الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضاء رمضان
من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء.
جاء في "الرّوضة النّدية"(1/ 547): "يجب على مَنْ أفطر لعذر شرعي أنْ يقضي؛ كالمسافر والمريض.
وقد صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أُخر} (1).
وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة رضي الله عنها
…
والنفساء مِثلها". [بلفظ: فتؤمر بقضاء الصِّيام ولا تؤمر بقضاء الصّلاة](2).
متى يقضى قضاء رمضان
(3)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فعِدَّة من أيّام أُخر} (4): في القضاء "
…
هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان:
أحدهما: أنّه يجب التتابع، لأنّ القضاء يحكي الأداء.
والثاني؛ لا يجب التتابع، بل إِنْ شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إِنِّما وجب في الشّهر؛ لضرورة
(1) البقرة: 184.
(2)
أخرجه البخاري: 321، ومسلم:335.
(3)
هذا العنوان في "صحيح البخاري"(كتاب الصوم)"باب - 40".
(4)
البقرة: 185.
أدائه في الشّهر، فأمّا بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال الله تعالى:{فعدّة من أيّام أُخر} ". انتهى.
عن أبي سلمة قال: سمعْتُ عائشة رضي الله عنها تقول: "كان يكون عليَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلَاّ في شعبان. قال يحيى: الشُّغل من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم"(1).
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "لا بأس أن يُفرِّق؛ لقوله الله تعالى: {فعدّة من أيّام أُخر} (2).
وعنه رضي الله عنهما كذلك في قضاء رمضان: "صُمه كيف شئت"، وقال ابن عمر رضي الله عنهما "صُمه كما أفطرته"(3).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما في قضاء رمضان-: "يُتابِع بينه"(4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يواتِره (5) إِن شاء" (6).
(1) أخرجه البخاري: 1950، ومسلم:1146.
(2)
البقرة: 185.
(3)
أخرجه البيهقي وعنه ابن أبي شيبة وقال شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(4/ 95): "وهذا سند صحيح على شرط الشيخين".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة وقال شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(4/ 95): "وسنده صحيح".
(5)
يواتره: أي: يُفرِّقه، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يَلزَمُه التتابع فيه فيقضيه وتراً وتراً". "النهاية".
(6)
أخرجه الدارقطني وقال شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(4/ 95): "وإسناده صحيح".
قال شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(4/ 97): "وخلاصة القول؛ أنّه لا يصحّ في التفريق ولا في المتابعة حديث مرفوع، والأقرب جواز الأمرين كما في قول أبي هريرة رضي الله عنه[المتقدّم: "يُواتره إِن شاء] (1) ".
جاء في "الفتح"(4/ 189): "قال الزين بن المنيِّر [-بحذف بعد حديث عائشة رضي الله عنها السابق]:
…
وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء لولا ما منَعَها من الشغل، فيشعر بأنّ من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: -أي: الحافظ رحمه الله: ظاهر صنيع البخاري يقتضي جواز التراخي والتفريق؛ لما أودَعَه في الترجمة من الآثار كعادته -وهو قول الجمهور-.
ونقل ابن المنذر وغيره عن عليّ وعائشة وجوب التتابع، وهو قول بعض أهل الظاهر.
وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعاً
…
ولا يختلف المجيزون للتفريق أنَّ التتابع أولى".
وجاء في "تمام المِنّة"(ص421): "قوله -أي: الشيخ السيد سابق رحمه الله: "قضاء رمضان لا يجب على الفور، بل يجب وجوباً موسَّعاً في أيِّ وقت، وكذلك الكفَّارة".
قلت: -أي: شيخنا رحمه الله هذا يتنافى مع قوله تعالى: {وسارعوا إِلى مغفرة من ربّكم} [آل عمران: 133]، فالحقّ وجوب المبادرة إِلى القضاء حين الاستطاعة، وهو مذهب ابن حزم (6/ 260)، وليس يصحُّ في
(1) هذه الزيادة من التحقيق الثاني "للإِرواء".
السُّنّة ما يعارض ذلك.
وأمّا استدلال المؤلف على عدم الوجوب بقوله: "فقد صحّ عن عائشة أنّها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان. (رواه أحمد ومسلم)، ولم تكن تقضيه فوراً عند قدرتها على القضاء".
فليس بصواب؛ لأنّه ليس في حديث عائشة أنّها كانت تقدر أن تقضيه فوراً، بل فيه عكس ذلك، فإِنّ لفظ الحديث عند مسلم (3/ 154 - 155):"كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إِلا في شعبان، الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وهكذا أخرجه البخاري أيضاً في "صحيحه" -خلافاً لما أوهمه تخريج المصنف- وفي رواية لمسلم عنها قالت: "إِنْ كانت إِحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تقدر على أنْ تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان".
فالحديث بروايتيه صريح؛ في أنّها كانت لا تستطيع، ولا تقدر على القضاء قبل شعبان، وفيه إِشعار بأنَّها لو استطاعت لَمَا أخّرته، فهو حجّة على المؤلف ومَن سبَقه.
ولذلك قال الزين بن المنيِّر رحمه الله: "وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء، لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأنّ مَنْ كان بغير عذر، لا ينبغي له التأخير"(1).
واعلم أنّ ابن القيم والحافظ وغيرهما قد بيّنا أنّ قوله في الحديث:
(1) وتقدم في بداية المبحث.
"الشُّغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ مدرج في الحديث، ليس من كلام عائشة، بل من كلام أحد رواته، وهو يحيى بن سعيد، ومن الدليل على ذلك قول يحيى في روايةٍ لمسلم:"فظننت أنّ ذلك لمكانها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم".
