومثل هذا الالتباس لا يَقدح؛ لأن كلًّا منهما إمامٌ حافظٌ على شرط البخاري، وهو يروي عنهما كثيرًا.
نعم، قال الغَسَّاني في "تقييد المهمل": إن هذا الحديث محفوظٌ عن ابن عُيينة، وقال أبو مسعود الدمشقي: إن هذا ابن عُيينة، ولم يُنبِه عليه البخاري.
قال: وقد رواه يَزيد العَدَني -أي: بفتح المهملتين والنون-، عن الثَّوري أيضًا.
(عندكم) إما خاطب به عليًّا بالجمع تعظيمًا، أو إرادة مع سائر أهل البيت، أو للالتفات من خطاب المفرد للجمع، إذ مثله التفاتٌ نحو:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1]، ولا فرقَ بين الانتقال حقيقةً، أو تقديرًا عند الجمهور.
(كتاب)؛ أي: مكتوب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه السؤال أنَّ الشِّيعة كانوا يزعُمون أنَّه صلى الله عليه وسلم خصَّ أهل البيت -لا سيَّما عليًّا - بأسرار من الوحي، أو لأنَّه كان يرى منه علمًا وتحقيقًا لا يجده عند غيره، فسأله.
(إلا كتاب الله) بالرفع.
(فهم)؛ أي: فهم من فحوى الكلام، ويدرك من بواطن المعاني بالاستنباط، والناس يتفاوتون فيه، وهو من بقية الاستثناء المتصل؛ لأنَّه من توابع الكتاب.
(أعطيته) بالبناء للمفعول، ومفعوله الأول هو نائب الفاعل، والثاني هو الضمير.
(الصحيفة)؛ أي: الكتاب، وكانت معلقةً بقبضة سيفه، إما احتياطًا، واستحضارًا، أو لانفراده بسَماعها، أو للإشعار بأن مصالح الدُّنيا ليست بالسيف وحده، بل إما بالقتل، أو الدِّيَة، أو العَفو، فلا يوضع السَّيف في موضع النَّدى، بل يوضع كلٌّ في موضعه.
(فما) في بعضها: و (ما) -بالواو- وهي استفهامية، بخلاف (ما) السابقة.
(العقل)؛ أي: الدِّيَة؛ لأن إبلها تعقل بفناء دار المستحِقِّ، والمراد بيان أحكام ذلك.
(وفكاك) -بكسر الفاء-: ما يفتك به، أي: يخلص، يقال: فكَّه، أو افتكَّه بمعنىً، قال القَزَّاز: إنَّه بالفتح أفصح.
(الأسير) فعيلٌ بمعنى: مأسور، من أَسَره: شدَّه بالإسار، وهو القِدُّ، بكسر القاف والمهملة؛ لأنَّهم كانوا يشدُّون الأسير به، ثم سُمي كل مأْخوذٍ أسيرًا، وإن لم يشدَّ به، والمراد أن فيها حكمه، والترغيب في تخليصه، وأنَّه من البر الذي يهتم به.
(وإن لا يقتل) في بعضها: (ولا يُقتَل)، وعطف الجملة حينئذٍ على مفرد بالتأْويل، أي: وفيها حُكم حرمة قصاص المسلم بالكافر، ونحوه:{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
ففيه دليلٌ على منع قتل المسلم بالذِّمي، وعليه الشافعي، ومالك، وأحمد، خلافًا لأبي حنيفة، تعلُّقًا بما رَوى عبد الرحمن البَيْلَماني: أنَّ رجُلًا مِن المُسلمين قتَلَ ذِمِّيًّا، فأَمر به صلى الله عليه وسلم فقُتل.
قال البَيْضاوي: هو منقطعٌ لا يحتجُّ به، وأيضًا زعموا أن القاتِل كان عمرو بن أُميَّة، وهو قد عاش بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم سنين، وأيضًا فمتروكٌ بالإجماع؛ لأنَّه روي أن الكافر كان رسولًا، فيكون مستأْمنًا، وهو لا يُقتل به المسلم اتفاقًا، وإن صحَّ فمنسوخٌ؛ لأنَّه رُوي أن ذلك كان قبل الفتح، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خُطبته على درج البَيت:"ولا يُقتَلُ مُؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذُو عَهدٍ في عَهْدِهِ".
قال: ومعنى كلام علي رضي الله عنه أنَّه ليس عندي سوى القرآن، وأنَّه لم يخصَّ بالتبليغ والإرشاد قومًا دون قومٍ، وإنما التفاوُت في الفهم، واستعداد الاستنباط، واستثنى ما في الصَّحيفة احتياطًا؛ لاحتمال أن يكون فيها ما لا يكون عند غيره، وقيل: كان فيها من الأحكام غير ما ذكر، ولكنه اقتصر على ذكر المقصود حينئذٍ، أو ذكره ولكن لم يحفظه الراوي.
