الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينافي عموم الأحكام الشرعية، فيتعين حمل النهي على خروجها على طريق البر وذات العرفية، كذا قاله علي القاري.
لما فرغ من بيان حكم الطواف بالبيت راكبًا أو ماشيًا، شرع في بيان حكم استلام الركن، فقال: هذا
* * *
40 -
باب استلام الركن
في بيان حكم استلام الركن (ق 514)، أي: تقبيل الحجر الأسود فإنه الفرد الكامل الذي ينصرف إليه المطلق ويتبعه الركن اليماني، لما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك فقبله، وروى الحاكم عن أبي هارون العبدري عن أبي سعيد الخدري: حججنا مع عمر بن الخطاب، فلما طاف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم قبله فقال له علي بن أبي طالب: بلى إنه يضر وينفع، قال: بم؟ بكتاب الله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، خلق الله آدم ومسح، أي: مسح ملك من ملائكة الله تعالى على ظهره فقدرهم أنه الرب وأنهم العبيد، وأخذو عهودهم مواثيقهم وكتب ذلك في رق، وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال: افتح ففتح فاه فألقمه ذلك الرق، وقال: اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، وإني أشهد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود، وله لسان ذلق يشهد لم يستلمه بالتوحيد"، فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن رضي الله عنهم. انتهى.
وبيان ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: مسح الله تعالى أي: مسح ملك (1) بأمره تعالى على ظهر آدم صلوات الله على نبينا وعليه، فأخرج أرواح ذريته من صلبه على
(1) هذا تأويل باطل، لا دلالة عليه من تأويلات الأشاعرة - المحقق.
صورة الذر، بعضها أبيض وبعضها أسود وانتشروا على يمين آدم، صلوات الله على نبينا وعليه ويساره فجعل للأرواح عقلًا، فخاطبهم حين أشهدهم على أنفسهم بقوله:{ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وأمرهم بالإِيمان ونهاهم عن الكفر فأقروا لله تعالى بالربوبية ولأنفسهم بالعبودية، حيث قالوا: بلى فكان ذلك منهم إيمانًا فهم يولدون على تلك الفطرة، كما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الفقه الأكبر، والمراد بالفطرة الإِيمان، جدد الله تعالى هذا العهد والميثاق، وذكر لنا هذا المنسى بإرسال الرسول، وأنزل القرآن وفرض على أغنياء المؤمنين حج البيت، ليحجوا به ويقبلوا الحجر الأسود ويجددوا عهودهم وميثاقهم السابق.
وروى جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر الأسود واستلمه. كذا في (المصابيح) وهو كان أبيض مضيئًا ما بين المشرق والمغرب، ثم صار أسود بخطايا بني آدم، وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب"(1) كذا أورده محيي السنة في (المصابيح).
والمراد بالركن: الحجر الأسود، وبالمقام: مقام إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه، وبالطمس: إذهاب النور، والتأويل الحسن أن فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم على سائر الأحجار كفضل ياقوت (ق 515) الجنة الباقية على ياقوت هذه الفانية.
478 -
أخبرنا مالك، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عن عُبيد بن جُريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعًا؛ ما رأيتُ أحدًا من أصحابك يصنعها، قال: فما هنّ يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تَمَسُّ من الأركان إلا اليمانَيْن، ورأيتك تلبس النعال السَّبْتية؛ ورأيتك تصبُغُ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهلَّ الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التَّرْوِيَة.
(1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 213) والحاكم في المستدرك (1/ 456) والبيهقي في الكبرى (5/ 75).
(478)
إسناده صحيح.
قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمَسّ إلا اليمانَيْن، وأما النعال السِّبتية: فإني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأُ فيها، أنا أحب أن ألبسها، وأما الصُّفرة: فإني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُغُ بها، وأنا أحبُ أن أصبغ بها، وأما الإِهلال، فإني لم أرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهل حتى تنبعث به راحلته.
قال محمد: هذا كله حسن، ولا ينبغي أن يستلم من الأركان إلا الركن اليماني والْحَجَر، وهما اللذان استلمهما ابن عمر، وهو قولُ أبي حنيفة، والعامَّةِ من فقهائنا.
