الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد هل يلزم سائر البلاد الموافقة
؟
اختلف العلماء على مذاهب؛ فيما إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد، هل هذا خاصٌّ بأهل البلد الذين رأوه؟ أم هو عامّ لجميع البلاد؟ وقد ذكَرها النووي رحمه الله في "المجموع"(6/ 273) والحافظ في "الفتح"(4/ 123) وغيرهما.
وجاء في "نيل الأوطار"(4/ 267): "وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب؛ ذكَرها صاحب "الفتح":
أحدها: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم.
حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمّد وسالم وإِسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحْكِ سِواه، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية.
وثانيها: أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم؛ إِلا أن يثبت ذلك عند الإِمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم، لأنَّ البلاد في حقِّه كالبلد الواحد، إِذ حُكمه نافذ في الجميع، قاله ابن الماجشون.
وثالثها: أنَّها إِنْ تقاربت البلاد؛ كان الحُكم واحد، وإِنْ تباعدت فوجهان؛ لا يجب عند الأكثر.
قاله بعض الشافعية واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي.
وفي ضبط البعيد أوجه:
أحدها: اختلاف المطالع؛ قطع به العراقيون والصيدلاني، وصحّحه
النووي في "الرّوضة" و"شرح المهذَّب".
وثانيها: مسافة القصر، قطع به البغوي وصحّحه الرافعي والنووي.
ثالثها: باختلاف الأقاليم حكاه في "الفتح".
رابعها: أنه يلزم أهل كلّ بلد؛ لا يتصور خفاؤه عنهم، بلا عارض دون غيرهم، حكاه السرخسي.
خامسها: مِثل قول ابن الماجشون المتقدّم.
سادسها: أَنّه لا يلزم إِذا اختلفت الجهتان ارتفاعاً وانحداراً؛ كأن يكون أحدهما سهلا والآخر جبلاً، أو كان كل بلد في إِقليم، حكاه المهدي في البحر؛ عن الإِمام يحيى والهادوية.
وحُجّة أهل هذه الأقوال؛ حديث كريب (1). ووجه الاحتجاج به أنَّ ابن عبّاس لم يعمل برؤية أهل الشام.
وقال في آخر الحديث: "هكذا أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فدل ذلك على أنَّه قد حفظ من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يلزم أهل بلدٍ العمل برُؤية أهل بلد آخر".
وقد تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطرِوا لرؤيته".
فهذا خطاب لجميع الأمّة، فكما أنَّ رؤية الواحد كالرؤية لأهل البلد؛ كانت الرؤية في البلد؛ كالرؤية في كلّ البلاد.
وقال شيخ الإِسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(25/ 107):
(1) انظر ما فصّله الحافظ رحمه الله في "الفتح"(4/ 123).
"
…
فالضابط أنَّ مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" فمن بلغه أنه رؤي؛ ثبت في حقّه؛ من غير تحديدٍ بمسافة أصلاً
…
".
وقال رحمه الله (ص 111): "
…
ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إِقليم؛ فقوله مخالفٌ للعقل والشرع".
وجاء في "الروضة النديّة"(1/ 537): "وإذا رآه أهل بلدٍ؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وجْهُهُ الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإِفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان كان ذلك رؤيةً لجميعهم".
وقد استدلّ من رأى أنَّ لأهل كل بلد رؤيتهم، وأنّه لا يلزمهم رؤية غيرهم؛ بحديث كُريب "أنَّ أمّ الفضل بنت الحارث بعَثته إِلى معاوية بالشام.
قال: فقدِمتُ الشام، فقضيتُ حاجتها واسْتُهِلَّ (1) عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدِمتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما ثمّ ذكَر الهلال فقال: رأيتم الهلال؟
فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية.
فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه.
(1) أي: ظهر عليّ هلال رمضان.
فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا؛ هكذا أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشك يحيى بن يحيى في: نكتفي أو تكتفي" (1).
جاء في "الشرح الكبير" لشمسِ الدين بن قدامة (3/ 8): "
…
فأما حديث كريب؛ فإِنما دل على أنّهم لا يفطرون بقول كريب وحده -ونحن نقول به- وإنما محلّ الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث".
وجاء في "الروضة النديّة"(1/ 537): "وأمَّا استدلال من استدل بحديث كريب
…
أنّه استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عبّاس فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه.
ثمّ قال: هكذا أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فغير صحيح (2)، لأنه لم يُصرّح ابن عبّاس بأنّ النّبيّ- صلى الله تعالى عليه وسلم- أمَرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عبّاس أنه أمرهم بإِكمال الثلاثين أو يروه، ظنّاً منه أنّ المراد بالرؤية رؤية أهل المحلّ.
وهذا خطأ في الاستدلال؛ أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرّقوا في ذلك على ثمانية مذاهب.
وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سمّاها "إِطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال".
(1) أخرجه مسلم: 1087.
(2)
أي: في الاستدلال به لا في الحُكم على صحّة الحديث.
قال في "المسوى": "لا خلاف في أنّ رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر.
والأقوى عند الشافعي؛ يلزم حُكم البلد القريب دون البعيد، وعند أبي حنيفة يلزم مطلقاً".
وجاء في "نيل الأوطار"(4/ 267): "واعلم أن الحجَّة إِنِّما هي في المرفوع من رواية ابن عبّاس؛ لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إِليه بقوله هكذا أمَرنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -هو قوله: "فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما أخرَجه الشيخان وغيرهما بلفظ:"لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإِن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
وهذا لا يختص بأهل ناحية؛ على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكلّ من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنّه إِذا رآه أهل بلد؛ فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزِمهم.
ولو سلم توجُّه الإِشارة في كلام ابن عبّاس إِلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر؛ لكان عدم اللزوم مقيّداً بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع.
وعدم عمل ابن عبّاس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف؛ عملٌ بالاجتهاد وليس بحُجّة
…
".
وقال شيخنا رحمه الله في "تمام المِنّة"(ص 398): "
…
إِنّ
حديث ابن عبّاس ورَد فيمن صام على رؤية بلده، ثمّ بلَغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة؛ يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين، أو يروا هلالهم، وبذلك يزول الإِشكال.
ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه؛ يشمل كل من بلَغه رؤية الهلال من أي بلد أو إِقليم؛ من غير تحديد مسافة أصلاً؛ كما قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(25/ 107)، وهذا أمر متيسِّر اليوم كما هو معلوم، ولكنّه يتطلّب شيئاً من اهتمام الدول الإِسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إِن شاء الله تبارك وتعالى.
وإلى أن تجتمع الدول الإِسلامية على ذلك؛ فإِنّي أرى على شَعْب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها -تقدّمت في صيامها أو تأخّرت- لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشَّعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية، منذ بضع سنين. والله المستعان". انتهى.
وعن الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار، فصام يوم الاثنين، وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد.
فقال: لا يقضي ذلك اليوم الرجل، ولا أهلُ مِصره، إِلا أن يعلموا أنَّ أهل مصر من أمصار المسلمين؟ قد صاموا يوم الأحد فيقضونه" (1).
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2045)، وقال شيخنا رحمه الله: صحيح مقطوع.