الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنهما-: أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال، إِنما هي مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به.
فقلت: إِن للعاملين عليها حقاً وللمجاهدين، فقال: للعاملين عليها بقدر عمالتهم، وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم -أو قال حالهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الصدقة لا تحلّ
…
" (1). الحديث.
وأمّا ما جاء في المساكين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردُّه اللُّقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه، ولا يُفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"(2).
وليس ثمّة فرقٌ من حيث الحاجة واستحقاق الزكاة بين الفقراء والمساكين؛ إِذ النّصوص تدّل على هذا.
ففي "النهاية": (المسكين): الذي لا شىء له، وقيل: هو الذي له بعض الشيء.
وفي "النهاية"كذلك في تفسير كلمة (الفقير): الفقير الذي لا شيء له،
(1) أخرجه البيهقي، قال شيخنا رحمه الله في "الإِرواء" (3/ 382): وهذا سند يتقوى بالذي قبله [أي: حديث ابن عمرو]، فإِن عطاء هذا أورده ابن أبي حاتم (3/ 1/332) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ورواه ابن أبي شيبة من طريق ثالث موقوفاً. وسنده صحيح.
(2)
أخرجه البخاري: 1479، ومسلم:1039.
والمسكين الذي له بعض ما يكفيه، وإِليه ذهب الشافعي، وقيل فيهما بالعكس وإليه ذهب أبو حنيفة.
وفي تفسير "ابن كثير": في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين} : قدّم الفقراء هاهُنا على البقيّة؛ لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة فاقتهم وحاجتهم.
قال ابن كثير رحمه الله: "واختار ابن جرير وغير واحد؛ أنَّ الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويَتْبَع الناس شيئاً".
وإلى هذا تميل نفسي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنىً يُغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس".
وهذا فيه التعريف السائد للمسكين في المجتمع، وجاء الشرع ليُلغي المعنى، لا ليُلغي التعريف، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعة (1)، إِنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(2).
وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إِنّ المفلس من أمتي؛ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذَف هذا، وأَكل مال هذا، وسَفَك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإِنْ فنيت حسناته، قبْل أن يُقْضى
(1) الذي يصرع النّاس كثيراً بقوّته. "فتح".
(2)
أخرجه البخاري: 6114، ومسلم:2609.
ما عليه، أخذ من خطاياهم فَطُرِحت عليه، ثم طرح في النار" (1).
وكقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تَعُدّون الرَّقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له، قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنّه الرجل الذي لم يُقدِّم من ولده شيئاً"(2).
قال ابن الأثير في "النهاية": "الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة إِذا لم يَعِش لهما ولد، لأنّه يرقب موته ويرصُده؛ خوفاً عليه، فنَقله النّبيّ صلى الله عليه وسلم إِلى الذي لم يقدّم من الولد شيئاً أي: يموت قبله؛ تعريفاً أنّ الأجر والثواب لمن قدَّم شيئاً من الولد، وأنّ الاعتداد به أكثر والنفع به أعظم
…
ومن لم يُرزق ذلك؛ فهو كالذي لا ولد له، ولم يقُلْه إِبطالاً لتفسيره اللغوي" (3).
ويمكننا أن نقول هذا في حديث: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان"، فهذا هو المعنى اللغوي وهو الواقع الاجتماعي، ولم يقُل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقولته ليبطل تفسيره اللغوي.
ولهذا يمكننا أن نقول عن المسكين: إِنه الذي يُفطن له بالصدقة ويسأل الناس، وطالما سأل الناس وفُطن له بالصدقة فإِنه واجدٌ ما يُغنيه، فجاء الحديث ليُبيّن الأَوْلى منه بالصدقة وهو مَنْ لا يسأل الناس، ولا يُفطن له بالصدقة، ولا يجد ما يُغنيه.
وقد قال الله تعالى: {للفقراء الذين أُحصِروا (4) في سبيل الله لا
(1) أخرجه مسلم: 2581.
(2)
أخرجه مسلم: 2608.
(3)
وقد فصّلت القول فيه في "شرح صحيح الأدب المفرد"(1/ 182).
(4)
أي: حصَرهم الجهاد أي: منَعهم الاشتغال به من الضّرْب في الأرض -أي: =
يستطيعون ضَرْبَاً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إِلحافاً (1)} (2).
فالفقراء إِذن قد تكون عندهم موانع تمنعهم من التكسّب، أو أنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً لبعض الأسباب، ويحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، بعكس الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان.
وهم لا يسألون الناس إِلحافاً بعكس من يسأل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقوم فيسأل الناس
…
".
وفي حديث: "ليس المسكين
…
" قال الحافظ (3/ 343): "وفيه دلالة لمن يقول: إِنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأنّ المسكين الذي له شيء لكنّه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له
…
ويؤيده قوله تعالى: {أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} (3) فسمّاهم مساكين مع أنّ لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه.
فإِنْ قلتَ: قد جاءت الآيات الكثيرة في الحض على إِطعام المسكين، فلماذا لم يكن ذلك في الفقير وهو أولى؟
قلتُ: الفقير والمسكين كلاهما من أهل الحاجة، الذين يشرع التصدّق
= التجارة- لاشتغالهم به عن التكسّب. "فتح"(3/ 341).
(1)
أي: لا يُلحّون في المسألة ويكلّفون الناس ما لا يحتاجون إِليه. "ابن كثير".
(2)
البقرة: 273.
(3)
الكهف: 79.
عليهم، ولكن جاء التوبيخ والتقريع لمن لم يقدّم العون الواجب؛ لمن تكون حاجته ظاهرة وهو المسكين، كقوله تعالى:{ولا يحضُّ على طعام المسكين} (1). وكقوله تعالى: {ولا تحاضّون على طعام المسكين} (2).
والخُلاصة؛ أنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وهذا نابع من تعفّفه وعدم سؤاله الناس، ولا يفطن الناس له في صدقاتهم؛ فيحتاج إِلى مثابرة في التعرّف على هذا النوع؛ لرفع الجهل المنبوذ الذي ذكره الله تعالى في كتابه:{يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف} (3).
وهذا لا ينفي جواز الصدقة على المسكين كما في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين} ولكن معرض الكلام في بيان أصناف المحتاجين وبيان الأولى في ذلك، لذلك قال ابن كثير: وإنما قدّم الفقراء هاهُنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة حاجتهم.
ولهذا فهناك خصوص وعموم بين المسكين والفقير، فالفقير أعمّ والمسكين أخصّ، فكلّ مسكين فقير، وليس كلّ فقير مسكيناً، وهو كقولنا: كلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مسلم مؤمناً، قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلَمنا ولمّا يدخل الإِيمان في
(1) الحاقة: 34.
(2)
الفجر: 18.
(3)
البقرة: 273.