• أخبرنا مالك، بن أنس بن عمير بن أبي عامر الإمام الأصبحي، كان منسوبًا إلى ملك ذي أصبح من ملوك اليمن، وكان في الطبقة السابعة من طبقات كبار أتباع التابعين من أهل المدينة، من الإِقليم الثاني من الأقاليم السبعة، وفي نسخة: محمد قال: بنا، وفي نسخة أخرى: أنا حدثنا سعيد بكسر العين وسكون التحتية ابن أبي سعيد اسمه كيسان المَقْبُري، بضم الباء الموحدة وفتحها، وهو المدني ثقة كان في الطبقة الثالثة من طبقات التابعين من أهل المدينة، مات في حدود العشرين ومائة عن عُبيد بن جُريج، بتصغيرها التيمي مولاهم المدني، ثقة كان في الطبقة الثالثة من طبقات التابعين من أهل المدينة.
قال الحافظ: وليس بينه وبين عبد الملك بن العزيز بن جريج المكي مولى ابن أمية نسبة، فقد يظن أن هذا عنه، وليس كذلك وهذا من رواية الأقران عن الأقران؛ لأن عبيدًا أو سعيدًا تابعيًا من طبقة واحدة أنه أي: عبيد بن جريج قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، كنية ابن عمر رأيتك تصنع أربعًا؛ أي: من الخصال ما رأيتُ أحدًا من أصحابك أي: أقرانك وأمثالك من الصحابة والتابعين والمراد بعضهم يصنعها، أي: تلك المعدودات الأربع لم يصنع مثل صنعك، وإن كان يصنع بعضهما.
قال المازري: وظاهر السياق انفراد ابن عمر رضي الله عنهما بما ذكر دون غيره ممن رواه عبيد قال: فما هنّ وفي نسخة: وما هي يا ابن جريج؟ بضم الجيم وفتح الراء المهملة وسكون التحتية والجيم هو عبيد قال: رأيتك لا تَمَسُّ بفتح الميم وتشديد السين المهملة أي لا تلمس باليد والقبلة ولا تستلم من الأركان الأربعة للكعبة إلا اليمانَيْن، أي: الركنين
اليمانين بتخفيف الياء؛ لأن الألف بدل من إحدى يائي النسب ولا يجمع بين البدل والمبدل منه، وفي لغة قليلة بتشديدها علي أن الألف زائدة لا بدل، والمراد بها الركن اليماني، والركن الذي فيه الحجر الأسود وهو الركن العراقي وظاهره أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها وصح ذلك عن معاوية وابن الزبير، وروي عن الحسن والحسين وجابر، ورواه ابن أبي شيبة عن عباد بن عبد الله بن الزبير أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء من البيت مهجورًا، ومن قول ابن عمر رضي الله عنه إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الشاميين؛ لأن البيت لم يبق على قواعد إبراهيم، وعلي هذا أحمد بن القصار وتبعه ابن التين استلام ابن الزبير لهما أنه لما عَمَّر الكعبة أتمها على قواعد إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه، ويؤيده ما ذكره الأزرقي من أن ابن الزبير لما فرغ عن بنائها خرج إلى التنعيم واعتمر، وطاف البيت واستلم الأركان جميعًا حتى قبل ابن الزبير وعنده، عن ابن إسحاق بلغني أن آدم صلوات الله على نبينا وعليه، لما حج استلم الأركان كلها وأن إبراهيم وإسماعيل صلوات الله على نبينا وعليه فرغنا عن بناء البيت طافا به سبعًا يستلمان الأركان كلها، والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر أنه لا يستلم إلا الركن الأسودي واليماني ورأيتك تلبس بفتح الموحدة (ق 516) النعال السَّبْتية؛ بكسر السين المهملة وسكون الموحدة، وهي التي لا شعر فيها وهي من السبت، وهي الحلق، والإِزالة، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها سبغت بالدباغ أي: لانت وقيل: السبت كل جلد مدبغ، وقيل: جلود البقر مدبوغة كانت أو لا، وقيل: هو نوع من الدباغ يقلع الشعر، وقيل: النعل السبتية كانت سوداء لا شعر فيها.
