الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في بيان حكم الاستسقاء
في بيان حكم الاستسقاء، هو طلب السقاء، وهو المطر عند طول انقطاعه، وفي قوله الاستسقاء إشارة إلى مذهب أبي حنيفة، فإن الاستسقاء عنده دعاء واستغفار فقط، لا صلاة فيه عنده، لقوله تعالى في سورة نوح، حكاية عن نوح عليه السلام حين اجتهد قومه القحط والجدب، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]، فعلَّق تعالى نزول الغيث بالاستغفار، وأخذ المصنف هذه الترجمة من هذه الآية، ويؤيده ما في الصحيحين (1) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد في يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا"، وثبت أيضًا أن عمر رضي الله عنه استقى ولم يصل، كذا قاله الشمني في (شرح النقاية).
والمناسبة ما بين هذا الباب والباب السابق الدعاء؛ لأن الصلاة في اللغة الدعاء.
294 -
أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم، أنه سمع عبّاد بن تميم المازِنيّ يقول: سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فاسْتَسْقَى وحَوَّلَ ردَاءَه حين استقبل القبلة.
قال محمد: أما أبو حنيفة. فكان لا يرى الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا. فإن الإِمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه، فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، ولا يفعل ذلك أحد إلا الإِمام.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: ثنا مالك بن أنس، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر
(1) أخرجه: البخاري (1013)، ومسلم (897).
(294)
صحيح، أخرجه: البخاري (1005)، ومسلم (894)، وأبو داود (1167)، والنسائي (1511)، وأحمد (15997)، ومالك (448).
ابن محمد بن عَمرو بن حَزْم، الأنصاري، المدني القاضي، ثقة تابعي من الطبقة الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين ومائة من الهجرة، وهو ابن سبعين سنة، كذا قاله ابن حجر (1)، أنه أي: عبد الله بن أبي بكر سمع عبّاد بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة ابن تميم بفتح الفوقية والميمين المكسورتين بينهما تحتية ساكنة الأنصاري المازِنيّ المدني تابعي من الطبقة الثالثة، وقد قيل: إنه له رواية، كذا في (التقريب) لابن حجر (2)، يقول: سمعت عبد الله بن زيد المازني بكسر الزاي، أي: مازن الأنصاري، صاحب حديث الوضوء، وهو عبد الله بن عاصم بن كعب لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه، صاحب رؤيا الأذان، كما زعم ابن عيينة، وقد وهمه البخاري، يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، أي: مصلى العيد بالصحراء في المدينة إلا أنه في التواضع أوسع للناس، قال الفقهاء: ويستحب الخروج للاستسقاء ثلاثة أيام متتابعات، مشاة في ثياب خلقة غسيلة أو مرقعة، متذللين متواضعين خاشعين لله، ناكسي رؤوسهم مقدمين الصدقة، كل يوم قبل خروجهم، ويجدون التوبة، ويستغفرون للمسلمين، ويردون المظالم، وقالوا: ويستحب إخراج الدواب بأولادها، ويفرقون بينهما ليحصل المراد بزيادة الحزن، ويستحب خروج الشيوخ الكبار والأطفال (ق 300)؛ لأن نزول الرحمة بينهم أسرع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تُرزَقون وتُنْصَرُونَ إلا بضعفائكم"، رواه البخاري، وفي خبر آخر:"لولا شباب خُشع، وبهائم رُتع، وشيوخٌ رُكَّع، وأطفالٌ رُضع، لَصُبَّ عليكم العذاب صبًا"، فاسْتَسْقَى أي: دعا بأن يقول: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا غدقًا غير راتب مجللًا طبقًا دائمًا".
قوله: "غيثًا" أي: مطرًا، وقوله:"مغيثًا" بضم أوله، أي: منقذ من الشدة، قوله:"هنيئًا" بالمد والهمزة، أي: لا ينقصه شيء، أو يمر الحيوان من غير ضرر، قوله:"مريئًا" بفتح أوله وبالمد والهمزة، أي محمود العافية أو الهنيء النافع ظاهرًا، والمريع النافع باطنه، قوله:"مريعًا" بضم الميم وكسر الراء المهملة، وسكون التحتية والعين المهملة أي: إتيانًا لريع وهو الزيادة، وقيل: الريع [غابة](3)، ويجوز فتح الميم هنا، أي: ذريع أي نماء قوله: "غدقًا"، أي: كثير الماء والخيرات، وقطره كبار، قوله:"عاجلًا"، أي: سريعًا،
(1) تقدم.
(2)
انظر: التقريب (1/ 272).
(3)
كلمة لم أتبينها بالأصل.
قوله: "غير راتب"، أي: غير نصب ولا تعب، قوله:"مجللًا"، بكسر اللام أي: سائق الأفق لعمومه، أو الأرض بالنبات سجل الغرس، قوله:"سحا" بفتح السين المهملة وتشديد الحاء المهملة، أي: شديد الواقع بالأرض، من ساح إذا جرى، قوله:"طبقًا" بفتح أوله، أي: ستر الأرض حتى يعمها، قوله:"دائمًا"، أي: إلى انتهاء الحاجة إليه.
وحَوَّلَ بتشديد الواو، أي: قلب ردَاءَه بأن جعل أسفله أعلاه إن كان مربعًا، أو جعل جانب الأيمن على الأيسر، وإن كان مدورًا كالجبة، حين استقبل القبلة، والسر في تقليب ردائه للتفاؤل ليقلب حالهم من القحط إلى الخصب، ومن اليسر إلى العسر.
قال محمد: أما أبو حنيفة. فكان لا يرى أي: لا يختار في الاستسقاء صلاة، أي: مشروعة بجماعة، وإن صلوا فرادى جاز، وبه قال أبو يوسف في رواية لقوله تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح: 10]، وأما الاستسقاء في قولنا يعني نفسه، وأبا يوسف في رواية، فإن الإِمام أي: الخليفة ونائبه يصلي بالناس ركعتين كصلاة العيد في الجهر بالقراءة، والصلاة بلا أذان ولا إقامة، ويخطب بعد الصلاة خطبتين، ويجلس بينهما واحدة عندنا وعند الشافعي، وقال مالك: سنة الاستسقاء ركعتان يخطب قبلهما كخطبة الجمعة، ثم أي: بعد الصلاة يدعو رافعًا يديه لا روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه حتى يرى بياض إبطه، ويمد يديه، ويجعل بطونهما مما يلي الأرض، ويحول من التفعيل، أي: يقلب رداءه، فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، إن كان مدورًا كالجبة، لما رُوي في الكتب الستة (1)، عن عبد الله بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس فصلى بهم ركعتين، وحَوَّل ردائه فدفع واستسقى واستقبل القبلة، (ق 301) زاد البخاري: وجهر فيهما بالقراءة، ولا يفعل ذلك أي: تحويل الرداء أحد إلا الإِمام، وهو اختيار الطحاوي وأبي حنيفة رحمه الله، أن الاستسقاء دعاء، وفي سائر الأدعية لا تقلب فيها رداء، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان تفاؤلًا أو عرف صلى الله عليه وسلم بالوحي تغيير الحال عند قلب الرداء.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم يحتمل في تقليب الرداء أنه فعل بوحي، أو قصد تفاؤل فلو فعل غيره لتعين أن يكون تفاؤلًا، وهو تحت الاحتمال، فلم يتم به الاستدلال، فإن قيل: كيف
(1) تقدم.