الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيوخ- فكيف يكون في عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك، ومن أشدِّ الناس عيبًا من يتخذ حزبًا ليس بمأثورٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزبًا لبعض المشايخ، وَيدَع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيِّد بني آدم وإمام الخلق، وحجة الله على عباده"
(1)
.
بل وصل عند القوم أن يقال للداعي: استحضر صورة شيخك أثناء الدعاء، ولا شكَّ أنَّ في اعتقاد هذا الاستحضار ما فيه من التعلُّق بغير الله، فهو شركٌ صريحٌ والعياذ بالله.
فواجبٌ على أهل العلم إنكار البدع، قال أبو عمرو الداني
(2)
"ومن الواجب على السلاطين والعلماء إنكار البدع والضلالات، وإظهار الحجج وبيان الدَّلائل من الكتاب والسُّنَّة وحجية العقل؛ حتى يُقْطَع عُذْرُهُم، وتَبْطُل شُبَهُهم وتمويهاتُهم"
(3)
.
سادسًا: موقف ابن عجيبة من بدع الصوفية في توحيد العبادة
تعريف البدعة في اللغة:
قال الخليل: "البَدْعُ: إحداثُ شيءٍ لم يكن له من قبلُ خلقٌ، ولا ذكرٌ ولا معرفةٌ، والله بديعُ السموات والأرض: ابتدعهما، ولم يكونا قبل ذلك شيئًا يتوهّمهما متوهِّم، وبدع الخلق، والبِدْعُ: الشَّيء الذي يكون أوَّلًا في كلِّ أمر كما قال الله عز وجل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}
(4)
، أي: لستُ بأوَّل مُرْسَل.
(1)
مجموع الفتاوى 22/ 525.
(2)
أبو عمرو، عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر الأموي الأندلسي، القرطبي، ثم الداني، ولد سنة 371 هـ، ومن شيوخه: أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب صاحب البغوي، وهو أكبر شيخ له، وأحمد بن فراس المكي، توفي يوم نصف شوال سنة 444 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 17/ 77.
(3)
الرسالة الوافية، ص 288.
(4)
سورة الأحقاف: 9.
ونقول: لقد جئت بأمرٍ بديع، أي: مبتدعٌ عجيب، وابتدعت: جئت بأمرٍ مختلفٍ لم يعرف ذلك"
(1)
.
وقال الجوهري: "بدع: أبدعتُ الشيء: اخترعتُه لا على مثال، والله تعالى بديع السموات والأرض، والبديع: المبتدع، والبديع: المبتدَع أيضًا.
وشيءٌ بِدع بالكسر، أي: مبتدع، وفلانٌ بدع في هذا الأمر، أي: بديع، وقوم أبداع
…
، ومنه قوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} والبدعة: الحدَثُ في الدين بعد الإكمال.
واستبدعه: عدَّه بديعًا، وبدَّعه: نسبه إلى البدعة، وأبدعت الراحلة، أي: كلَّت، وقد أبدع بالرَّجل، أي: كلَّت راحلته"
(2)
.
البدعة في الاصطلاح:
قال الشاطبي: "فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبُّد لله سبحانه.
وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصُّها بالعبادات، وأمَّا على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة طريقةٌ في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ولا بدَّ من بيان ألفاظ هذا الحدِّ فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه.
(1)
العين 2/ 54.
(2)
الصحاح 3/ 1183 - 1184.
وإنما قيدت بالدين؛ لأنَّها فيه تخترع، وإليه يضيفها صاحبها.
وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة، كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها، خص منها ما هو المقصود بالحد، وهو القسم المخترع، أي: طريقة ابتدعت على غير مثالٍ تقدَّمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عمَّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كلِّ ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع، مما هو متعلِّق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنَّها وإن لم توجد في الزمان الأُول فأصولها موجودة في الشرع"
(1)
.
وأما موقف ابن عجيبة من بدع الصوفية فإنَّه يقرر كثيرًا منها، ومن البدع التي قرَّرها:
1 -
الصلاة عند الأضرحة
قال: "كنتُ أخرج إلى قُبَّة سيدي طلحة أتعبَّد فيها، ومرةً أخرج إلى قُبَّة سيدي عبد الله الفخار فأتعبد فيها
…
فكنتُ أصلِّي في الضحى خمسة عشر حزبًا من القرآن، وفي الليل كذلك، ولا أفتر من ذكر الله ليلًا ولا نهارًا فبقيت كذلك أيامًا، فرأيت سيدي طلحة في النوم وأنا عند ضريحه فانحنى عليَّ حتى مسَّ شعر لحيته وجهي"
(2)
.
(1)
الاعتصام 1/ 47.
(2)
الفهرسة، ص 43.
وكل من تقرَّب إلى الله عز وجل بما ليس من الحسنات المأمور بها أمَر إيجاب ولا استحباب فهو متبعٌ لهواه والشيطان قائده، وسبيله من سبيل الشيطان كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل
…
على كلِّ سبيلٍ منها شيطان يدعو إليه
(1)
(2)
.
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: "البدع والشبهات"
(3)
.
