الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال (ن): فيه دليلٌ لقواعد، منها: إذا تعارَض مصلحةٌ ومفسدةٌ بُدئ بالأهم من فعل المصلحة وترك المفسدة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم ترَك مفسدةَ خوف الفِتْنة من بعض مَنْ أسلَم قريبًا، ومنها فِكْر وليِّ الأمر في المصالح، واجتناب ما فيه ضرَرٌ عليهم في دينِ أو دنيا إلا الأمور الشرعية كأَخذ الزكاة، وإقامة الحُدود.
ومنها تألُّف قلوبهم، وحُسن حياطتهم، وأنْ لا يُنفَّروا، ولا يُتعرَّض لِمَا يُخاف نفرتُهم بسبَبه ما لم يكن فيه ترك أمرٍ شرعيٍّ.
* * *
49 - بابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا
(باب من خص بالعلم قومًا دون قوم)؛ أي: خلافَهم.
(كراهية) مفعولٌ لأجله مضافٌ لما بعدَه.
127 -
وقالَ عليٌّ: حَدِّثُوا النّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ.
حدثنا عبيدُ الله بنُ موسَى، عَن معرُوفٍ بنُ خَرَّبُوذٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ.
(حدثوا الناس)؛ أي: كلِّموهم على قَدْر ما يَعرفون ويُدركون بعُقولهم.
(يكذب) بفتح الذال؛ لأن السامع لمَا لا يَفهم ويَعتقد استحالتَه جهلًا لا يُصدِّقه، فيلزم التكذيب.
(عن معروف) هو ابن خَرَّبُوذ، بفتح المعجمة، وقد تضم، وتشديد الراء، وضم المُوحَّدة، وبذال معجمة، ضعَّفه ابن مَعِيْن.
(عن أبي الطُّفيل) بضم الطاء المهملة، وفتح الفاء: عامِر بن واثِلَة، وإنما أخَّر البخاري السنَد إلى عليٍّ فَرْقًا بين سنَد الحديث، وسنَد الأثَر، أو أن الأثَر تتمة ترجمةِ الباب، أو لضعْف السنَد بسبب ابن خَرَّبُوذ، أو للتفنُّن، أو لأن الأمرين جائزان، ولهذا يقَع في بعض النُّسَخ مقدَّمًا على المتن.
* * *
128 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ! "، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:"يَا مُعَاذُ! "، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، قَالَ:"مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذًا يَتَّكِلُوا"، وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتهِ تَأَثُّمًا.
(ومعاذ رديفه) جملةٌ حاليةٌ.
(على الرحل) متعلق برديفه، أي: راكبٌ خلفَه، والرَّحْل للبعير أصغر من القَتَب، ويحتمل أنَّه حالٌ من النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قال في "مَجمَع الغَرائب": ردفتُه: ركبتُ خلْفَه، وأَردفتُه: أركبتُه خلفي، وقد جمع ابن مَنْدَهْ مَن أردفَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جزءٍ نحو نَيِّفٍ وثلاثين.
(يا معاذ بن) بنصب (ابن) وضم (معاذ)؛ لأنَّه مُنادى مفردٌ، ونصبه؛ لأنَّه مع صفته كشيءٍ واحدٍ مضافٍ لما بعده.
قال (ك): إنَّه المختار، أي: كما اختاره ابن الحاجب؛ لكن مختار ابن مالك الضم.
(لبيك وسعديك) من المصادر المحذوف فعلُها وجوبًا، وثُنِّيا للتأكيد والتكثير، أي: إقامةً على طاعتك بعد إقامةٍ، وإسعادًا بعد إسعادٍ، أي: لنفْسي بإجابتك إلى ما لا يتناهى.
(ثلاثًا) راجعٌ لقول معاذ، ويحتمل أنَّه لقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا، فيكون من التنازع.
(صدقًا) لإخراج شهادة المنافق.
(من قلبه) يحتمل تعلُّقه بـ (صدقًا)؛ فالشهادة لفظيةٌ، ويتشهد، فالشهادة قلبيةٌ، ويوصف الفعل بالصدق، كالقول، باعتبار تحري كماله، قال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، أي: حقَّق ما أوردَه قولًا بما تحرَّاه فِعْلًا.
(إلا حرمه)؛ أي: منَعه، كما في:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95]، الآية، وفي معناه: حرَّم الله النارَ عليه؛ لتلازُمهما، وإن اختلفا مفهومًا، وحكم ما في القرآن من قوله تعالى:{حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة} [المائدة: 72]،: أن الجنة متصرَّفٌ فيها، بخلاف النار، فإنَّها متصرِّفةٌ، والتحريم على المتصرِّف أنسب، فرُوعيَ المناسبة في الموضعين، والاستثناء من أعم عام الصفات، أي: ما أحدٌ يشهد كائنًا بصفةٍ إلا بصفة التحريم.
(أفلا أخبر) العطف على مقدَّرٍ بعد الهمزة، أي: أقلتَ ذلك؟، فلا أخبر به، وسبق الخلاف في مثل ذلك.
(فيستبشروا) جواب الاستفهام، أو النفي، أو العرض، فلذلك حذفت النون كما في:
يا ابنَ الكرامِ ألا تدنو فتبْصرَ ما
وعند أبي الهيثم: (فيستبشرون)، بالنون، كأنَّه قصد مجرد العطف، كما في:{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]، والبشارة هي الخبر الأول السَّارُّ الصادق؛ لظهور أثر السرور فيه على البشَرة.
(إذن) جوابٌ وجزاءٌ، أي: إن أخبرتهم.