وقال القاضي عياض: وكان من عادة العرب لبس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وإنما يلبسها أهل الرفاهية كذا ذكره السيوطي ورأيتك تصبُغُ بضم الموحدة وفتحها وحكى كسرها بالصفرة، بضم الصاد المهملة وسكون الفاء المهملة المفتوحة: والحناء، أي: تصبغ ثوبك أو شعرك بالصفرة ورأيتك إذا كنت أي: مستقر بمكة أهلَّ الناس أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية للإِحرام بحج أو عمرة إذا رأوا الهلال أي: من أول شهر ذي الحجة ولم تهلل أنت بلامين بفك الإِدغام حتى يكون أي: يوجد، وفي رواية: كان أي: وجد يوم بالرفع فاعل يكون التامة والنصب خبر على أنها ناقصة يوم التَّرْوِيَة وهو ثامن من ذي الحجة، سمي به؛ لأن الناس كانوا يرون فيه الماء، أي:
يسقون دوابهم، ويحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره، فتهل أنت وتبين جوابه أنه كان لا يهل حتى يركب قاصدًا إلى منى.
قال عبد الله: أي: ابن عمر في جوابه أما الأركان؛ التي ذكرتها وتخصص باستلام الركنين منها فسببه المتابعة فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمَسّ أي: قبل إلا اليمانَيْن، أي: مع تفاوت الاستلام فيهما، فإن زاد التقبيل في الحجر دون اليمان، وفي رواية: وضع الجبهة أيضًا على الحجر خاصة، روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر وروى ابن المنذر والحاكم، وصححه عن ابن عباس أيضًا أنه كان يقبله ويسجد عليه بجبهته وقال: رأيت عمر قبله وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعلته، وأما استلام الركن اليماني من غير تقبيل فحسن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يفعل فيه كما يفعل بالحجر الأسود، ولا يستلم الركن العراقي والشامي، وعن الأئمة الأربعة خلافًا لبعض السلف، وتبعهم بعض أهل البدعة ولنا ما تقدم من الحديث، وقد رواه الجماعة إلا الترمذي، ولأن الركن العراقي والشامي ليسا بركن في الحقيقة، وإنما هي من وسط البيت؛ لأن بعض الحطيم من البيت وأما النعال السِّبتية أي: واختيار لبسها فإني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأُ فيها، فيه إيماء إلى وجه امتياز ما لم يكن فيها شعر فأنا أحب أن ألبسها، أي: متابعة لمن لبسها وتوفي بعض الأحيان، وأما الصُّفرة أي: الصبغ بها (ق 517) فإني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُغُ بها وأنا أحبُ أن أصبغ بها.
قال المازري: قيل المراد به صبغ شعر رأسه بالحناء؛ فإنه ينفع الصداع ويقيد لدفع الحرارة ويثبت عنه صلى الله عليه وسلم صبغة به، كما حرره علي القاري في (شرح الشمائل)، وقيل: المراد به صبغ الثوب.
قال المازري: وهو الأشبه؛ لأرة ينقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صبغ شعره، وقال القاضي عياض: هو أظهر الوجهين، وقد جاءت آثار عن ابن عمر رضي الله عنه بين فيها تصفير ابن عمر لحيته.
واحتج أنه صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران. رواه أبو داود وذكر أيضًا في حديث آخر احتجاجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته، وأجيب عن الأول باحتمال أنه كان مما يتطيب؛ لأنه كان يصبغ بها شعره.
وقال ابن عبد البر: لم يكن صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة إلا ثيابه، وأما الخضاب فلم يكن يخضب، وتعقبه في (المفهم) بأن في سنن أبي داود عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وقرة وفيها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران قال لي العراقي: وكان ابن عبد البر إنما أراد نفي الخضاب في لحيته فقط. كذا قاله الزرقاني.
