الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجواب على ذلك:
التبس الأمر على المشايخ مسألة الإلزام بالوعد بالمعروف في مسألة الإلزام بالمواعدة في باب المعاوضة، والمسألة الأولى مختلف فيها، بينما المسألة الأخرى متفق على منعها بين المذاهب.
يقول الدكتور الصديق الضرير: «الوعد الذي وقع الاختلاف فيه بين المالكية وغيرهم، فقال المالكية بالإلزام به ديانة وقضاء، وقال غيرهم: بالإلزام به ديانة لا قضاء، هو الوعد بالمعروف من جانب واحد، كأن يعد شخص آخر بأن يدفع له مبلغًا من المال، ومسألتنا هذه ليست من هذا القبيل؛ لأن الوعد فيه من أحد الطرفين، يقابله وعد من الطرف الآخر، فهو أقرب إلى العقد منه إلى الوعد، وينبغي أن تطبق عليه أحكام العقد.
ثم إن الوعد الملزم الذي يجب الوفاء به ديانة وقضاء، أو ديانة فقط هو الوعد الذي لا يترتب على الإلزام به محظور، والإلزام بالوعد في بيع المرابحة يترتب عليه محظور، وهو بيع الإنسان ما لا يملك»
(1)
.
ويقول الشيخ سليمان بن تركي التركي: «بنى بعض الباحثين القول بالإلزام بالمواعدة في المعاوضات على ما سبق من مذهب الإمام مالك في الإلزام بالوعد إذا دخل الموعود بسبب الوعد في كلفة، وهذا غير صحيح؛ لأن المقصود بالوعد لدى الفقهاء المتقدمين، وما سبق عرضه من الخلاف في الإلزام به إنما هو الوعد بالمعروف دون الوعد بالمعاوضة»
(2)
.
(1)
الصديق الضرير، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/ 2/1001).
(2)
بيع التقسيط وأحكامه (ص: 465).
جاء في القاعدة التاسعة والستين من قواعد الونشريسي: «الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية»
(1)
.
وجاء في شرح هذه القاعدة: «ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة، وعلى بيع الطعام قبل قبضه، ووقت نداء الجمعة، وعلى ما ليس عندك»
(2)
.
وأما الإلزام بالوعد عند بعض المالكية فهو ما كان من قبيل المعروف، ولذلك قال الحطاب رحمه الله:«مدلول الالتزام لغة: هو إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازمًا، وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة، والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: هو إلزام الشخص نفسه شيئًا من المعروف مطلقًا، أو معلقًا على شيء، فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك، وهو: إلزام المعروف بلفظ الالتزام، وهو الغالب في عرف الناس اليوم»
(3)
.
فإذا صح ذلك لم يكن سائغًا أن يجعل كلام بعض المالكية في وجوب الوفاء بالوعد في باب المعروف بوجوبه في المواعدة، وفي باب المعاوضات، والوعد الملزم المتفق عليه بين المشتري والمصرف لا يسمى وعدًا، بل مواعدة؛ لأنه بين اثنين
(4)
.
(1)
إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك (ص: 278)، منح الجليل (5/ 102).
(2)
إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك (ص: 278)، منح الجليل (5/ 102).
(3)
انظر فتح العلي المالك (1/ 254).
(4)
مسألة الإلزام بالوعد بالمعروف، فيه خلاف بين أهل العلم، أشير إليه إشارة ليتبين للقارئ كلام أهل العلم فيها، فقد اختلف فيها أهل العلم إلى أقوال:
القول الأول: ذهب الشافعية، والحنابلة، وابن حزم من الظاهرية، واختاره بعض المالكية إلى أن الوفاء بالوعد بالمعروف مستحب، وليس بواجب.
انظر في اختيار بعض المالكية، التمهيد لابن عبد البر (3/ 209)، البيان والتحصيل (8/ 18). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي مذهب الشافعية: المجموع (4/ 485)، الأذكار للنووي، وشرحها الفتوحات الربانية (6/ 158).
