الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأنبياء أُمِرنا بتعجيل فِطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضَع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (1).
وعن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تسحَّرنا مع النّبىِّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ قام إِلى الصلاة، قلت (2): كم كان بين الأذان (3) والسّحور؟ قال: قَدْر خمسين آية (4) "(5).
جاء في "الفتح"(4/ 199): "قال ابن عبد البرّ: أحاديث تعجيل الإِفطار وتأخير السّحور صِحاح متواترة، وعند عبد الرزاق بإِسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم أسرَعَ النّاس إِفطاراً وأبطأهم سحوراً".
هل يفطر إِذا أكل أو شرب أو جامع، ظانّاً غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر
؟
مَن أكَل أو شرب أو جامع ظانّاً غروب الشمس، أو عدم طلوع الفجر، ثمّ
(1) أخرجه ابن حبان والضياء بسند صحيح، وانظر "التعليقات الرضيَّة"(2/ 20) و"الصحيحة"(4/ 376).
(2)
قلتُ: هو مقول أنس، والمقول له زيد بن ثابت رضي الله عنهما.
(3)
أي: الإقامة، وبوّب له البخاري رحمه الله في كتاب الصوم بقوله:(باب كم بين السَّحور وصلاة الفجر). جاء في "الفتح"(4/ 138): "وقال: أي انتهاء السّحور وابتداء الصلاة؛ لأنّ المراد تقدير الزّمان الذي ترك فيه الأكل والمراد بفعل الصَّلاة؛ أول الشّروع فيها قاله الزين بن المنيّر".
(4)
أي: متوسطة؛ لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة "فتح".
(5)
أخرجه البخاري: 1921، ومسلم:1097.
ظهر له خلاف ذلك فإِنّه لا يفسد صومه، وليس عليه قضاء ولا كفّارة.
جاء في "المحلّى"(6/ 331) المسألة (753): "ومن أكل وهو يظنّ (1) أنّه ليل، أو جامَع كذلك؛ أو شرب كذلك؛ فإِذا به نهار -إِما بطلوع الفجر، وإمّا بأنّ الشَّمس لم تغرب-: فكلاهما لم يتعمّد إِبطال صومه، وكلاهما ظن أنَّه في غير صيام، والناسي ظنّ أنّه في غير صيام ولا فرق، فهما والناسي سواء ولا فرق.
وليس هذا قياساً (2) -ومعاذ الله من ذلك- وإنما يكون قياساً لو جعلنا الناسي أصلاً؛ ثمّ شبّهنا به مَن أكل وشرب وجامع، وهو يظنّ أنّه في ليل فإِذا به في نهار، ولم نفعل هذا، بل كلّهم سواء في قول الله تعالى:{ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم} (3) وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله تجاوز لأمّتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرِهوا عليه"(4)، وهذا قول جمهور السَّلف.
ثمّ ساق بإِسناده إِلى جمْع من السَّلف في ذلك ومنه:
(1) الظنّ: إِدراك الذهن الشيءَ مع ترجيحه، وقد يكون مع اليقين. "الوسيط".
(2)
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في التعليق: "سواءٌ رضي المؤلف أن يكون هذا قياساً أو لم يرضَ، فإِنه قياسٌ في الحقيقة على الناسي، لأنّ النصّ لم يدلّ على عدم بطلان صوم من أفطر ظانّاً أنه في ليل، والقياس على الناسي -الذي ذكره المؤلّف- قياس صحيح، وإنْ تحاشى هو أن يُسمّيه قياساً".
(3)
الأحزاب: 5.
(4)
تقدّم.
عن زيد بن وهب قال: أفطر النّاس في زمن عمر بن الخطاب فرأيت عِساساً (1) أُخرجَت من بيت حفصة، فشربوا، ثمّ طلعت الشّمس من سحاب، فكَأنّ ذلك شقَّ على النّاس.
فقالوا: نقضي هذا اليوم فقال عمر: لِمَ؟ والله ما تجانفنا لإِثم (2) ".
وروينا أيضاً من طريق الأعمش عن المسيّب عن زيد بن وهب، ومن طريق ابن أسلم عن أخيه عن أبيه ولم يذكر قضاء.
وقد رُوي عن عمر أيضاً القضاء، وهذا تخالف من قوله، فوجب الرُّجوع إِلى ما افترض الله تعالى الرّجوع إِليه عند التنازع، من القرآن والسنة؛ فوجدنا ما ذكَرنا قبل، مع أنّ هذه الرواية عن عمر أولى؛ لأن زيد بن وهب له صحبة، وإنّما روى عنه القضاء من طريق علي بن حنظلة عن أبيه.
ومن طريق شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عمّن تسحّر نهاراً وهو يرى أنّ عليه ليلاً، فقال: يُتمّ صومه.
وعن مجاهد قال: من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظنّ أنّه لم يطلع فليس عليه القضاء؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} .
وعن الحسن البصري فيمن تسحَّر وهو يرى أنّه ليل، قال: يُتمُّ صومه.
وعن جابر بن زيد فيمن أكل يرى أنَّه ليل فإِذا به نهار، قال: يُتمّ صومه.
(1) العِساس: جمع العُسّ: القدح الكبير.
(2)
أي: لم نمِلْ فيه لارتكاب الإِثم، ومنه قوله تعالى:{غير متجانفٍ لإِثم} [المائدة: 3]. "النهاية".
ثمّ اتفق عروة وعطاء فيمن أكل في الصّبح وهو يرى أنّه ليل: لم يقضه.
فهؤلاء: عمر بن الخطاب، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، والحسن، وجابر ابن زيد أبو الشعثاء، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير.
