الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما افترض تعالى رمضان -لا غيره- على الصحيح المقيم العاقل البالغ، فإِيجاب صيام غيره بدلاً منه؛ إِيجاب شرْعٍ لم يأذن الله -تعالى- به، فهو باطل.
ولا فرق بين أنْ يوجب الله -تعالى- صوم شهر مسمّى، فيقول قائل: إِنّ صوم غيره ينوب عنه بغير نصّ وارد في ذلك، وبين من قال: إِنّ الحجّ إِلى غير مكّة ينوب عن الحجّ إِلى مكّة، والصلاة إِلى غير الكعبة، تنوب عن الصلاة إِلى الكعبة، وهكذا في كل شيء.
قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (1)، وقال تعالى:{ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} (2).
ثمّ شرع يرُدُّ على المخالفين قياسهم كل مفطر بعمد؛ على المفطر بالقيء، وعلى المجامع في رمضان.
ثم روى مثل قوله عن الخلفاء الراشدين حاشا عثمان، وعن ابن مسعود وأبي هريرة، فراجِعه.
قلت [أي: شيخنا رحمه الله]: لكن المجامع في رمضان قد صح أنّه أمره بالقضاء أيضاً".
قضاء صوم النَّذر عن الميت من قِبل وليِّه
عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه
(1) البقرة: 229.
(2)
الطلاق: 1.
صيام (1) صام عنه وليُّه" (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنّ امرأة ركبَت البحر فنذَرت، إِنِ الله تبارك وتعالى أَنْجاها أنْ تصوم شهراً، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت.
فجاءت قرابة لها [إِمّا اختها أو ابنتها] إِلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:[أرأيتك لو كان عليها دَيْن كُنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فَدَيْن الله أحق أن يُقضى]، [فـ] اقضِ [عن أمّك] " (3).
وعنه رضي الله عنهما: "أنّ سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنّ أمّي ماتت وعليها نذر فقال: اقضه عنها"(4).
جاء في "أحكام الجنائز"(ص 215) -بتصرّف بعد أنْ ذكَر هذه الأحاديث-:
"قلت: وهذه الأحاديث صريحة الدَّلالة في مشروعيَّة صيام الوليّ عن
(1) خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصُم عنه وليّه، قاله الحافظ في "الفتح"(4/ 193).
(2)
أخرجه البخاري: 1952، ومسلم:1147.
(3)
أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي والبيهقي والطيالسي وأحمد والسياق مع الزيادة الثانية له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وصححه، وابن ماجه بنحوه، وفيه عندهم جميعاً الزيادة الثانية وعند مسلم الأخيرة. عن "أحكام الجنائز"(ص 214).
(4)
أخرجه البخاري: 2761، ومسلم:1638.
الميِّت صوم النَّذر، إلَاّ أنّ الحديث الأوّل (1) يدلُّ بإِطلاقه على شيء زائدٍ على ذلك، وهو أنّه يصوم عنه صوم الفرض أيضاً، وقد قال به الشافعيَّة، وهو مذهب ابن حزم (7/ 2، 8) وغيرهم.
وذهب إِلى الأوّل الحنابلة، بل هو نصُّ الإِمام أحمد، فقال أبو داود في "المسائل" (96):"سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يُصامُ عن الميِّت إلَاّ في النَّذر".
وحمَل أتباعه الحديث الأوَّل على صوم النَّذر، بدليل ما روت عَمْرة: أن أمّها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا بل تصدَّقي عنها مكان كل يوم نصف صاعٍ على كل مسكين. أخرجه الطحاوي (3/ 142) وابن حزم (7/ 4) واللفظ له بإِسنادٍ؛ قال ابن التركماني: صحيح.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إِذا مرض الرجل في رمضان، ثمّ مات ولم يصم؛ أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نَذْر قضى عنه وليُّه".
أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم (7/ 7) وصحح إِسناده.
قلت: [أي: شيخنا رحمه الله] وهذا التفصيل الذي ذَهَبتْ إِليه أمّ المؤمنين، وحَبْر الأمّة ابن عبّاس رضي الله عنهما وتابعهما إِمام السنَّة أحمد بن حنبل، هو الذي تطمئنُّ إِليه النَّفس، وينشرح له الصدر، وهو أعدل
(1) يشير بذلك رحمه الله إِلى حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم.
الأقوال في هذه المسألة وأوسطها.
وفيه إِعمالٌ لجميع الأحاديث؛ دون ردٍّ لأيّ واحد منها، مع الفهم الصحيح لها؛ خاصّة الحديث الأول منها، فلم تَفْهَم منه أمُّ المؤمنين ذلك الإِطلاق الشامل لصوم رمضان، وهي راويته.
ومن المقرَّر أنَّ راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيّما إِذا كان ما فَهِمَ هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا". انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى"(25/ 269): "وسُئل عن الميِّت في أيّام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصّيام، وتوفّي وعليه صيام شهر رمضان.
