الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذا أُغْمِيَ هلال شوال وأصبح النَّاس صياماً
عن أبي عُمير بن أنس بن مالك قال: "حدَّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أُغْمِي علينا هلال شوّال، فأصبحنا صياماً، فجاء رَكْب من آخر النَّهار، فشَهِدوا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم رأوا الهلال بالأمس.
فأمَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وأن يخرجوا إِلى عيدهم من الغد" (1).
هل يصوم أو يُفطر مَنْ رأى الهلال وحده
؟
اختلف العلماء في هذا، فمنهم من رأى إِيجاب الصوم والفطر لمن انفرد برؤية الهلال؛ استناداً إِلى الحديث المتقدّم:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
ومنهم من رأى أنه لا يصوم ولا يُفطر إلَاّ مع الناس؛ استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم يومَ تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"(2).
وعن مسروق قال: "دخلت على عائشة يوم عرفة، فقالت: اسقوا مسروقاً سويقاً، وأكثروا حلواه.
قال: فقلت: إِنِّي لم يمنعني أن أصوم اليوم إلَاّ أنّي خفْتُ أن يكون يوم النحر، فقالت عائشة: النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس" (3).
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1340) وغيرهم، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(634).
(2)
أخرجه الترمذي وغيره، وانظر "الصحيحة"(224).
(3)
وحسنه شيخنا رحمه الله لغيره في "الصحيحة" تحت الحديث (224).
قال شيخنا رحمه الله عقب حديث: "الصوم يوم تصومون
…
" في "الصحيحة" (1/ 443): "
…
قال الترمذي عقب الحديث: "وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إِنّما معنى هذا؛ الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَم الناس".
وقال الصنعاني في "سبل السلام"(2/ 72): "فيه دليل على أن يُعتَبر في ثبوت العيد الموافقة للناس، وأنّ المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره، ويلزمه حُكمهم في الصلاة والإِفطار والأضحية.
وذكَر معنى هذا ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن"(3/ 214)، وقال: "وقيل: فيه الردُّ على من يقول: إِنَّ مَنْ عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل، جاز له أن يصوم ويفطر؛ دون مَنْ لم يعلم.
وقيل: إِنَّ الشاهد الواحد إِذا رأى الهلال، ولم يحكم القاضي بشهادته أنّه لا يكون هذا له صوماً، كما لم يكن للناس.
وقال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجه" -بعد أن ذكَر حديث أبي هريرة عند الترمذي-: "والظاهر أنه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل، وليس لهم التفرُّد فيها؛ بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة.
وعلى هذا؛ فإِذا رأى أحد الهلال، وردَّ الإِمام شهادته؛ ينبغي أن لا يثبت في حقّه شيء من هذه الأمور، ويجب عليه أن يتَّبع الجماعة في ذلك".
قلت: -أي شيخنا رحمه الله: وهذا المعنى هو المتبادر من
الحديث، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق؛ حين امتنع من صيام يوم عرفة، خشية أن يكون يوم النحر، فبيّنت له أنه لا عبرة برأيه، وأنّ عليه اتباع الجماعة؟ فقالت:"النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس".
قلت: -أي شيخنا رحمه الله: وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة؛ التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم، وإبعادهم عن كل ما يفرّق جمْعهم من الآراء الفردية، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد -ولو كان صواباً من وِجهة نظره- في عبادة جماعية؛ كالصوم والتَّعييد وصلاة الجماعة.
ألا ترى أنّ الصحابة رضي الله عنهم كان يصلّي بعضهم وراء بعض، وفيهم من يرى أنّ مسّ المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يُتمّ في السفر، ومنهم من يقصر؟!
فلم يكن اختلافهم هذا وغيره؛ ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإِمام الواحد، والاعتداد بها، وذلك لعلمهم بأن التفرُّق في الدين شرٌّ من الاختلاف في بعض الآراء.
ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإِمام الأعظم في المجتمع الأكبر كـ (منى)، إِلى حدّ ترْك العمل برأيه إِطلاقاً في ذلك المجتمع؛ فراراً ممّا قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه.
فروى أبو داود (1/ 307) أنَّ عثمان رضي الله عنه صلّى بمنى أربعاً، فقال عبد الله بن مسعود مُنكِراً عليه: صلّيتُ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدراً من إِمارته ثمّ
أتمَّها، ثمَّ تفرَّقت بكم الطرق، فلوددتُ أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبَّلتين.
ثمّ إِنّ ابن مسعود صلّى أربعاً! فقيل له: عبت على عثمان ثمّ صلّيت أربعاً؟! قال: الخلاف شرٌّ. وسنده صحيح.
وروى أحمد (5/ 155) نحو هذا عن أبي ذرّ -رضى الله عنهم أجمعين-.
فليتأمّل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور؛ أولئك الذين لا يزالون يتفرَّقون في صلواتهم، ولا يقتدون ببعض أئمّة المساجد، وخاصّة في صلاة الوتر في رمضان؛ بحُجّة كونهم على خلاف مذهبهم!
وبعض أولئك الذين يدّعون العلم بالفلك ممّن يصوم وحده ويفطر وحده؛ متقدّماً أو متأخِّراً على جماعة المسلمين؛ معتدّاً برأيه وعلمه؛ غير مبال بالخروج عنهم
…
" انتهى.
وقال شيخ الإِسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(25/ 204): "فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية؛ باتفاق العلماء، إِلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراًّ؟ على قولين للعلماء أصحّهما لا يفطر سرّاً، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور في مذهبهما".
وقال شيخنا في الردّ على السيد سابق -رحمهما الله تعالى- في "تمام المِنّة"(ص 399): "ومِن (مَنْ رأى الهلال وحده) وتحت هذا العنوان الجانبي قال: "واتفقَت أئمّة الفقه على أنّ مَن أبصَر هلال الصوم وحده أن
يصوم".
فأقول: هذا ليس على إِطلاقه، بل فيه تفصيل ذكَره شيخ الإِسلام ابن تيمية في فتوى له، فقال (25/ 114):"إِذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه، أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إِلا مع النّاس؟ على ثلاثة أقوال؛ هي ثلاث روايات عن أحمد".
ثمّ ذكَرها، والذي يهمّنا ذِكره منها ما وافق الحديث، وهو قوله:"والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون، وفِطركم يوم تُفطرون، وأضحاكم يوم تُضْحون". رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
قال: وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إِنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَم الناس".
وهذا الحديث مخرج في "الصحيحة"(224)، و"الإِرواء"(905) من طرق عن أبي هريرة، فمن شاء رجَع إِليها.
ثمّ قال ابن تيمية (117) -رحمه الله تعالى-: "لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إِذا رآه صام، فإِنه ليس هناك غيره"". انتهى.
قلت: وهذا الذي ينبغي أن يصار إِليه، إِذ قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون
…
". يُفهِم أنّ هذا جاء لإِلغاء الصوم أو الفطر الفردي، سواءٌ أصحّت الرُّؤية أم لم تصحّ، وإلا فلا قيمة للحديث ألبتة عياذاً بالله. والله أعلم.