وفي مذهب الحنابلة، انظر: المبدع (9/ 345)، الإنصاف (11/ 152).
وانظر المحلى لابن حزم (8/ 28).
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
الدليل الأول:
قالوا: إجماع العلماء على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع بقية الغرماء، ولو كان مستحقًا لأن يقضى له بموجب الوعد لضارب مع الغرماء.
الدليل الثاني:
ذكروا بأن العدة إن كانت في عارية لم يجب الوفاء بها؛ لأنها منافع لم تقبض، وفي غير العارية أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلم تلزم، لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض على الصحيح، ولصاحبها الرجوع فيها
الدليل الثالث:
ما رواه مالك في الموطأ (2/ 752) عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث .....
[إسناده صحيح]
فهذا الصديق الخليفة الراشد وعد ابنته، ولما لم تقبضه في حال صحته لم ير لزومه، ولو كان مجرد الوعد يجب الوفاء به، لكان دينًا في ذمته، ووجب عليه سدداه.
القول الثاني: ذهب الإمام مالك في المشهور من مذهبه إلى أنه يجب الوفاء بالوعد إن خرج على سبب، ودخل الموعود له بسببه في كلفة، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد.
وقال أصبغ: يجب الوفاء بالعدة إذا كانت مرتبطة بسبب، سواء دخل الموعود بسببه في كلفة أو لم يدخل فيه.
مثاله: كما لو قال له: اهدم دارك، وأنا أعدك أن أقرضك ما يعينك على بنائه، أو قال له =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تزوج: وأنا أقرضك المهر، فعلى قول مالك لا يجب الوفاء إلا إذا باشر الهدم أو دخل في كلفة الزوج.
وعلى قول أصبغ: يجب الوفاء ولو لم يباشر الهدم أو يدخل في كلفة الزواج.
الفروق للقرافي (4/ 25)، البيان والتحصيل (8/ 18)، تحرير الكلام في مسائل الالتزام (ص: 155)، المنتقى للباجي (3/ 227).
وجه قول المالكية:
أن مذهب المالكية مبني على عدم وجوب الوفاء بالوعد، إذ لو كان الوفاء بالوعد واجبًا لم يكن ثمة فرق بين أن يكون الوعد مرتبطًا بسبب، أو ليس مرتبطًا به، ولكنه قضى به؛ لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله، ولا يقدر عليه، دفعًا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحمل التبعة لمن ورطه في ذلك، وقد نبه على ذلك العلامة محمد العزيز جعيط، انظر مجالس العرفان، ومواهب الرحمن (2/ 34).
وقال مصطفى الزرقاء في بيان وجه قول المالكية في المدخل الفقهي العام (2/ 1030): «وهذا وجيه جدًا؛ فإنه يبني الإلزام بالوعد على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلًا للموعود من تغرير الواعد» .
القول الثالث: ذهب الحنفية إلى أن الوعد لا يكون لازمًا إلا إذا كان معلقًا.
مثاله: أن يقول رجل لأخر: بع هذا الشيء على فلان، وإذا لم يعطك ثمنه، فأنا أعطيك إياه. فإذا لم يعطه المشتري الثمن لزم الواعد أداء الثمن المذكور.
أما إذا كان الوعد وعدًا مجردًا، أي غير مقترن بصورة من صور التعاليق، فلا يكون لازمًا.
مثال ذلك: لو باع شخص مالا من آخر بثمن المثل، أو بغبن يسير، وبعد أن تم البيع، وعد المشتري البائع بإقالته من البيع، إذا رد له الثمن، فلو أراد البائع استرداد المبيع، وطلب إلى المشتري أخذ الثمن، وإقالته من البيع، فلا يكون المشتري مجبرًا على إقالة البيع، بناء على ذلك الوعد; لأنه وعد مجرد.
كذلك، لو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، والرجل وعده بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فلا يلزم بوعده هذا على أداء الدين.