قال (ط): وفيه ما يقطَع بدعة المتشيِّعة أن عليًّا رضي الله عنه وصيٌ، ومخصوصٌ بعلمٍ لا يعرفه غيره، ققال: ما عندي إلا ما عند الناس، ثم
أَحالَ على تفاوُت درجاتهم في الفهم.
قال (ك): وفيه إرشادٌ إلى أن العالم له أن يستخرج بفهمه من القرآن ما لم يكن منقولًا عن المفسرين بشرط موافقة الأصول الشرعية، وإباحةُ كتابة الأحكام وتفسيرها، وجواب السؤال عن الإمام فيما يتعلق بخاصته.
* * *
112 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ خُزَاعَةَ قتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ -أَوِ الْفِيلَ شَكَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، ولم تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ"، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:"اكْتُبُوا لأَبِي فُلَانٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَّا الإذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتنَا وَقُبُورِناَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إلَّا الإذْخِرَ، إلَّا الإذْخِر".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يُقَالُ: يُقَادُ بِالْقَافِ، فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: أَيُّ
شَيْءٍ كتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.
(خُزَاعَة) بضم المعجمة، وبالزاي: حيٌّ من الأَزْد، سميت بذلك؛ لأن الأزْد لمَّا خرجوا من مكة وتفرَّقوا خزعَتْ، أي: تخلَّفتْ، وأقامت بمكة.
(رجلًا) سماه ابن هشام: جُنَيْدِب بن الأَكْوَع.
(بقتيل) سماه ابن إسحاق: منبه الخُزاعي.
(فأخبر) بالبناء للمفعول.
(راحلته) هي الناقة التي تصلُح أن ترحل، ويقال: المركوب من الإبل، ذكرًا كان أم أنثى.
(الفتك) بالفاء: سفك الدم على غفلةٍ، وفي بعضها:(القتل) بالقاف واللام.
(أو الفيل)؛ أي: الذي أرسل الله تعالى على أصحابه طير الأَبابيل، تَرميهم بحجارةٍ من سجِّيلٍ حين قربوا من مكة.
(واجعلوا) يحتمل أنَّه من قول أبي نُعَيم للسامعين، أي: اجعلوا هذا اللفظ على الشك، وفي نسخة:(قال أبو عبد الله -أي: البخاري-: اجعلوا)، فيكون من مقوله، أي: أما عن أبي نُعَيم فجازمٌ بأنَّه الفِيْل، بالفاء واللام، وصوَّبه بعضهم، والمراد أنَّه جنس أصحاب الفيل، أو جنس الفيل نفسه، كما هو معروفٌ في قصته.
(سلط) بالبناء للفاعل، أو للمفعول.
(عليها)؛ أي: مكة، وفي نسخة:(عليهم)، أي: أهلها.
(والمؤمنون) بالواو، فإن بُني (سُلِّط) للمفعول؛ فهو عطفٌ على نائب الفاعل، وإلا فمبتدأٌ، أي: والمؤمنون كذلك.
(ألا) حرف تنبيهٍ.
(وإن) عطفٌ على مقدَّرٍ، أي: ألا إنَّ الله حبَس، وأنَّها لم تحلَّ، وإلا فترك العطف هو الأصل، كما في:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]، والمراد بحِلِّ مكة حِلُّ القِتال فيها.
(ولا تحل لأحد بعدي) في بعض النُّسَخ: (ولم تحلَّ)، وهو مشكلٌ لأنَّ:(لم) تَقلب إلى الماضي، فهو ينافي:(بَعْدِي)، إلا أنْ يُؤوَّل بأنَّه لم يحكم الله في الماضي أن تحلَّ في المستقبل.
(ساعتي) سبق بيانها قريبًا.
(حرام) إخبارٌ عن مكة، وهي مؤنَّثٌ؛ لأنَّه وإن كان صفةً مشبهةً في الأصل لكنْ غلبت الاسمية عليه، فتساوى في الإخبار به المذكر والمؤنث، أو أنَّه مصدرٌ يخبر به عن الكل بلفظٍ واحدٍ.
(يُختلى)؛ أي: يُجزُّ ويُقطع.
(شوكها)؛ أي: فالشجر من باب أولى.
(يعضد)؛ أي: يقطع.
(ساقطتها)؛ أي ما سقط بغفلة المالك، أي: اللقطة.
