الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه إثبات الحساب، والعرض، والعذاب، والتناوب فيه، وجواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب.
* * *
37 - بابُ لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب)، (العلم) مفعولٌ ثانٍ (ليُبلِّغ) قُدم على الفاعل.
(قاله ابن عبَّاس) كذا علَّقه هنا، ووصلَه في (الحج)، بدون لفْظ:(العلم)، فقصد هنا المعنى.
* * *
104 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ -وَهْوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ-: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْح، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ الله وَأثنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم -
فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ الله قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نهارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"، فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَناَ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
الحديث الأول:
(لعمرو بن سعيد)؛ أي ابن العاصي القُرشي الأُموي، أبي عُثمان المدَني.
(الأمير) الملقب بالأَشدق، خرج على عبد الملك، فخَدعه، وأَمَّنه، ثم قتله صبرًا سنة سبعين.
(البعوث) بضم المُوحَّدة، جمع بعث، بمعنى: مَبعُوث، وهو الجند المرسَل لموضعٍ، فكان بيعتهم لقتال ابن الزبير بمكة.
(قام به) صفةٌ لـ (قولًا)، أو معناه: قال به.
(الغد)؛ أي: ثاني يوم الفتح.
(سمعته أذناي) إلى آخره، للتأْكيد والمُبالغة في حفْظه وتيقُّنه.
(حين) ظرفٌ لـ (قام)، وما بعده.
(حمد الله) إلى آخره، بيان لقوله:(تكلم به)، أي: بالقول.
واعلم أن تأنيث الفعل في (سمعت) و (أبصرت)؛ لأن ما في الإنسان من الأعضاء اثنين، فهو مؤنثٌ بخلاف القَلْب والأنف ونحو ذلك.
(حرمها الله) يحتمل كل محرم فيها، أو سفك الدماء، وعضد الشجر؛ لأنَّها المذكورة بعده، وأما حديث:"إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرَّم مكَّة" فمعناه: أنَّه بلَّغ تحريم الله وأظهره بعد أنْ كان لمَّا رُفع البيت المعمور إلى السماء وقت الطُّوفان، واندرس، ونُسي، وإلا فهي محرمةٌ من يوم خلق الله السماوات.
(ولم يحرمها الناس)؛ أي: أنَّه بوحي لا باصطلاح الناس.
(لامرئ) عينه تابعةٌ للامه في الإعراب، وهو من النوادر، كما سبق.
(يؤمن بالله واليوم الآخر)؛ أي: القيامة، إشارةٌ إلى المبدأ والمَعَاد، وكلُّ ما يجب الإيمان به لا يخرج عنهما، وليس في ذلك أن الكفار غير مخاطبين بفُروع الشريعة؛ لأنَّه من باب التَّهييج، وأن الذي ينقاد للأحكام وينْزجر هو المؤمن، أو الإيمان هو العِلَّة في عدَم مخالفة أمر الله.
(يسفك) بكسر الفاء في المشهور، وحكي الضم، فروي بهما، والإشارة به إلى القتل.
(ولا يعضد) بالكسر، أي: يُقطَع، قال (ك): إنَّه مثل يسفك، أي: فيكون فيه الضم أيضًا، و (لا) زيدت توكيدًا، وهذا يشمل ما يستنبته الآدمي وغيره، والثاني وفاقٌ، وفي الأول اختلافٌ.
(فإن أحد) مرفوعٌ بفعلٍ محذوف مفسَّر بما بعده، ونحو:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]، والحذف واجب؛ لئلا يجمع بين المفسِّر والمفسَّر.
(ترخص) الرخصة: ما غير من الحكم تخفيفًا لعذر، مع قيام الموجب للأول لولا العذر.
(لقتال) تعلَّق به مَن قال: فُتحت مكة عنوةً، أي: قهرًا، وجوابه عند القائل: فُتحت صُلْحًا: أن المعنى ترخَّص بحل القتال؛ لأنَّه أُحلَّ له ساعة، ولا يلزم من حل الشيء وقوعه، نعم، هو صلى الله عليه وسلم دخلها متأَهبًا لو احتاج للقتال لقاتَل، ولا يعرف أنَّه صلى الله عليه وسلم نصب لهم حَرْبًا، فطعَن برُمحٍ، أو رمى بسهمٍ، أو ضرب بسيفٍ، ونحو ذلك، وأما قتْل مَنِ استحق القَتْلَ خارجَ الحرم في الحرم، فليس من معنى القتال في شيءٍ.