وجه قول الحنفية: قالوا: إذا كان الوعد معلقًا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قوله: إن شفيت أحج، فشفي، ولو أقال: أحج لم يلزمه بمجرده. انظر غمز عيون البصائر (3/ 237). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولعل الفرق بين قول الحنفية وبين قول أصبغ: أن ما ذهب إليه الحنفية مرتبط ارتباط الشرط بمشروطه، بخلاف ما ذهب إليه أصبغ:
يتضح ذلك من خلال المثال الآتي، لو قال رجل: أريد أن أتزوج، فهل تسلفني، فقال: نعم، لزم الوفاء على قول أصبغ؛ لأن الوعد ارتبط بسبب، ولم يلزم على قول الحنفية لأن الوعد لم يرتبط بالتعليق.
انظر في مذهب الحنفية: المادة (84) من مجلة الأحكام العدلية، وانظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 87)، البحر الرائق (3/ 339)، الأشباه والنظائر بحاشية الحموي (3/ 237).
القول الرابع: ذهب القاضي سعيد بن أشوع الكوفي، وابن شبرمة، واختاره بعض المالكية إلى وجوب الوفاء بالعدة، وأنه يقضى بها مطلقًا.
انظر صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب من أمر بإنفاذ الوعد (3/ 236)، الفروق (4/ 25)، المحلى (8/ 28)، وقد استدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تعلمون} [الصف: 2].
وجه الاستدلال:
أن الواعد إذا لم يف بوعده، فقد قال ما لم يفعل، فدخل في مقت الله، وهو أشد البغض، وهذا يقتضي أنه كبيرة، وليس الأمر مقتصرًا على التحريم فقط.
ونوقش:
بأن المقصود في الآية: الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة كالجهاد والزكاة، وأداء الحقوق، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 75].
وأجيب:
بأن العقاب إنما كان على إخلافهم الوعد {نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه} [التوبة: 75]، وأما الواجبات فهي واجبة قبل الوعد، ولا يزيدها الوعد إلا توكيدًا. =
وقد رأى بعض العلماء المعاصرين بأنه إذا جاز الإلزام بالوعد بالمعروف، والقضاء به إذا تم على سبب، ودخل الموعود في السبب، مع أنه تبرع محض، فلأن يلزم به في المعاوضات أولى وأحرى.
وهذا القول في الحقيقة قلب للقاعدة الفقهية المعروفة: وهي أن الغرر يغتفر في باب التبرعات، أكثر منه في باب المعاوضات. ولهذا اغتفر في عقود التبرعات هبة المجهول، والوصية به، وعدم القدرة على تسليمه، وكل هذه الأمور لا يجوز بيعها.
= الدليل الثاني:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا واعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. متفق عليه انظر البخاري (33)، ومسلم (59).
ونوقش الاستدلال بالحديث:
المقصود بالحديث: إخلاف الوعد بأمرٍ واجبٍ، كأداء الحقوق، بدليل أن إخلاف الوعد ليس مذمومًا مطلقًا؛ لأن من وعد بمحرم، فإنه لا يحل له الوفاء به.
وأجيب:
أن الحديث فيه ذم إخلاف الوعد من حيث هو وعد، أيًا كان الموعود به، أما الواعد بمحرم فلا يجوز له الوفاء به، لا من حيث إن الوعد لا يجب الوفاء به، ولكن لأن الموعود به محرم.
القول الخامس: اختار تقي الدين السبكي الشافعي، إلى أن العدة يجب الوفاء بها ديانة لا قضاء، ورجحه فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
قال تقي الدين السبكي الشافعي كما في الفتوحات الربانية (6/ 258): «ولا أقول يبقى دينًا في ذمته حتى يقضى من تركته، وإنما أقول: يجب الوفاء تحقيقًا للصدق، وعدم الإخلاف» .
وقال الشنقيطي كما في أضواء البيان (4/ 304): «والذي يظهر لي أن إخلاف الوعد لا يجوز
…
ولا يجبر به؛ لأنه وعد بمعروف محض».