(لمنشد)؛ أي: معرّفٍ، أما طالبها فناشدٌ.
قال البغوي: الحديث مخصوصٌ بغير المؤذي من الشوك، كالعَوسَج، فإنَّه لا بأس بقطعه، كالحيوان المؤذي، واليابس، كما في الصيد الميت، من باب التخصيص بالقياس، وأما اللُّقطة فهو دليل لأصح قولي الشافعي: أنَّه ليس لواجدها غير التعريف، ولا يملكها.
قال: وخالف مالك والأكثرون فسوَّوا بينها وبين لُقطة غير الحرم في جواز التعريف والتملك، وقالوا معنى:(إلا لمنشِد): أنَّه يُعرِّفها كما يعرفها في سائر البقاع حولًا كاملًا؛ لئلا يتوهم أنَّه إذا عرفها في الموسم فلم يظهر مالكها يتملك من غير اعتبار حولٍ، لكن المقام بيان فضل مكة، وحينئذٍ فلا يبقى لها خصوصيةٌ.
ويجوز رعي البهائم في كلأ الحرم، خلافًا لأحمد وأبي حنيفة.
(فمن قتل
…
) إلى آخره، هو بالبناء للمفعول، وليس المراد أن القتيل يخير، بل على تقدير محذوف، أي: فالمستحق لدمه مخير، وإنما نسب الحكم للقتيل؛ لأنَّه السبب، وقال (خ): التقدير فمن قُتل له قتيلٌ.
(يعقل)؛ أي: يعطى العقل، وهو الدية.
(يقاد) بالبناء للمفعول، والقود: القصاص، يقال: أقدت القاتل بالمقتول: اقتصصته منه، فالنائب عن الفاعل ضمير يعود للمقتول، أي: يُؤخذ له القوَد، والمراد بالقتل هنا الذي يوجب القصاص، وهو العمد المحض العدوان، وفي بعض النُّسَخ:(يفاد) بالفاء؛ من أفدت المال، أي: أعطيته، وفي بعضها:(يفادي) من إعطاء الفِداء، نعم،
يلزم منه التكرار مع قوله: (يعقل) إلا أن يُراد بالعقل دفع العاقلة، وبالفداء نفس الجاني.
(أهل) بالرفع. قال (ك): وفيه تنازع الفعلين: يعقل، ويقاد.
واعلم أنَّه ليس في الحديث نفي أخذ القصاص في الحرم، فهو حجةٌ للشافعي، وحينئذٍ فإنكاره صلى الله عليه وسلم على خُزَاعَة ليس لأجل كون القصاص في الحرم، بل لأنَّه لعلهم قتلوا غير القاتل، على عادة الجاهلية، لكن إذا كان ذلك جائزًا في الحرم، وإن كل قتل وقتال بحق يجوز فيه، حتى لو تحصن كفار -والعياذ بالله- بالحرم قوتلوا.
فما الذي أُحل له صلى الله عليه وسلم ساعةً، ولا يحل لأحد بعده؟
وجوابه: أن المراد -كما قال الشافعي- نصب القتال على مكة بما يعم، كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف غير مكة، فإنَّه يجوز قتالهم بكل شيءٍ.
وفي الحديث على تقدير: أن يُقاد، -بالقاف- حجةٌ للشافعي في تخيير الولي بين القصاص والدية، وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء.
وقال مالك: ليس له إلا القتل أو العفو، وليس له الدِّية إلا برضا الجاني.
وقال أهل العراق: ليس له إلا القصاص، فإن ترك حقَّه لم يكن له أخذ الدية.
وفيه دليلٌ لأحد قولي الشافعي أن الواجب أحد الأمرين:
القِصاص، أو الدِّية، ولكن الأرجح أنَّه القصاص عيْنًا، والدِّية بدلٌ.
قلت: فالمراد في الحديث حينئذٍ أن الولي مخيرٌ بين أن يأخذ حقه بعينه، أو بين أن يعفو على الدية إذا لم يرد القصاص، أو يعفو مطلقًا، وهذا لا يلزم منه أن الواجب أحدهما.
(لأبي شاه) بمعجمةٍ، وهاءٍ وقفًا ودَرْجًا، لا يعرف له اسم، وهو يَمنيٌّ بَجَليٌّ، قيل للبخاري: أي شيء كتب له؟ قال: هذه الخُطبة.
(رجل من قريش)؛ أي: العبَّاس.
(الإذخر) بكسر الهمزة، وسكون المعجمة، ثم معجمة مكسورةٍ: نبتٌ معروفٌ، طيب الرائحة.
(في بيوتنا)؛ أي: يسقف به فوق الخشب.