وكذلك الصلاة مدّة مرضه، ووالديه بالحياة. فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إِذا صاما عنه، وصلّيا؟ إِذا وصَّى، أو لم يوصِ؟
فأجاب: إِذا اتّصل به المرض، ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته إلَاّ الإِطعام عنه، وأمّا الصلاة المكتوبة، فلا يصلِّي أحد عن أحد، ولكن إِذا صلَّى عن الميت واحد منهما تطوُّعا، وأهداه له، أو صام عنه تطوُّعاً وأهداه له، نفَعه ذلك، والله أعلم".
وجاء في "تهذيب السنن" لابن القيم رحمه الله (7/ 27): "وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُقضى عنه بحال، لا في النّذر ولا في الواجب الأصلي، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني: أنّه يُصام عنه فيهما، وهذا قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي.
الثالث: أنّه يُصام عنه النَّذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس.
روى الأثرم عنه أنه "سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: أمّا رمضان فليطعم عنه، وأمّا النَّذر فيصام".
وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدلُّ كلام الصحابة، وبهذا يزول الإِشكال.
وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويُطْعم عنه"، فإِنّ هذا إِنّما هو في الفرض الأصلي، وأمّا النَّذر فيصام عنه، كما صرَّح به ابن عباس.
ولا معارضة بين فتواه وروايته، وهذا هو المرويُّ عنه في قصّة مَنْ مات وعليه صوم رمضان وصوم النَّذر، فرَّق بينهما، فأفتى بالإِطعام في رمضان، وبالصوم عنه في النَّذر.
فأيُّ شيء في هذا ممّا يوجب تعليل حديثه؟ وما روي عن عائشة من إِفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنّه يُطعَم عنها؛ إِنما هو في الفرض لا في النذر؛ لأنّ الثَّابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان: "أنّه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام".
فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارُضَ بين رأيها وروايتها.
وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأنّ النّذر ليس واجباً بأصل الشرع، وإنّما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه.
ولهذا شبَّهه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالدَّين في حديث ابن عبّاس، والمسؤول عنه فيه؛ أنّه كان صوم نذر، والدين تدخله النيابة.
وأمّا الصوم الذي فرَضه الله عليه ابتداء؛ فهو أحد أركان الإِسلام، فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإِنّ المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحقِّ العبودية التي خُلِقَ لها وأُمِر بها.
وهذا أمر لا يؤدّيه عنه غيره، كما لا يُسْلِم عنه غيره، ولا يصلِّي عنه غيره، وهكذا من ترك الحجّ عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترَك الزكاة فلم يُخرجها حتى مات (1)، فإِنّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فِعْلهما عنه بعد الموت لا يبرئ ذمَّته. ولا يُقبل منه، والحق أحقُّ أن يتبع.
وسرُّ الفرق: أنَّ النَّذر التزام المكلَّف لِمَا شُغِل به ذمَّته، لا أنّ الشارع ألْزَمه به ابتداءً، فهو أخف حُكْماً ممّا جعله الشَّارع حقاً له عليه، شاء أم أبى.
والذِّمّة تسَع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أنْ يشغلها المكلِّف بما لا قُدرة له عليه؛ بخلاف واجبات الشرع، فإِنِّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز.
(1) ولكن يبقى الحق المتعلِّق بالعباد، فتبرئة ذمَّته من جهتهم لا بدَّ منها، وذلك عن طريق الورثة، فلا بُدّ من دفْع الزكاة لأهلها. والله -تعالى- أعلم.
فواجب الذِّمَّة أوسع من واجب الشرع الأصلي، لأنَّ المكلّف متمكِّن من إِيجاب واجبات كثيرة على نفسه لم يوجبها عليه الشارع.
والذِّمَّة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع، فلا يلزم من دخول النِّيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع.
وهذا يبيِّن أنّ الصحابة أفقه الخلْق، وأعمقهم عِلماً، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه، وبالله التوفيق".
والخلاصة: "أنّه لا يُصام عن الميِّت إلَاّ صوم النَّذر، أمّا رمضان فيطعم عنه".
والحديث المتقدم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليّه". يحمل على صوم النّذر.
وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما " جاء رجل إِلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إِنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم؛ فدين الله أحقّ أن يقضى"(1).
فقد جاء ما يفسّرهما عند الشيخين أنّه صوم النَّذر قال شيخنا في "تمام المنّة"(ص 428) في الرَّد على السيد السابق -رحمهما الله تعالى- بعد قوله وروى أحمد وأصحاب السنن: "هذا يوهم أنّه لم يخرِّجه من هو أرقى في الصحَّة من المذكورين، وليس كذلك، فقد أخرجه الشيخان (2) في "الصوم"
(1) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم:1148.
(2)
قلت: فانظر -يرحمك الله- تحت الرقم السابق في "صحيح البخاري" =