الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه خطوات الصرف، وشراء الذهب عن طريق أسواق العملات، ومن المعلوم أنه لا يتم بينهما تقابض فعلي للنقود، ولا للذهب محل العقد في نفس اليوم الذي يجري فيه التعاقد، وإنما يقتصر الأمر وقت التعاقد على تقييد الحقوق حسابيًا لدى كل منهما، أما التسليم والتسلم للنقود فإنه يتأخر لمدة لا تقل عن يومين بعد تنفيذ العملية، فإذا كان التعاقد يوم الثلاثاء فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس، ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق
(1)
.
فهل هذا الإجراء يتماشى مع أحكام الصرف الإسلامي في الشريعة الإسلامية؟
وللجواب على هذا السؤال نقول:
أما من يرى جواز الاتجار بالعملات شراء وبيعًا، فالحكم عنده مبني على حكم مسألة أخرى سبق بحثها في المسألة السابقة، هل القيد المصرفي يعد قبضًا في الصرف أ م لا؟
فمن قال: إن القيد المصرفي لا يعد قبضًا، وأن المطلوب هو القبض الحقيقي، وليس القبض الحكمي، فهو يرى تحريم مثل هذه المعاملة.
ومن اعتبر القيد المصرفي يقوم مقام القبض الحقيقي، رأى صحة هذه المعاملة، وبه أخذ أكثرية المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي
(2)
، ومجمع
(1)
انظر كتاب (تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي) ص: 274. وانظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/ 1/ص: 241).
(2)
انظر: قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، الدورة الحادية عشرة، القرار رقم (7) ص:41.
الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي
(1)
، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(2)
، وندوة البركة الثانية عشرة
(3)
، وعليه أكثر الباحثين في هذا العصر
(4)
.
وقد ذكرنا أدلة كل قول من هذه الأقوال في المسألة التي قبلها، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت أن القيد المصرفي يعتبر قبضًا بشروط:
الأول: أن يكون الذهب أو العملة التي تم شراؤها موجودة في البنك بقدر المبلغ المقيد للطرف الآخر، وذلك لئلا يكون من بيع ما لا يملك، وقد يقع كثيرًا أن تبيع المصارف كميات من الذهب أو العملات الأخرى دون أن يكون عندها المقدار المشترى، وذلك لعلمها أن المشتري لا يطلب استلام ذهبه، أو عملته التي اشتراها؛ لأنه يعتمد على القيد المصرفي فقط، فعلى هذا تكون المصارف قد باعت ذهبًا أو عملة غير مملوكة لها، فضلًا عن أن يكون موجودًا لديها. وعلى هذا لا يعتبر القيد المصرفي قبضًا شرعيًا، بل هو وسيلة خداع.
(1)
مجملة مجمع الفقه الإسلامي (6/ 1/ص: 771 - 772).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة 13/ 503).
(3)
فتاوى ندوات البركة (ص: 208).
(4)
انظر القبض تعريفه، أقسامه، صوره وأحكامه - سعود الثبيتي (ص: 62)، القبض الحقيقي والحكمي - نزيه حماد، مطبوع ضمن مجلة مجمع الفقه الإسلامي (6/ 1/733)، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية - سامي حسن حمود (ص:313)، التخريج الفقهي للقيد المصرفي - عبد الله الربعي (ص: 5)، القبض وأحكامه لنفس المؤلف (1/ 103)، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (5، 2، 26)، ومجلة البحوث الإسلامية، العدد (8). وقال الشيخ يوسف الشبيلي في كتابه (الخدمات الاستثمارية في المصارف) (2/ 39):«قبض الشهادة الاستثمارية في قوة قبض الشيك المصدق، والقبض بالقيد المصرفي، وتكاد تتفق كلمة العلماء المعاصرين على أن القبض بهذين يعد قبضًا كافيًا في الصرف» . وانظر (2/ 370) من الكتاب نفسه.
الثاني: أن يتم التقييد قبل مفارقة أحد طرفي العقد الآخر.
الثالث: ألا يكون هناك تأجيل في التسليم الفعلي للذهب أو للنقود بأكثر مما يتطلبه إجراء عملية إنهاء متطلبات التسوية، فإذا كان من الممكن إنهاء التسوية خلال يومين فلا يؤخرها أكثر من ذلك، أما إذا كان التأجيل بسبب إنهاء متطلبات التسوية فلا يضر، ولو تأخرت المدة؛ لأن القبض قد تحقق بالقيد، لا بتسليم النقود أو الذهب، وإلى هذا أشار قرار مجمع الفقه الإسلامي، فقد ورد فيه ما نصه:«ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسليم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل»
(1)
.
