الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضل الجهاد
في بيان فضل الجهاد، بكسر الجيم المحاربة مع الكفار، هو في اللغة مصدر جاهد في سبيل الله، وفي الشرع: الدعاء إلى دين الحق، والقتال مع من لا يقبله، كذا في (التحفة)، شُرعَ بعد الهجرة اتفاقًا، اقتبس المصنف هذه الترجمة من قوله تعالى في سورة النساء:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]، وهو فرض عين إن هجم الكفار، فتخرج المرأة والعبد بلا إذن الزوج والسيد؛ لأن حق الزوج والمولى لا يظهر في فروض الأعيان كالصلاة والصوم، وكذا يخرج الولد بغير إذن والديه، والمديون بغير إذن دائنه، وفي غير هذه الحالة لا يخرجان إلا بإذنهما، وكذا في كل سفر فيه مشقة؛ لأن الإِشفاق على الولد مضر بوالديه وعلى الديون، ومضر على دائنه، والأصل فيه قوله تعالى في سورة التوبة:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ، أي: اخرجوا في سبيل الله صحاحًا ومراضًا، أو شبابًا وشيوخًا، أو ركبانًا ومشاة، أو خفافًا من السلاح وثقالًا منه، أو فقراء وأغنياء، يعني لا تهنوا عن الغزو، وقوله:{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في دينه وطاعته، قوله:{ذَلِكُمْ} أي: الجهاد في سبيله، قوله:{خَيْرٌ لَكُمْ} مِنْ تركه، قوله:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: تصدقون بأن للخروج إليه ثوابًا، وللجلوس عنه عقابًا. قيل: نسخت هذه الآية بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية [التوبة: 91].
وقيل: لم تُنسخ، لأنه إذا وقع النفير عامًا يكون فرضًا عامًا، وإذا لم يكن عامًا فبخروج البعض سقط عن الباقي، كذا في (عيون التفاسير) لأحمد بن محمود السيواسي، وفي (الذخيرة) عند النفير، وهو أن يهجم الكفار يصير الجهاد فرض عين على من يقرب من العدو، وهم يقدرون على الجهاد، وأما من عداهم فمن بعد ففي حقهم فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج بأن عجز القريب أو تكاسل ولم يجاهد يكون فرض عين على من يليهم، ثم وثم إلى أن يتقرر على جميع أهل الإِسلام شرقًا وغربًا.
هذا خلاصة ما قاله الشمني في شرح (النقاية).
300 -
أخبرنا مالك، حدثنا أبو الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت الذي لا يَفْتُر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع".
• أخبرنا مالك، أي: ابن أنس بن عمير بن أبي عامر الأصبحي، من أتباع التابعين في الطبقة السابعة من أهل المدينة، وله تسعون سنة، كذا قاله بعض المؤرخين، حدثنا وفي نسخة: ثنا أبو الزِّنَادِ، بكسر الزاي، وتخفيف النون، عبد الله بن ذكوان، تابعي، في الطبقة الخامسة، عن الأعرج، أي: عبد الرحمن بن هرمز، ويكنى أبا داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة، ثبت عالم من الطبقة الرابعة، كما قال بعض أهل الطبقات، ومات سنة سبع عشرة، كذا قاله ابن حجر في (التقريب)، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَل المجاهد في سبيل الله، قال سعيد بن زيد الباجي - من المالكية -: جميع أعمال البر في سبيل الله، إلا أن هذه اللفظة إذا طلعت في الشرع اقتضت الغزو إلى العدو، كمثل الصائم أي: نهاره، القانت أي: المعنى، (ق 308) وليحيى كمثل الصائم الدائم، الذي لا يَفْتُر من باب نصر، أي: لا يمل ولا يكل من صيام ولا صلاة، حتى يرجع"، أي: من غزوه إلى وطنه، والمعنى أن له من الثواب على جهاده، مثل ثواب المستديم للصيام والصلاة لا يفتر منهما.
قال سعيد بن زيد الباجي - من المالكية -: وإنما أحال على ثواب الصائم والقائم، وإن كنا لا نعرف مقداره، كما قدر من الشرع من كثرته وغرق من عظمته، ذكره السيوطي، والحديث رواه الشيخان، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ:"مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة حتى يرجع، وتوكل على الله للمجاهد في سبيل الله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة"، و"أو" للتنويع لا للشك، كما لا يخفى، كذا قاله علي القاري.
(300) صحيح، أخرجه: البخاري (2785)، ومسلم (1878)، والترمذي (1619)، والنسائي (3128)، وأحمد (9197).