(أذن) مبنيٌّ للمفعول، ويروى أيضًا بالبناء للفاعل.
(لي) ليس عذر له عن قوله له من الالتفات؛ لأنَّه حكايةٌ لقول المترخص، وهذا جوابه، وقضية الالتفات اتحاد السياق، إلا أن تقدر، فإن ترخص أحدٌ بقتالٍ فوضع لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يجعل التفاتًا.
(ساعة)؛ أي: مقدارٌ من الزمن في يوم الفتح.
قلتُ: وفي كتاب "الأموال" لأبي عُبيد: أن المعنى هذه الساعة من الغَداة إلى العصر، نعم، حِلُّ عَضْد الشجر، لا يُعرف في ذلك اليوم.
(حرمتها)؛ أي: تحريمها المقابل للإذن.
(اليوم) الظاهر المراد به الزمان الحاضر، سوى اليوم المعهود، وهو من الطلوع إلى الغروب، أو أكثر منه، ويكون الأمس ما قبل
ذلك، ويحتمل أن يُراد اليوم المعروف، يعني: يوم الفتح؛ لأن العود كان فيه لا في غيره، فاللام للعهد، وكذا العهد في الأمس.
(ما قال لعمرو)؛ أي: في جوابك.
(لا يعيذ)؛ أي: لا يعصم، وأوله مُثنَّاة إن عاد الضمير لمكة، وياء إن عاد للحرم.
(عاصيًا) أي: كالظالم.
(فارًّا بدم)؛ أي: ملتجئًا بالحرم أن لا يقتص منه.
(بخربة) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وبمُوحَّدةٍ على المشهور، ويُقال بضم المعجمة، وبكسرها: السَّرِقة، وأصلها سَرِقة الإبل، وتُطلق عَلى كل خيانةٍ، وقال الخَليل: الفَساد، قال الشاعر:
والخارِبُ اللِّصُّ يُحبُّ الخارِبَا
وفي بعض الروايات -بعد: بخربة- (يعني: السرقة)، وفي بعضها:(خيانة، وبلية)، وفي بعضها:(يجزيه)، بالجيم المكسورة، والزاي، وبياء.
قال (ط): من روى بالضم أراد الفساد، وبالفتح أراد السرقة، وقال: اختلفا في تأْويل الحديث، فأبو شريح حمله على العموم لظاهر الحديث، ونهى عمرًا عن إرسال الخيل إلى مكة، وابن الزبير أولى بالخلافة من يزيد بن عبد الملك؛ لأنَّه بُويع قبله، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل عمرو الحديث على الخُصوص، بدليل أنَّ من أصاب حدًّا ثم لجأ إلى الحرم لا يُعصم، ولكن ليس هذا موضع
خلاف أَبي شُريح، إنما مراده: بعث الخيل، ونصب القتال، والحرب عليها، فحادَ عمْرو عن هذا، وجاوبَه على غير سؤاله، وقد اختُلف في العمل بتأويل الصحابي ما رواه؛ لأنَّه أعلم بمخرجه وسببه، أو لأنَّه هو وغيره سواءٌ في الاجتهاد فيه.
قال: وفي الحديث وجوب إنكار العالم على الأمير إذا غير شيئًا من الدين، وإن لم يسأل عنه.
وقال الطِّيْبِي: قول عمرو: أنا أعلم منك، أي: بموقع الحديث وإنْ كان سماعُك وضبْطه صحيحٌ في معنى المقاتلة، ولكن الذي أنا بصدَده إنما هو قتْل من استحقَّ، والتَجأَ إلى الحرَم، فصح جوابه له، على خلاف ما سبق عن (ط).
وقال (خ): ظاهر الحديث تحريم الدماء كلها، بحق وبغير حق، ويؤكده:(وإنما أُذِنَ لي ساعةً)، أو ليس المراد أنَّه أُبيح له دم كان حرامًا عليه، لا في ذلك اليوم ولا غيره، وقد التزم قوم ذلك في الجاني إذا فرَّ إلى الحرم لا يُقتص منه حتى يخرج، نعم، إن كان ما جناه في الحرَم اقتُصَّ منه.
وفي "الأحكام السلطانية" للماوردي عن بعض العلماء: أن البُغاة إذا كانوا في الحرم لا يُقاتَلون فيه، بل يُضيَّق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، وقال الجمهور: يُقاتلون حتى يُردُّوا عن بغيهم؛ لأنَّه حق الله تعالى فلا يضيع، فحفظها في الحرَم أَولى من إضاعتها.