(يتكلوا)؛ أي: على مجرَّد الشهادة من غير أن يعملوا الصالحات، وأصل الاتكال: اوْتِكَال، فقُلبت الواو تاءً، وأُدغمت في تاء الافتعال، ورواية الكُشْمِيْهَني:(يُنكِّلوا) من النَّكال.
(موته)؛ أي: موت معاذ، أي: قبل ذلك، أو موت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بعده.
(تأثمًا)؛ أي: تجنُّبًا للإثم، أي: إثم كِتمان ما أَمر اللهُ تبليغه، قال تعالى:{وَلَا تَكْتُمُونَه} [آل عمران: 187]، وهذا مما أورد أنس في الرواية؛ فإنَّ الحديث منسوبٌ لرواية أنس، إلا أنَّه إذا كان المراد أنَّه أخبر بذلك أنَسًا، فيصير الحديث من رواية معاذٍ، فبالجُملة فهو جوابٌ لمقدَّر، أي: لم خالَفَ مُعاذٌ نهيه صلى الله عليه وسلم، وأخبَر، فأجاب بالخوف من الكتْمان الإثمَ، وليس فيه مُخالفةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهيه مقيَّدٌ بالاتكال؛ إذ كانوا حَديثي عهد بالإسلام، فلما زال القيْدُ، وثبتوا، وصاروا حريصين على العبادة؛ لم يبقَ نهيٌ، أو أن النهي لم يكُن للتحريم، أو أنَّه كان قبل وُرود الأمر بالتبليغ، والوَعيد على الكِتْمان، أو المراد أنَّه لا يُخبر بها العوام؛ لأنَّه من الأسرار الإلهية التي لا يجوز كشفها إلا للخواصِّ، ولهذا أخبر به صلى الله عليه وسلم من يَأْمَن عليه الاتكالَ، فَسَلَكَ معاذٌ ذلك، ولم يُخبر به إلا مَن رآه أهلًا لذلك، ولا يبعُد أن نداءه معاذًا ثلاث مراتٍ كان للتوقُّف في إفشاء هذا السرِّ عليه أيضًا.
واعلم أنَّه ليس في الحديث عُلْقةٌ لا للمُرجئة، ولا لغيرهم في التجاسُر على المُحرَّمات من إراقة الدماء، ونهب الأموال، أو نحو ذلك؛ لأن هذا قبْل نُزول الفرائض، فمن أتى به أتى بما وجب عليه، وقيل: الشَّهادة مِن صدق القَلْب إنما هي بأَداء حُقوقها، أو أنَّ الكافر
إذا تشهَّد بذلك، ومات قبل أن يتمكن من العمَل، حرَّمه الله على النار، أو هو لمن قالَها توبةً وندَمًا، ومات عليها، أو أنَّ ذلك معارَضٌ بنُصوص عذاب العصاة.
وقال (ط): معناه: حرَّم الله خُلوده في النار؛ لحديث: "أَخرِجُوا من النَّار مَن في قَلْبه مِثْقالُ حَبَّةٍ من إيمانٍ".
وفيه جواز تخصيص ذي الضبط والفهم بالمعنى اللَّطيف من العِلم دون من يُخاف عليه لقُصور فهمه.
قال (ك): وفيه جواز ركوب اثنين على دابةٍ، وبيان منزلة مُعاذ، وتكرار الكلام، والاستِفسار من الإمام.
واعلم أن هذا يدلُّ على تخصيص واحدٍ، فكيف يُطابق الترجمة مطابقة؟
وجوابه: أنَّه في المعنى لا فرقَ؛ إذ إنَّ أنَسًا سمع أيضًا، والطائفة تكون من اثنين، أو أنَّ مُعاذًا نُزِّل مَنْزلة طائفةٍ، كما في:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، وقد قال ابن مَسعود في قولهم: كان مُعاذ أمةً قانِتًا، كنَّا نشُبِهه بإبراهيم عليه السلام.
* * *
129 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللهَ
لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا".
وبالسند إلى المؤلف:
(سمعت أبي)؛ أي: سُليمان بن المعتمِر.
(ذكر لي) لا يقدح في صِحَّة الحديث ذلك؛ لأن المتْن ثابتٌ من طريقٍ آخر، وأيضًا فأنَسٌ لا يروي إلا عن عدلٍ، صحابيٍّ أو غيره، فلا تضرُّ الجهالة هنا، وأيضًا فيُغتفَر في المتابعة ما لا يُحتمَل في الأُصول، نعم، يحتمِل أن معاذًا صاحب القصَّة.
(لا يشرك) إنما لم يقل: لم يشرك، حتى يعتبر ذلك في الدنيا؛ لأن الإشراك لا يُتصور في القيامة؛ لمَحلِّ الاستصحاب؛ لعدم إشراكه في الدُّنيا، أو المراد: بلقاء الله الموت، أي: لا يُشرك عند موته.
وإنما لم يذكر: محمدٌ رسول الله؛ لأنَّه مِن لازم عدَم الإشراك، فهو نحو: مَن توضَّأ صحَّت صلاتُه، أي: عند وُجود سائر الشُّروط، فالمراد: من لقِيَ الله موحِّدًا بسائر ما يجب الإيمان به، أو أنَّه صلى الله عليه وسلم علم أنَّ من الناس من يعتقد أن المُشرِك يدخُل الجنة، فردَّ اعتقادَه بذلك.
(دخل الجنة)؛ أي: وإن لم يعمل صالحًا، إما قبل دخول النار، أو بعده بفضل الله وعفوه.
(لا)؛ أي: لا تبشِّر، ثم استأنف فقال:(أخاف) فلم يُدخل (لا) على (أخاف).
* * *