الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية، والملح، والجلود، وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران، وازدادت الحاجة، وكثرت المبادلات شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، ويتوفر ثقة الناس فيه، وبهذه انتهت المرحلة الثانية في تاريخ النظام النقدي لتبدأ المرحة الثالثة.
المرحلة الثالثة:
في هذه المرحة توجه الناس إلى استخدام الذهب والفضة كأثمان في المبادلات لقيمتها ا لذاتية في صنع الحلي، والأواني، ولسهولة حملها، وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارًا للقيمة يعتمد الناس عليها في جميع البلاد والأقطار، وقد مر على هذا النظام تطورات كثيرة، نستطيع أن نلخصها بما يلي:
في بداية استخدام الذهب والفضة كأثمان كان الناس يستعملونهما على شكل قطع متباينة الحجم، والوزن، والنقاء، سواء كانت تبرًا، أو مصوغة في صورة الحلي، أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بها يتم بالوزن.
ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها، وقابليتها للتداول، وكانت قيمة القطعة الاسمية مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة.
وجد الناس أن القطع النقدية سواء كانت من الذهب أو الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في
نفس الوقت، فكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فبدأ الناس في أوربا في القرن السابع عشر يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة على أساس أن هؤلاء الصياغ يملكون خزائن بعيدة عن السرقة والضياع في نظير أن يعطيهم هؤلاء الصاغة شهادة، أو إيصالًا بما أودعوه بدقة، ويتعهدوا برد هذه المعادن عند الطلب.
ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البيعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا يسلم إلى البائع سندًا من هذه الإيصالات بعد تظهيره للغير وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها.
ثم تطور الأمر وأصبحت هذه الإيصالات متشابهة بحيث انتفى تدوين اسم مودع السبائك عليها، فأصبحت تتداول بدون تظهير، بل بمجرد التسليم مع بقاء تعهد الصاغة بالوفاء بها عند الطلب بسبائك ذهبية.
هذه هي بداية الأوراق النقدية، فهي في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم بقبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها.
وحين كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى (البنكنوت) ويقال: إن بنك استاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية. وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مئة في مئة، وكان البنك يلتزم ألا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من الذهب، وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب.
وفي مرحلة ثالثة تبين لأصحاب الصاغة أن الإيصالات التي أصدروها لم تكن في غالب الأحيان ترجع إليهم ليصرفوا قيمتها بالمعادن، وإنما جزء يسير من حملة هذه الأوراق يقوم بذلك، وهذا ما دفع أصحاب الصاغة رغبة في الربح أن يصدروا من الأوراق ما يجاوز قيمة العملة المعدنية المحتفظ بها لديهم كغطاء.
وحينئذ اضطرت السلطات العامة للتدخل، وتكليف مؤسسات ذات طبيعة خاصة (مؤسسات الإصدار أو المصارف المركزية) باحتكار إصدار هذه النقود، وإحكام رقابتها.
وقد تبين للسلطات في ذلك الوقت أنه من الصعوبة المحافظة على مثل هذه التغطية الذهبية الكاملة للنقود الورقية في المدى الطويل، فاحتياجات النمو الاقتصادي وتمويل المشاريع في السلم والحرب تتطلب زيادة مستمرة وملموسة في كمية النقود المتداولة، بينما الرصيد الذهبي ينمو بمعدلات ضئيلة بفعل القيود الطبيعية، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المئة بالمئة إلى نسبة أدنى بكثير، وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وقد قبلها الناس رغم أن هذه الأوراق لم تكن مدعومة بالكامل بالذهب نتيجة ثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده، وإن هذه الأوراق النقدية كانت تسمى نقود الثقة.
بدأت نقود الثقة تتزايد إلى حد أن الأوراق بلغت أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، مما حمل إنكلترا إلى تعطيل تحويل هذه الأوراق إلى
الذهب بعد حرب عام 1914 م. ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925 ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني، تنفعهم في متاجراتهم الأهلية.
وفي عام 1931 م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لو كان الطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم، ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلًا أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى إنكلترا، فإن إنكلترا ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب، وإن هذا النظام يسمى: قاعدة التعامل بالذهب.
ظل هذا العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971 م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب حتى للدول، وذلك في تاريخ 15 من شهر أغسطس، سنة 1973، وبهذا قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وأصبحت هذه النقود مجرد قصاصة ليست لها قيمة ذاتية كسلعة، وإنما تعتبر قوة شرائية بناء على ثقة الأفراد فيها، وأَمْرِ القانون، فاكتمل بذلك تطور النقود الورقية، حتى أصبحت نقودًا ائتمانية خالصة، بحيث أصبحت النقود الورقية تمثل الصورة العامة للنقود في الاقتصاد المعاصر. فهي نقود قانونية، يصبغ عليها القانون صفة الشرعية، ولها القدرة على تسوية الديون، والإبراء منها، وهي تمثل قمة السيولة، حيث يمكنها أن تتحول مباشرة إلى سلع وخدمات
بحسب قوتها الشرائية، أو يحتفظ بها كما هي، وهي أيضًا نقود نهائية أي لا تتحول إلى ذهب، فلا يجوز لحاملها تقديمها إلى المصرف المركزي لتحويلها إلى ذهب أو فضة، وإنما ذلك هو مجرد أثر تاريخي فحسب، والشكل الأساسي لهذه النقود يتمثل في أوراق البنكنوت التي تصدرها البنوك المركزية، ولها وحدة قياس خاصة بكل قطر، وتخضع لرقابة المصرف المركزي والحكومة، وتحدد كميتها طبقًا للسياسة النقدية المتبعة، واتفاقًا مع حاجة المعاملات والمبادلات، وهذا يعني القدرة على تغير كميتها حسب ظروف الزمان والمكان
(1)
.
وبهذا نكون قد عرفنا أن النظام النقدي في العالم لم يكن قائمًا على طور واحد في حقيقتها، ومكانتها النظامية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى، تنقلت فيها من كونها سندات للديون في مبدأ أمرها إلى أن تحولت إلى أثمان عرفية وبهذا نعرف أن الخلاف الفقهي في تكييفها لا يرجع إلى خلاف حقيقي، وإنما يرجع إلى الحكم عليها من خلال مراحل نموها وتطورها، فالذي يقول مجرد وثيقة بدين فذلك يرجع إلى بداية نشأتها، ومثله الذي يقول: إنها قائمة مقام الذهب والفضة باعتبار أنها كانت في مرحلة من تاريخها مغطاة بالذهب والفضة، وأما الذي يرى أنها أثمان عرفية قائمة بذاتها، حكم عليها بالنسبة لمآلها التي آلت إليه. وبعد هذا الموجز التاريخي للأوراق النقدية نريد أن نعرف حكم جريان الربا فيها بناء على فهم حقيقتها، وهذا ما سوف نتعرض له إن شاء الله تعالى في المبحث التالي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
* * *
(1)
انظر بحوث في قضايا فقهية معاصرة - الشيخ محمد تقي العثماني (ص: 148 - 154)، النقود الائتمانية - إبراهيم بن صالح العمر (ص: 38 - 40)، مجلة البحوث الإسلامية، بحث بعنوان: حكم الأوراق النقدية - للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، العدد الأول (ص: 197 - 222).