ولكن هذا لا يخدج فيما ذكَرنا؛ لأنّنا لم نستدل عليه بهذا المدرج، بل بقولها:"فما أستطيع .. "، والمدرج؛ إِنّما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة، وهذا لا يهمنا في الموضوع.
ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في خاتمة شرح الحديث: "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً، سواء كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة كما بيّناه مدرجة
…
فخفي عليه أنّ عدم استطاعتها هو العذر فتأمّل".
وجاء فيه (ص424): "وجملة القول؛ أنّه لا يصحّ في هذا الباب شيء لا سلباً ولا إِيجاباً، والأمر القرآني بالمسارعة يقتضي وجوب المتابعة إلَاّ لعذر، وهو مذهب ابن حزم أيضاً (6/ 261)، قال: "فإِنْ لم يفعل فيقضيها متفرِّقة، وتجزيه لقول الله تعالى:{فعدّةٌ من أيّام أُخر} ، ولم يحدد تعالى في ذلك وقتاً يبطل القضاء بخروجه، وهو قول أبي حنيفة". انتهى.
والخلاصة التي بدت لي: وجوب الصوم على الفور إِلا من عُذر، مع التتابع.
وجواز تفريقه من عُذرٍ أو ابتغاء استراحة؛ تدفع عنه مشقة التتابع، إِذ القول بجواز عدم الصيام على الفور وعدم التتابع، قد يفضي إِلى تأخير القضاء
شهوراً أو سنوات، وقد يقول قائل: إِنّ تأخير عائشة رضي الله عنها قضاءَها إِلى شعبان ليس على الوجوب. فماذا إِذاً؟!
أليس هذا بِمُفضٍ إِلى التقصير والتأخير؛ بل التفريط؟!
ولا يخفى علينا قوله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} (1).
وعن أبي أُمَامَة بن سهل قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير يوماً على عائشة، فقالت: لو رأيتما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، في مَرضٍ مَرِضَه.
قالت: وكان له عندي ستةُ دنانير -قال موسى: أو سبعة- قالت: فأمرني نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله.
قالت: ثم سألني عنها؟ فقال: ما فعَلت الستة -قال: أو السبعة-؟ قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك.
قالت: فدعا بها، ثمّ صفَّها في كفّه، فقال:"ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقي الله عز وجل، وهذه عنده! يعني: ستة دنانير أو سبعة"(2).
فهذا هو حُسن الظنّ بالله -سبحانه- فمن وافتْه المنيّة وقد أدّى ذلك؛ فقد فعَل الخير.
ومن وافتْه المنيّة في فترةٍ كان يستريح فيها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك، ذلك بحسب طاقته وقدرته، وقد عَلِم الله تعالى منه صِدق نيّته، فإِنه يرتجى له من الله المغفرة والرحمة، ولكن من أَخّر وسوَّف، فهذا الذي نرثي
(1) لقمان: 34.
(2)
أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة"(1014).
له ونأسف عليه.
ثمّ ما الفرق بين هذا وبين الذي استطاع الحجّ فأجّله لغير عُذر، ثمّ جاء أجله ولم يحجّ!
وعلى كلّ حال إِنّ مدار الأمر لا يُغادر وجود العُذر وعدم الاستطاعة؛ لمن أجَّل وفرّق، والله -تعالى- أعلم.
ثمَّ تدبّرت بعض ما جاء في الطرق الأُخرى من حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم بلفظ: "إِنْ كانت إِحدانا لتُفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يأتي شعبان"(1).
فتأمّل يرحمك الله: "أنْ تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتدبّر -وفّقك الله- الطريق الأخرى بلفظ:"ما كنتُ أقضي ما يكون عليّ من رمضان إلَاّ في شعبان، حتى توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
فماذا بعد أن توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل كانت عائشة رضي الله عنها تؤخّر القضاء إِلى شعبان؟
لا شكّ أنّ الجواب ظاهر، لأنّ الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم لا وجود له بعد مصيبة موته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لا محلّ لعدم الاستطاعة التي كانت تقولها رضي الله عنها:
(1) أخرجه مسلم: 1146.
(2)
أخرجه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء"(4/ 98).
"فما أستطيع" كما هو في حياته.
فلمن كان في مثل حال عائشة رضي الله عنها من الشُّغل، مِمّا يعذرها ولا تستطيع معه القضاء، نقول: لا بأس لا بأس!
وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: "مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم برجل يقلِّب ظهره لبطنه، فسأل عنه؟ فقالوا: صائم يا نبي الله! فدعاه فأمره أنْ يفطر فقال: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصوم؟! "(1).
وهكذا لأمَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي الذي كان يعاني من مشقة الصيام، على صومه، قائلاً: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصوم؟! وتأجيل عائشة من هذا الباب
…
ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم " -والله تعالى أعلم-.
ثمّ إِنّ هذا يدخل في مسألة أعمّ من هذه وهي: "ما حُكم أداء ما يتوجّب من الحقوق المتعلّقة بالله -سبحانه- أو العباد؟ أعلى الفور أمْ على التراخي؟ ".
ويطول الكلام في هذا، وحسْبنا قوله صلى الله عليه وسلم:"مطل (2) الغني ظُلم"(3).
وعن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيّ (4) الواجد (5)
(1) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الصحيحة"(2595)، وتقدّم.
(2)
أي: تسويف القادر المتمكّن من أداء الدين الحالّ.
(3)
أخرجه البخاري: 2287، ومسلم:1564.
(4)
جاء في "الفيض"(5/ 400): "الليّ: المطل، أصْله لوى فأدغمت الواو في الياء".
(5)
الواجد: الغني من الوُجد -بالضمّ- بمعنى السِّعة والقدرة، ويُقال: وجَد المال وجْداً أي: استغنى.