وقال القاضي عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد؛ لأن الصائم وغيره مما ذكر في الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد، وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها، وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما هي إحسان من الله لمن شاء. انتهى.
* * *
301 -
أخبرنا مالك، حدثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده: لَوَدِدْتُ أنْ أُقَاتِل في سبيل الله فأُقْتَل، ثم أحْيا فَأُقْتَل، ثم أُحْيا فأُقْتَل"، فكان أبو هريرة يقول ثلاثًا: أُشهدُ الله.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: ثنا، حدثنا وفي نسخة: بنا، رمزًا إلى أخبرنا أبو الزِّناد، بكسر الزاي، وفتح النون المخففة والألف والدال المهملة، أي: عبد الله بن ذكوان تابعي في الطبقة الخامسة، عن الأعرج، أي: عبد الرحمن بن هرمز، من كبار التابعين، ويكنى أبا داود المازني مولى ربيعة بن الحارث، ثبت، ثقة، عالم من الطبقة الرابعة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، أي: أقسم بالذي ذاتي أو روحي بقبضة قدرته لَوَدِدْتُ بكسر الدال الأولى وسكون الثانية، أي: تمنيت وأحببت أنْ أُقَاتِل بصيغة المفاعلة في سَبيل الله فأُقْتَل، بصيغة المجهول، وكذا ثم أحْيا بضم الهمزة وسكون المهملة وفتح التحتية، وبعدها ألف مقصورة، فَأُقْتَل، ثم أُحْيا فأُقْتَل، ثم أُحْيا فأُقْتَل"، والتمني له بالقصد حصول أجر الشهادة، ثم الأحسن حمل "ثم" هنا للتراخي في الرتبة؛ لأن التمني حصول رتبة بعد رتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى، فكان أبو هريرة يقول ثلاثًا: أُشهدُ الله، وفي نسخة: بالله، أي: والله لقد قال ما ذكر، يعني كرر النبي صلى الله عليه وسلم القتل ثلاث مرات، فالعامل في ثلاث قال المحذوف، والمعنى كان أبو هريرة يقول: أشهد الله ثلاث مرات، فالعامل فيه يقول.
وأول الحديث ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المؤمنين أن يتخلفوا عني ولا أجد
(301) صحيح، أخرجه: البخاري (36)، والنسائي (3098)، وابن ماجه (2753)، ومالك (999).
ما أحملهم عليه، ما تخلفت على سرية - وهي طائفة من الجيش - تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت. . . إلى آخره".
قال الطيبي: يعني عليه السلام: أريد أن أمشي إلى الغزو، ومع كل جيش من غاية فضل الجهاد، ولكن إن بعض أصحابي فقراء، وليس لهم مركوب، فإن ذهبت إلى الغزو وتركتهم في مقامهم لضاقت صدورهم بتخلفهم، أي: بتأخرهم عني ومفارقتهم إياي، وما كان لي مركوب أعطيتها إياهم. انتهى.
فيه سؤال هو: هل يجوز الدعاء بالشهادة، مع أنه يستلزم تمكين الكفار وغلبتهم على المسلمين، والقاعدة أن تمني المعصية لله (ق 309) لا يجوز لعامة المسلمين، وكيف تتصور منه صلى الله عليه وسلم وقتل المؤمن معصية؟
الجواب: أن المطلوب قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة بأي موت قدره الله تعالى وقضاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سأل الله تعالى الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"، رواه مسلم، وأحمد والحاكم في الجهاد، عن سهل بن حنيف، رضي الله عنه.
ومن خصائص الشهداء: أن يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليُقتل ثانيًا، ثم وثم لكثرة ما يرى من الكرامات والدرجات التي أُعِدت لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"للشهيد عند الله ست خصال: الأول يُغفر له في أول دفقة - أي: أول قطرة - من دمه، والثاني: يرى مقعده من الجنة، والثالث: يجار - أي يحفظ - من عذاب القبر، والرابع: يأمن من الفزع الأكبر، قيل: هو عذاب النار، والخامس: يوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، وبزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، والسادس: يشفع في سبعين من أقاربه، أي: أحبابه"، رواه الترمذي وابن ماجه عن مقداد بن معدي كرب، رضي الله عنه، كذا فصلناه في (توضيح الأسرار شرح بركات الأبرار)، فراجع هنا إن أردت الشبع.
لما فرغ من بيان فضيلة الجهاد، شرع في بيان شهادة الحكمية والحقيقة، فقال: هذا
* * *