فإِنْ ذكَروا ما رويناه
…
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطر النّاس على عهد رسول صلى الله عليه وسلم ثمّ طلعت الشّمس".
قال أبو أسامة: قلت لهشام: فأُمِروا بالقضاء؟ فقال: ومن ذلك بدٌّ (1)؟! فإِنّ هذا ليس إلَاّ من كلام هشام، وليس من الحديث، فلا حُجّة فيه (2)، وقد قال معمر: سمعت هشام بن عروة في هذا الخبر نفسه يقول: لا أدري أقضوا أم لا؟! فصحّ ما قُلنا.
وأمَّا مَنْ أُكره على الفطر، أو وطئت امرأة نائمة، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها، أو صُبّ في حلقه ماء وهو نائم، فصوم النّائم والنّائمة، والمُكْره، والمُكْرهة تامّ صحيح لا داخلة فيه، ولا شيء عليهم، ولا شيء على المجنونة، والمغمى عليها، ولا على المجنون والمغمى عليه، لمَا ذكَرنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنّ الله تجاوز لأمتّه عن الخطأ والنِّسيان وما استُكرهوا عليه (3).
والنّائم والنّائمة مكرهان بلا شك، غير مُخْتارين لما فُعِل بهما.
وقال زفر: لا شيء على النّائم والنّائمة، ولا قضاء كما قلنا، سواء سواء، وصومهما تامّ -وهو قول الحسن بن زياد.
(1) أخرجه البخاري: 1959.
(2)
وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- كلام شيخ الإِسلام رحمه الله في ذلك.
(3)
تقدّم.
وقد رُوي أيضاً عن أبي حنيفة في النّائم مثل قول زفر.
وقال سفيان الثّوري: إِذا جومعت المرأة مُكْرهة في نهار رمضان فصومها تامّ، لا قضاء عليها، وهو قول عبيد الله بن الحسن، وبه يقول أبو سليمان، وجميع أصحابنا.
والمجنون والمغمى عليه غير مخاطَبَين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم"(1).
قال شيخ الإِسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(25/ 228): "
…
وكذلك طرد هذا أنّ الصائم إِذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً، فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف ومنهم من يُفَطِّر الناسي والمخطئ كمالك
…
".
وقال رحمه الله (ص 231): "وأيضاً فقد ثبت في "صحيح البخاري" عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ طلعت الشمس
…
".
وهذا يدلّ على شيئين: على أنّه لا يُسْتحَب مع الغيم التأخير إِلى أن يتيقّن الغروب
…
والثاني: لا يجب القضاء فإِنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لو أمَرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلمّا لم يُنقَل ذلك دلّ على أنّه لم يأمرهم به.
فإِنْ قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء؟
(1) تقدّم.
قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدلّ على أنّه لم يكن عنده بذلك علم أنّ معمراً روى عنه قال: سمعت هشاماً قال: لا أدري أقضوا أم لا؟
ذكَر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمِّه فاطمة بنت المنذر عن أسماء.
وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه، وهذا قول إِسحاق بن راهويه -وهو قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب: أصوله وفروعه، وقولهما كثيراً ما يجمع بينه
…
".
وجاء (ص 259) منه: "وسئل عن رجل باشر زوجته، وهو يسمع المتسحر يتكلّم، فلا يدري: أهو يتسحّر؟ أم يؤذّن، ثمّ غلب على ظنِّه أنّه يتسحَّر، فوطئها، وبعد يسير؛ أضاء الصبح، فما الذي يجب عليه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: عليه القضاء، والكفّارة، هذا إِحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك: عليه القضاء لا غير، وهذه الرواية الأخرى عنه، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة وغيرهما.
والثالث: لا قضاء ولا كفّارة عليه.
وهذ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أظهر الأقوال، ولأنّ الله تعالى عفا عن الخطأ والنِّسيان، وأَباح سبحانه وتعالى الأكل والشرب، والجماع حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والشاكّ في طلوع الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق، ولا قضاء عليه إِذا استمر الشَّك".
وجاء (ص 264) منه: "وهذا القول أصحّ الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنَّة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإِنّ الله رفع المؤاخذة عن الناسي، والمخطئ، وهذا مخطئ.
وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحبَّ تأخير السّحور، ومن فعل ما ندب إِليه، وأُبيح له، لم يفرّط فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم".
وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح"(4/ 200) -بحذف-: "وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الجمهور إِلى إِيجاب القضاء
…
وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إِسحاق وأحمد في رواية.
قال ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"(3/ 239): "ليس في هذا الخبر أنّهم أمروا بالقضاء، وهذا من قول هشام: بدٌّ من ذلك، لا في الخبر، ولا يُبيّن عندي أنّ عليهم القضاء، فإِذا أفطروا والشمس عندهم قد غربت، ثمّ بان أنها لم تكن غَرَبت؛ كقول عمر بن الخطاب: والله ما نقضي ما يجانفنا من الإِثم".
وسألت شيخنا رحمه الله قائلاً: إذا أكل ظانّاً غروب الشمس فظهر خلاف ذلك، أو ظنَّ عدم طلوع الفجر. فقال رحمه الله:"إِذا كان معذوراً في ظنّه فلا يعدُّ مُفطراً". انتهى.
قلت: والراجح عدم القضاء -والله تعالى أعلم- لِمَا وردَ عن السلف من آثارٍ في ذلك، فإِنْ كان بالنقل فهم أولى، وإن كان بالرأي فرأيهم خير من رأي سواهم (1).
(1) ذكره بعض العلماء.