(وقبورنا)؛ أي تسد به فُرج اللحد المتخللة بين اللَّبِنات، وهذا الاستثناء في كلام العبَّاس ليس في شيءٍ من كلامه، بل تلقينٌ، كانَّه قيل: قل يا رسولَ الله، إلا الإذخر، أما استثناء الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من كلامه السابق، ولا يضره الفصل؛ لأنَّه يسيرٌ، ولأن العبَّاس كان يرى رأْي ابنه من جواز الفصل، أو يقدَّر تكرار لفظ:(لا يُختلى شوكها)، فيكون استثناءً من المُعاد الأول، وفي بعضها:(إلا الإذخر)، مرتين]، فالثاني تأكيدٌ للأول.
وليس في الحديث حجةٌ لإفتائه باجتهاده صلى الله عليه وسلم، أو تجويز التفويض إليه؛ لاحتمال أنَّه أُوحي إليه في الحال، باستثناء الإذْخر، وتخصيصه من
العموم، أو: أُوحي إليه مِنْ قَبل: أنَّ مَنْ طَلَبَ استثناءَ شيءٍ فاستثنه، أو لما علم الضرورة استثنى؛ لأنَّها تبيح المحظور.
قال (ط): وفيه كتابة العلم خلافًا لمن كرهه، وكتابة المُصحَف، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم كُتَّابٌ يكتبون الوحي.
قال الشَّعبي: إذا سمعت شيئًا اكتُبْه، ولو في الحائط.
قال (ك): محلُّ الخلاف في غير المُصحَف، ففي "مسلم":"لا تَكتُبُوا عنِّي غيرَ القُرآن، ومَن كتَبَ غيرَ القُرآن فليَمحُه"، وكان في ذلك خلافٌ، ثم أجمعوا على الجواز بل الاستحباب، وحملوا النهي على أنَّه في حق من يوثق بحفظه، ويخاف اتكاله على الكتابة، ويحمل حديث أبي شاه على من لا يوثق بحفظه، أو كان النهي عند الخوف من الاختلاط بالقرآن، وقد أمن ذلك، أو النهي على كتابة القرآن والحديث في صحيفةٍ واحدةٍ؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارى، أو بأنَّه نهي تنزيه، أو منسوخٌ.
* * *
113 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِهٍ، عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أكثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكتُبُ، تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(عن أخيه)؛ أي: هَمَّام بن مُنبِه.
(أكثر) بالنصب، ويحتمل الرفع، وهو أفعل تفضيل، وفصل بينه وبين لفظ (من)؛ لأنَّها ليست أجنبية.
(من عبد الله بن عمرو)؛ أي: ابن العاص، وإنما قلَّت الرواية عنه مع كثرة ما حمل: لأنَّه سكن مصر، وكان الواردون إليها قليلًا، بخلاف أبي هريرة، فإنَّه استوطن المدينة، وهي مقصد المسلمين من كل جهةٍ.
والاستثناء هنا يحتمل الانقطاع، أي: لكن الذي كان من عبد الله، أي: الكتابة لم تكن مني، والخبر محذوفٌ، بقرينة باقي الكلام، سواءٌ يلزم منه أن يكون أكثر حديثًا؛ لأن الملازمة تقتضي الكثرة في العادة، ويحتمل الاتصال نظرًا إلى المعنى، أو حديثًا، وقع تمييزًا، والتمييز كالمحكوم عليه، وكأنَّه قال: حديثه أكثر من حديثي، إلا ابن عمرو، كان يكتب ولا أكتب.
والاستدلال على جواز الكتابة بفعل الصحابة إما لأنَّه حجةٌ، وإما بتقريره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
(تابعه معمر) وهي هنا ناقصةٌ؛ لذكره فيها المتابَعَ عليه، ثم يحتمل أن يكون بين البخاري ومعمر مَن سبَق، ويحتمل غيرَهم، فيكون تعليقًا، نعم، وصلها أبو بكر المَرْوَزي في "كتاب العلم" له، والبَغَوي في "شرح السنَّة".
* * *
114 -
حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَناَ كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ:"قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ"، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِّيةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ.
(ائتوني بكتاب) على حذف مضاف، أي: بأداة كتاب، من قلمٍ ودواةٍ، والمراد بالكتاب: الكتابة، فهُما بمعنى، أو أراد بالكتاب: ما من شأْنه أن يُكتب فيه، كالكاغِد والكَتف.