وقد نص الشافعي في "اختلاف الحديث" من "الأم" على جواز
قتالهم، وقال القَفَّال في "شرح التلخيص" -أول النكاح-: لا يجوز القتال بمكة، حتى لو تحصن بها كفارٌ لا يُقاتلهم، قال (ك): وهو بعيدٌ.
قال: وفي الحديث أيضًا رعاية الرفق على الأمير، فإنَّه استأذن في الحديث، وذكر توكيداتٍ في كلامه، وتقديم الحمد، وشرَف مكة، وإثبات القيامة، واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم، وجواز القياس على الرسول لولا العلم بخصوصيته، وجواز الفَسْخ، أو نَسْخ الإباحة للرسول بالحرمة، وجواز المجادلة، ومخالفة التابعي للصحابي بالاجتهاد.
* * *
105 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَال:"فَإِنَّ دِمَاءكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ"، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ: "أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ"، مَرَّتَيْنِ.
الحديث الثاني:
(عن أبي بكرة) يريد أن عبد الرحمن بن أبي بكرة نُفيع يروي ذلك عن أبيه، قال الغساني في كتاب "تقييد المهمل": وفي بعض
النُّسَخ: (عن محمد، عن أبي بكرة)، وفي بعضها:(محمد بن أبي بكرة، عن أبي بكرة)، وكلاهما وهمٌ فاحشٌ.
(ذكر)؛ أي: ما يأتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذِّكر الذي يكون بعد النِّسيان.
(إن دماءكم) عطف على ما سبق من الحديث بطوله في (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ): أي يوم هذا؟ فسكتنا، إلى أن قال:"فإن دماءكم"، ويسمى هذا الخرم كما سبق، وسببه هنا الاقتصار على المقصود، وهو بيان التبليغ.
(قال محمد)؛ أي: ابن سيرين.
(وأحسبه)؛ أي: أظن ابن أبي بكرة زاد في الرواية.
(وأعراضكم) فهو عطف على (دماءكم)، والجملة معترضة بين اسم (إن) وخبرها، وظنه ذلك في رواية أيوب عنه، وجزمه هنا في رواية ابن عون عنه، إما لأن الظن متقدم، ثم حصل الجزم، وإما لأن الجزم متقدم، ثم حصل تردد وظن.
(عليكم) معناه مالُ بعضٍ حرام على بعضٍ، لا أنَّ مال الشخص حرامٌ عليه، يدلُّ على ذلك العقل، ويؤيده رواية:(بينكم) بدل (عليكم)، والمراد بالعِرْض الحسَب، وهو وإن كان يُطلق على النفْس لكن ليس مرادًا هنا؛ لئلا يلزم تكرار الأَعراض مع الدماء، كما قاله البَغَوي.
وقال الطِّيْبِي: الظاهر من الأعراض الأخلاق النفسانية.
(كان ذلك) بيانٌ لقوله: (صدق)، لكن الإشارة إن كانت لقوله:(ليبلِّغ)، فهو أمر، والتصديق إنما يكون للخبر، إلا أن تكون الرواية:(ليبلَّغ) بفتح اللام، والرفع، فيبقى خبرًا، أو أن الأمر معناه الخبر، وأن المراد الإخبار بأنَّه سيقَع التبليغ، فتصح الإشارة إليه، ويحتمل أن الإشارة إلى ما في آخر الحديث من قوله:(عَسَى أنْ يُبلِّغ مَن هو أَوْعَى منه)، أو إلى قوله:(ألا هل بلغت)، أي: وقع التبليغ كما في قوله: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78].
(ألا هل بلغت) بالتخفيف في (ألا)، أي: ألا يا قوم، هل بلَّغتُ؟ أي: امتثلت قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67].
(مرتين) متعلِّقٌ بـ (قال) مقدَّرةٍ، أي: قال صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين، وإنما لم يجعل تتمة (قال) المذكورة، ويكون: (وكان محمد
…
) إلى آخره، جملةً معترضةً = لئلا يلزم أنْ يكون مجموع هذا الكلام مقولًا مرتين، ولم يثبت ذلك.
وفي الحديث بيان حرمة القتل، والغَصْب، ونحوه، والغِيبة، وفيه تكرار الكلام للتوكيد.
وسبق بيان أمورٍ أُخرى في الحديث في الباب المذكور.
قال (ط): لما أخذ الله تعالى الميثاق على أنبيائه بتبليغ دينه لأُممهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وجب عليهم التبليغ والنَّشر، حتى يظهر الدِّين على جميع الأديان، وكان في زمنه فرض عين،