وأما الإِهلال، أي: الإِحرام من أول الهلال فتركته، وأخرته إلى يوم التروية فإني لم أرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهل أي: يحرم مطلقًا بحج أو عمرة حتى تنبعث به راحلته أي: تستوي قائمة إلى طريقها والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتقدم على زمان الإِحرام ولا على مكانه وأنه جوز التقديم بالشروط الواردة في شأنه؛ فإن اتبعه لا أتقدم عليه ولا أتأخر عنه، فإنه كمثال المتابعة.
قال محمد: هذا أي: الذي ذكر كله أي: جميعه حسن، أي: مستحسن، والاستحسان في اللغة هو عد الشيء واعتقاده حسنًا، وفي الاصطلاح: هو اسم لدليل من الأدلة الأربعة يعارض القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى منه، سموه بذلك لأنه في الأغلب يكون أقوى من القياسِ الجلي فيكون به قياسًا مستحسنًا قال الله تعالى: في سورة الزمر: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17، 18] كذا قاله السيد الشريف (محمد الجرجاني الحنفي) ولا ينبغي أي: بل يكره أن يستلم من الأركان إلا الركن اليماني والْحَجَر، أي: أن استلام مما ينبغي أن لا يترك، وقدم اليماني وإن كان حقه التأخر إيماء إلى ما سيق من التغليب وهما اللذان استلمهما ابن عمر، وهو قولُ أبي حنيفة، والعامَّةِ من فقهائنا أي: أتباع أبي حنيفة، وتبعه الأربعة، وعن ابن عباس وابن الزبير وجابر أن استلام الركنين الآخرين يستحب ويسميان الشاميين بتغليب الشامي على العراقي. كذا قاله علي القاري.
* * *
479 -
أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة، أن
(479) حديث صحيح: أخرجه الشافعي في الأم (2/ 176) والبخاري (1583) ومسلم (399) والنسائي في الحج (5/ 214) وفي التفسير في الكبرى كما في تحفة الأشراف (11/ 471).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تَرَيْ: أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ "، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم، قالت: فقال: "لولا حِدْثان قومك، بالكُفر"، قالت: فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: بنا، وفي أخرى: أنا أخبرنا وفي نسخة: قال: بنا ابن شهاب، أي: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، كان في الطبقة الرابعة من طبقات التابعين من أهل المدينة عن سالم بن عبد الله، بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عمر أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة كان ثبتًا (ق 518) عابدًا فاضلًا كان يشبه بأبيه في الهدي والسمت، وكان في الطبقة الثانية من طبقات كبار التابعين من أهل المدينة، مات سنة ست بعد المائة. كذا في (التقريب)(1) لابن حجر أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي أخبر القاسم بن محمد، ثقة كان في الطبقة الثالثة من طبقات ثقات التابعين، قتل بوقعة الحرة سنة ثلاث وستين. كذا قاله ابن حجر في (التقريب)(2) أخبره عبد الله بن عمر، كذا ليحيى إيفاد.
قال الحافظ ابن حجر: بنصب عبد الله على المفعولية، أي: أخبر هو عبد الله، وظاهره أن سالمًا كان حاضرًا لذلك، والمحفوظ الأول، وقد رواه معمر عن الزهري عن سالم، لكنه اختصره. وأخرجه مسلم من رواية نافع عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة، فتابع فيه عن عائشة، رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألم تَرَيْ: مجزوم بحذف النون وفتح التاء الفوقية والراء المهملة وسكون التحتية، أي: ألم تعلمي أن قومك أي: قريشًا، وفيه تلطيف معها حيث نصب قريشًا إليها، وإيماء إلى بني هاشم أخص منهم وإن كانوا من قريش أيضًا حين بنوا الكعبة أي: حين أرادوا بنائها مجددة بعد خرابها اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ " أي: أنقصوها عن أساسها حيث أخرجوا الحطيم عنها، لقلة النفقة والقواعد جمع قاعدة، وهي بمعنى الأساس، وفي النسخ المصحَّفة: اقتصروا
(1) التقريب (1/ 226).
(2)
التقريب (1/ 320).