(اكتب) بالجزم جوابًا للأمر، ويُرفع استئنافًا، ومعنى ذلك مع كونه أميًّا إما لأن الأمي من لا يُحسن الكتابة، لا مَن لا يقدر، وقد ثبت في "الصحيح" أنَّه كتَبَ بيدِه، أو هو من المَجاز، بمعنى: أمر بالكتابة، نحو: كسَا الخليفة الكعبة، أي: أمَرَ.
(لن تضلوا) في بعضها: (لا تَضِلُّوا) بحذف النون، لأنَّه بدلٌ من جواب الأمر، وجوَّز بعضهم تعدُّد جواب الأمر من غير عاطفٍ، وهو بكسر الضاد: من الضلال، ضد الرشاد، والماضي: ضللت، بالفتح، هذا الفصيح، وأهل العالِيَة يكسرون الماضي، ويفتحون المضارع، وجاء: تضِل، بالكسر، بمعنى: ضاع، وهلك.
(حسبنا)؛ أي: كافينا، وهو خبر مبتدأ محذوفٍ.
(اللغط) بفتح اللام، والمعجمة، هو الصَّوت والجَلَبة.
(عني)، ويروى: عندي؛ أي: مبتعدين عني، بخلاف قوموا لي، نحو:{وَقُومُوا لِلَّهِ} [البقرة: 238]، لا في نحو:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، وقمت بكذا.
(الرزية)؛ أي: المصيبة، يقال: رزأَتْه، أي: أصابتْه، ويجوز تشديد الباء بإدغام، نحو: بَريَّة.
(حال)؛ أي: حجَزَ.
قال (خ): هذا يُتأوَّل بوجهين:
أحدهما: أنَّه أراد كتابة اسم الخليفة بعده، حتى لا يتنازعوا، فيؤدي إلى الضلال.
والثاني: أنَّه همَّ بأن يكتب كتابًا يرتفع به الاختلاف بعده، شفقةً على أُمته، وتخفيفًا عنهم، فلما رأى اختلافهم، قال:(قُومُوا عَنِّي).
ووجْهُ ما قال عمر: أنَّه لو زال الاختلاف بالنصِّ على كلِّ شي لعدم الاجتهاد في طلب الحق، ولاستوى الناس، وبطلت فضيلة العلماء على غيرهم، وعمر لم يتوهم قط أنَّه صلى الله عليه وسلم يقع له غلطٌ فيما يفعل بوجه من الوجوه، بل إنَّه لمَّا أكمل الله له الدين، وتمت شريعته، وقد أظلته الوفاة، وهو بعدُ يعتريه في المرض ما يعتري البشر، أشفق أن يكون ذلك القول من نوع ما يتكلم به المريض، مما لا عزيمة فيه، فيجد به المنافقون سبيلًا إلى تلبيس في الدين.
وأيضًا فقد كان صلى الله عليه وسلم يرى الصواب في الأمر فيراجعه أصحابه إلى أن
يعزم الله له على شيء، كما راجعوه في الحُدَيْبِيَة فيما كتب بينه وبين قريش، أما إذا كان أمرَ بشيءٍ، أو عزَم، فلا يُراجع فيه، ولا يخالف.
وجوَّزوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ولا يخطئ اجتهاده أبدًا.
وفيه: المريض غير مكلف، وقد سها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته حتى يشرع لأُمته، فكذا في مرضه يجوز أن يقع منه شيء، ثم يراجع عنه.
قال (ط): وفيه ما يبطل دعوى الشيعة أنَّه أوصى بما قبله منه عليٌّ؛ ويردُّه أنَّه لو كان عنده ذلك لأحال عليه رضي الله عنه.
وفيه: من فقه عمر: أنَّه خشي من أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورًا ربما عَجَزوا عنها، فاستحقوا العقوبة عليها؛ لأنَّها منصوصة، لا مجال للاجتهاد فيها، وقوله: حسْبُنا كتابُ الله، أي: لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، فقنع به، وأراد الترفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لاشتداد مرضه، فعُمَرُ أفقهُ من ابن عبَّاس، حيث اكتفى بالقرآن، ولم يكتف به.
وفيه: أنَّ الإمام له أن يُوصي عند موته، وفي تركه الكتاب إباحةُ الاجتهاد؛ لأنَّه وَكَلَهم إلى اجتهادهم، وإنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب؛ لأن القرينة قد تَصْرِف الأمر من الإيجاب إلى الندب، فأدى اجتهادهم إلى أنَّه غير واجبٍ، وخاف عُمر أن المنافقين يتطرَّقون إلى القَدْح فيما اشتُهر من قواعد الدِّين بكتابٍ يُكتب في خلوةٍ من آحادٍ، فيُضيفون إليه ما يشبِهون على الذين في قلوبهم مرضٌ، فلهذا قال: القرآن حسبنا.