وأما من يرى كراهية الاتجار في العملات بيعًا وشراء فإن المنع عنده لا يقوم على أساس حكم القبض، وهل يقوم القبض الحكمي في القيد المصرفي مقام القبض الحقيقي، وإنما مأخذ الكراهة عنده وهو: تغير طبيعة وظيفة النقود، فالنقود ليست سلعة يتجر فيها مثل بقية السلع، وخاصة النقود الورقية التي لا يمكن تحويلها إلى سلعة اقتصادية مثل الذهب والفضة اللذين يمكن شراؤهما كسلع لاستخدامهما موادًا أولية لصناعات مختلفة، وبالتالي: الخروج بالنقود عن طبيعتها التي جعلت لها، والتي من أجلها تم قبولها، وهي: أنها أداة للدفع ووسيلة للتبادل.
يقول ابن القيم: «الثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي (6/ 1/ص: 772).
به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر، وحصل الظلم ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس»
(1)
.
ولأن الأثمان إذا قصد بها التجارة بأعيانها، وصارت سلعة أدى ذلك إلى قلتها في أيدي الناس، فيتضرر بذلك عموم الناس
(2)
.
يقول الدكتور محمد بن عبد الله الشباني: الاتجار في العملات بيعًا وشراءً بقصد الربح، وليس بقصد استخدامها من أجل تمويل الاستيراد والتجارة في السلع: مكروه، وقد يصل إلى الحرمة؛ للأمور التالية:
1 -
التوسع في البيع والشراء في أسواق العملات العالمية أدى إلى هروب أموال المسلمين إلى الدول الكافرة، وهذا الاتجار لا يهدف إلى الحصول على سلع وخدمات يحتاجها المسلمون، ولكنه بقصد المضاربة لتحقيق الربح؛ مما أدى إلى ضياع فرصة الاستفادة من هذه المدخرات التي يتم استخدامها في الاتجار في العملات الأجنبية، والقاعدة الشرعية تقول: عند اجتماع المصالح مع المفاسد، فإذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة: درأنا المفسدة، ولو تأتى ذلك بفوات المصلحة، والمصلحة الفائتة هي ما يمكن أن يحققه المتاجر في العملات في أسواق العملات الأجنبية من أرباح، لكن مفسدة تسرب أموال
(1)
إعلام الموقعين (2/ 156).
(2)
انظر حاشية العدوي (2/ 183).
المسلمين من بلاد المسلمين وعدم استغلالها فيما فيه منفعة ومصلحة للاقتصاد يحقق مفسدة أكبر من المصلحة التي قد يحققها المتاجر في العملات، يقول تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فحرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
2 -
أن خروج الأموال من بلاد المسلمين بقصد الاتجار بالعملات الأجنبية للدول الكافرة يحدث أضرارًا بميزان المدفوعات للبلاد الإسلامية؛ حيث إن هذا الخروج لا يقابله سلع ولا خدمات تفيد اقتصاد الدول الإسلامية، بل إن ذلك يمثل تهريبًا لفائض الإنتاج المحلي وضخه لصالح القوى الأجنبية، وفي هذا تعاون على الإثم بإضعاف اقتصاديات الدول الإسلامية وحرمانها من الأموال التي يمكن لو تم استثمارها في مجالات إنتاجية أن تزيد الناتج القومي وتسهم في تشغيل القوى العاملة العاطلة ..... ثم بين الشيخ أن شراء العملات من المصارف بقصد تمويل عمليات الاستيراد، وليس بقصد تحقيق الربح من خلال الاتجار فيها: فهذا أمر جائز؛ لأن ذلك بقصد تحقيق التبادل السلعي والخدمي، وهي الوظيفة الأساسية التي من أجلها جعلت النقود، ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، الذي رواه أبو داود والنسائي، جاء فيه:(أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، قلت: يا رسول الله: رويدك، أسألك، إني أبيع بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، و أعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)، فهذا الحديث يوضح دور التصارف وتبادل النقود بعضها ببعض من أجل تيسير التجارة؛ حيث إن القصد من ذلك: إتمام عمليات التبادل السلعي، وبالتالي: فإن شراء العملة الأجنبية بسعر يومها عند فتح الاعتماد، أو سداد قيمة السلعة
الواردة عند وصول البضاعة بسعر فتح الاعتماد وبسعر سداد قيمة الاعتماد: هو ما يمكن أن يقاس على حديث ابن عمر رضي الله عنهما
(1)
.
ولا شك أن القول بالكراهة متجه للأسباب التي سبق ذكرها، ولأن الاتجار اليوم في العملات بيعًا وشراء عن طريق البورصة فيه محاذير لا يحسن السلامة منها إلا رجل أعطي فقهًا وورعًا.
(1)
انظر الربا والأدوات النقدية المعاصرة، للدكتور محمد بن عبد الله الشباني، بحث منشور في مجلة البيان، العدد (101) (ص: 34).