بالقاف، وهي لا تنبغي؛ لأن الاقتصار بكسر الهمزة وسكون القاف بمعنى الحبس، والاختصار بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة والتاء الفوقية والصاد والراء المهملتين بمعنى التنقيص، ويؤيده كلمة عن في قواعد إبراهيم وهي ثلاثة أركان؛ لأنها شكلي مكعب، ولذلك سميت بالكعبة تشبيهًا بها، فإن قيل: ما الحكمة كان البيت في الوضع القديم مثل الشكل المكعب، وهي في الحقيقة ذات الركنين الحجر واليماني وأما الركن الشامي والعراقي فقد حدثا بسب التربيع لسر إلهي يعرفه العارفون.
الجواب: أما السر في كونها في الوضع القديم مثلث الشكل المكعب فإشارة إلى قلوب الأنبياء عليهم السلام؛ فإن خواطرهم خواطر إلهي وخواطر ملكي وخواطر نفسي، أما السر في كونها في هذا الوضع القديم على الركنين الحجر واليماني والإِشارة إلا تفرده تعالى في مرتبة الذات ومرتبة الأسماء والصفات في كونها على أربعة أركان بالوضع الحادث، فإشارة إلى قلوب المؤمنين؛ لأن قلب المؤمن لا يخلو خواطر إلهي وملكي ونفساني وشيطاني فركن الحجر بمنزلة الخواطر الإِلهي واليماني بمنزلة المكي، والشامي بمنزلة النفساني، والركن العراقي بمنزلة الخاطر الشيطاني؛ لأن الشارع شرع أن يقال عنده: أعوذ بالله من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وبالذكر المشروع تعرف من ابن الأركان كما ذكره الشيخ الأكبر في (الفتوحات المكية).
اختلف في أول من بناها، فحكى المحب الطبري أن الله وضعها لا ببناء واحد، وللأزرقي (ق 519) عن علي بن الحسين أن الملائكة بنتها قبل آدم صلوات الله على نبينا وعليه، ولعبد الرزاق عن عطاء: أول من بني البيت آدم.
وعن وهب بن منبه: أول من بناها شيث بن آدم، وقيل: أول من بناها إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه، وجزم به كثير زاعمًا أنه أو من بناها مطلقًا إذا لم يثبت عن معصوم أنه كان مبنيًا قبله، ويقال عليه: لم يثبت عن معصوم أنه أول من بناها.
وقد روى البيهقي في (الدلائل) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة بناء آدم لها ورواه الأزرقي وابن شيخ وابن عساكر موقوفًا على ابن عباس وحكمه الرفع أنه لا يقال رأيا. وأخرج الشافعي عن محمد بن كعب القرظي قال: حج آدم فلقيته الملائكة، فقالوا: بر نسكك يا آدم، ولابن أبي حاتم عن ابن عمر: أن البيت رفع في الطوفان، فكان الأنبياء بعد ذلك يحجونه، ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإِبراهيم فبناه على أساس آدم صلوات
الله على نبينا وعليه، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم، وفي الأرض فلا يكن ذراعًا بذراعهم، وأدخل الحجر في البيت، ولم يجعل له سقفًا وجعل له بابًا وحفر له بئرًا عند بابه يلقى فيه ما يهدى للبيت، فهذه الأخبار إن كانت مفرداته ضعيفة لكن يقوي ببعضها بعضًا، وروى ابن أبي شيبة، وابن راهويه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن على أن بناء إبراهيم لبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم ثم بناه قصي بن كلاب نقله الزبير بن بكار وجزم به (الماوردي) ثم قريش فجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا وفي رواية: عشرين، ولعل راويها جبر الكسر ونقصوا من طولها ومن عرضها أذرعًا أدخلوها في الحجر لضيق النفقة بهم على وجه الحلال من غير شبهة في صرف بنائها، ثم لما حوصر ابن الزبير من جهة يزيد بن معاوية تضعضعت بالرمي من المنجنيق فهدها في خلافته، وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، فأعاد طولها على ما هو عليه الآن وأدخل من الحجر تلك الأذرع، وجعل لها بابًا آخر، فلما قتل ابن الزبير شاور الحجاج عبد الملك بن مروان في نقض بناء ابن الزبير فكتب إليه أما ما زاد في طولها فأقره، وأما ما زاده في الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه ففعل، كما في مسلم عن عطاء.
وذكر الفاكهاني: أن عبد الملك، ندم على إذنه للحجاج في هدمها ولعن الحجاج وبناء الحجاج إلى الآن.
ونقل ابن عبد البر: وتبعه القاضي عياض وغيره، أن الرشيد وأباه المهدي أوجده المنصور أراد أن يعيد الكعبة على فعلة ابن الزبير فناشده مالك وقال: أخشى أن تصير ملعبة للملوك فترك هذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه أشار على ابن الزبير لما أراد هدمها وتجديد بنائها وأن يرم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص؛ لا آمن من يجيء بعدك فيغير الذي صنعت أخرجه الفاكهاني، ولم يتفق لأحد من الخلفاء ولا غيرهم تغير شيء مما صنعه الحجاج إلى الآن (ق 520) إلا في الميزاب والباب وعتبة، وكذا وقع ترميمهم الجدار والسقف وسلم السطح [. . . .](*) جدد فيها الرخام.
قال ابن جريج: أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، وهو أي: الرخام بضم الراء المهملة وفتح الخاء المعجمة وألف بعدها ميم حجر مرمر أبيض لين كذا قاله محمد الواني عن (القاموس) قالت: أي: عائشة فقلتُ: يا رسول الله، أفلا تردها
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كلمة لم أتبينها في المطبوع
فالهمزة للاستفهام والفاء عطف على تحب مقدرًا بعد الهمزة واللام للنفي، فالهمزة الإِنكارية إذا دخلت على النفي تفيد الإِثبات، والمسئول منه رد الكعبة المكرمة على أصل بناء إبراهيم عليه السلام والمعنى الحب أن ترد الكعبة المشرفة على قواعد إبراهيم، أي: على أساسه قالت: فقال: أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في (الموطأ) ليحيى "لولا حِدْثان بكسر الحاء المهملة وسكون الدال المهملة وفتح المثلثة فألف ونون مبتدأ حذف خبره وجوبًا، أي: موجود يعني لولا قرب زمن قومك بالكُفر"، لفعلت أي: لرددتها على قواعدها، كذا في نسخة الشارح و (الموطأ) لمالك، وأما عندي من النسخ فلم توجد لفظ: فعلت، فحينئذ تكون لفظ لولا للتمني، وفي رواية للشيخين:"لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بهدم البيت، فأدخلت فيه ما أخرج منه والزقته بالأرض وجعلت له بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا فبلغت به أساس إبراهيم عليه السلام"، وفيه ترك ما هو صواب خوف وقوع مفسدة أشد واستئلاف الناس إلى الإِيمان، واجتناب ولي الأمر ما يسارع إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وإلف قلوبهم بما لا يُترك فيه واجب كما ساعدتهم على ترك الزكاة وشبه ذلك، وفيه تقديم الأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة وأنهما إذا تعارضا يرى رفع المفسدة، وحدث الرجل مع أهله في الأمور العامة، وفيه سد الذرائع وفي رواية للشيخين أخاف أن تنكر قلوبهم إذا دخل الجدار في البيت، وأن الصق بابه إلى الأرض قال: أي: عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة رضي الله عنها واللام توطئة للقسم والله لئن كانت عائشة سمعت هذا أي: قوله: "لولا حدثان قومك بالكفر" من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياض: ليس هذا شك في روايتها، فإنها من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب فيما نقله ولكن كثيرًا من كلام العرب ما يأتي بصوِرة الشك مرادًا به اليقين والتقرير ومنه قوله تعالى في سورة الأنبياء:{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] وقوله تعالى في سورة سبأ: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} الآية [سبأ: 50] ما أرى بضم الهمزة وفتح الراء أي ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين افتعال من الإِسلام والمراد هنا مهما بالقبلة أو اليد اللذين يليان بكسر اللام أي: يقربان الحِجْر، بكسر الحاء المهملة وسكون (ق 521) الجيم، وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسعة وثلاثون ذراعًا كذا ذكره علي القاري، ويقال له: حجر إسماعيل إلا أن البيت لم يتم على قواعد