ولهذا لا بدَّ من معرفة الزيارة الشرعية لقبور المسلمين من الزيارة البدعية.
قال ابن تيمية: "فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدُّعاء للميِّت؛ كما يُقصد بالصَّلاة على جنازته الدعاء له.
فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}
(4)
فنهى نبيَّه عن الصَّلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون، فلمَّا نهى عن هذا، وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دلَّ ذلك على انتفاء
(1)
أخرجه أحمد في مسنده 1/ 435، رقم 4142، والدارمي 1/ 232، رقم 208، والنسائي في السنن الكبرى 6/ 343، رقم 11174، وابن حِبَّان 1/ 180، رقم 6، والحاكم 2/ 348، وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 25: فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقةٌ وفيه ضعف، وحسَّنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح 1/ 131.
(2)
سورة الأنعام: 153.
(3)
جامع البيان في تفسير القرآن 12/ 229.
(4)
سورة التوبة: 84.
هذا النهي عند انتفاء هذه العلة، ودلَّ تخصيصهم بالنهي على أنَّ غيرهم يُصلَّى عليه ويُقام على قبره إذ لو كان هذا غير مشروع في حقِّ أحدٍ لم يخصوا بالنهي، ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السُّنَّة المتواترة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي على موتى المسلمين وشرع ذلك لأُمَّته وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول:«سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل»
(1)
، وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأُحُدٍ ويعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم:«السَّلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منَّا والمستأخرين وإنَّا إن شاء الله بكم للاحقون»
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: «السَّلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون»
(3)
، فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم، وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكُفَّار كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أُمِّه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: «استأذنتُ ربِّي أن أستغفر لأُمِّي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي»
(4)
.
فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تشرع، ولو كان المقبور كافرًا بخلاف
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت 3/ 550، رقم 3223، وصحَّحه الحاكم في المستدرك، كتاب الجنائز 1/ 526، رقم 1372، وقال: صحيح الإسناد، وجوَّد إسناده النووي في المجموع 5/ 292، وصحَّحه الألباني في الجامع الصغير وزيادته 1/ 224، رقم 945.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء 2/ 669، رقم 2301.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب ما يقال عند دخول القبر 3/ 63، رقم 2229.
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في قبر أمه 3/ 65، رقم 1627
الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين.
وأمَّا الزيارة البدعية فهي التي يقصد بها أن يُطلب من الميت الحوائج أو يُطلب منه الدعاء والشفاعة أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أنَّ ذلك أجوب للدعاء.
فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة رضي الله عنهم لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرَّمًا منهيًّا عنه ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا» ، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنِّي أخشى أن يُتخذ مسجدًا
(1)
.
وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(2)
يحذر ما صنعوا.
فإذا كان هذا محرَّمًا وهو سببٌ لسخط الرَّبِّ ولعنته فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أنَّ ذلك من أسباب إجابة الدعوات ونيل الطلبات وقضاء الحاجات؟ وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان"
(3)
.
ونقل ابن القيم كلام شيخه ابن تيمية فقال: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور 1/ 408، رقم 1330.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها 2/ 67، رقم 1212.
(3)
مجموع الفتاوى 1/ 165 - 166، ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 196 - 197.
مراتب، أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثيرٌ من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثَّل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثَّل لعُبَّاد الأصنام، وهذا يحصل للكُفَّار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظِّمه فيتمثَّل له الشيطان أحيانًا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر، والتمسُّح به وتقبيله.
والمرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به، وهذا يفعله كثيرٌ من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أنَّ الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضًا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهى محرَّمة، وما علمت في ذلك نزاعًا بين أئمة الدين"
(1)
.
وهذه البدع آنفة الذكر تقدح في العقيدة، إمَّا أن تنافيها أو تنقضها، "
…
لهذا ينبغي أن يُشهر في الناس فسادها وعيبها، ليحذرها الناس فلا يقعوا فيها"
(2)
.
ولقد أجمع العلماء على بيان فساد أهل البدع، يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسُّنَّة أو العبادات المخالفة للكتاب والسُّنَّة، فإنَّ بيان حالهم وتحذير الأُمَّة منهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجُلُ يصوم ويصلِّي ويعتكف أحبُّ إليك أو يتكلَّم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلَّى واعتكف فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنما
(1)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 217.
(2)
الفروق 4/ 259.
هو للمسلمين هذا أفضل، فبيَّن أنَّ نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإنَّ هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا وأمَّا أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً"
(1)
.
وفي منهج ابن عجيبة تأثُّرٌ واضحٌ بآراء الفلاسفة.
قال ابن تيمية في ردِّه على الفلاسفة الدهرية: "وقد أحدث قومٌ من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئًا آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا، ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم فإنَّهم لا يقرون بأنَّ الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ولا أنَّه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءهم، فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرَّجُل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أنَّ ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثِّر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية فيقولون: إنَّ الإنسان إذا أحبَّ رجلًا صالحًا قد مات لا سيَّما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعَّال عندهم، أو النفس الفلكية يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيءٍ من ذلك، بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك، ومثَّلوا ذلك بالشمس إذا
(1)
مجموع الفتاوى 28/ 231 - 232.
قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائطٌ أو ماءٌ فاض عليه من شعاع تلك المرآة فهكذا الشفاعة عندهم وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.
وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبَّره، ولا ريب أنَّ الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب ضلال بني آدم وجعل القبور أوثانًا هو أول الشرك.
ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب ما يظن أنه من الميت، وقد يكون من الجن والشياطين مثل أن يرى القبر قد انشقَّ وخرج منه الميت وكلَّمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم وإنما هو شيطان فإنَّ الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعي أحدهم أنه النبي فلان، أو الشيخ فلان ويكون كاذبًا في ذلك.
وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جدًّا، والجاهل يظنُّ أنَّ ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلَّمه هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "وما أحفظ -لا عن صحابيٍّ ولا تابعيٍّ ولا عن إمامٍ معروف- أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده، ولا روى أحدٌ في ذلك شيئًا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن أحدٍ من الأئمة المعروفين، وقد صنَّف النَّاس في الدعاء وأوقاته وأمكنته، وذكروا فيه الآثار، فما ذكر أحدٌ منهم في فضل
(1)
مجموع الفتاوى 166 - 167 - 168، ينظر: النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين، ص 55، 199، 101، 108، 132، 166.
الدعاء عند شيءٍ من القبور حَرْفًا واحدًا -فيما أعلم-، فكيف يجوز -والحال هذه- أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل، والسَّلف تنكره ولا تعرفه، وتنهى عنه ولا تأمر به.
نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرِّقًا في كلام بعض الناس: فلانٌ تُرجى الإجابة عند قبره وفلانٌ يُدعى عند قبره، ونحو ذلك كما وجد الإنكار على من يقول ويأمر به، كائنًا من كان
…
"
(1)
.
وقال في موضعٍ آخر: "وأمَّا ما حُكي عن بعض المشايخ من قوله: إذا نزل بك حادثٌ، أو أمرٌ تخافه فاستوحني فيكشف ما بك من الشدَّة حيًّا كنتَ أو ميِّتًا.
فهذا الكلام ونحوه إمَّا أن يكون كذبًا من الناقل أو خطأً من القائل؛ فإنَّه نقلٌ لا يُعرف صدقه عن قائل غير معصوم، ومن ترك النقل المصدّق عن القائل المعصوم واتبع نقلًا غير مصدّق عن قائل غير معصوم فقد ضلَّ ضلالًا بعيدا"
(2)
.
"فعُلم أنَّ هذا من الضلال، وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه والله يغفر له إن كان مجتهدًا مخطئًا، وليس هو بنبيٍّ يجب اتباع قوله ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه، وقد قال الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}
(3)
(4)
.
"وهذه البدع إنما يحدثها أهل الغلو والشرك المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية في الأئمة ومن أشبههم من الغلاة في المشايخ"
(5)
.
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 246.
(2)
مجموع الفتاوى 27/ 125.
(3)
سورة النساء: 59.
(4)
مجموع الفتاوى 27/ 125، 27/ 465 - 467، و 27/ 167 - 168.
(5)
المرجع السابق 27/ 127.
2 -
الذكر بالاسم المفرد
قال ابن عجيبة في تفسيره لقول الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
(1)
"واذكر اسم ربك، أي: استغرق أنفاسك في ذكر اسمه الأعظم، وهو الاسم المفرد؛ الله الله"
(2)
.
وقال أيضًا: "والنار التي تحرق البشرية هي مخالفة الهوى، وتحمل النفس ما يثقل عليها، كالذُّل والفقر، ونحوهما مع دوام ذكر الاسم المفرد، فكلَّما فني فيه ذابت بشريته، وقويت روحانيته حتى تستولي على بشريته، فحينئذٍ يكون الحكم لها"
(3)
.
وابن عجيبة في قوله في الاسم المفرد يسير على عقيدة المتصوفة وابتداعهم للأذكار الباطلة، ولا ريب أنَّ هذا من الآثار السيئة المترتبة على ترك ما جاء في الوحيين، فليتأمل العاقل الحصيف كيف جرَّ هذا المنكر في الاستغراق في الاسم المفرد إلى ما هو أقبح منه في الانحراف العقدي.
قال ابن تيمية في ردِّه على الصوفية: "والذكر بالاسم المفرد مظهرًا ومضمرًا بدعةٌ في الشرع، وخطأٌ في القول واللُّغة، فإنَّ الاسم المجرَّد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا
(4)
.
وقال في موضعٍ آخر: "وأمَّا الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلامٍ تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلَّق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحدٌ من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة
(1)
سورة الإنسان: 25.
(2)
البحر المديد 7/ 205.
(3)
الفتوحات الإلهية، ص 251.
(4)
مجموع الفتاوى 10/ 396.
مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، لا يحكم عليه بنفيٍ ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره، وقد وقع من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وبـ (هو) في فنون الإلحاد وأنواع من الاتحاد
…
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السُّنَّة، وأدخل في البدعة، وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل"
(1)
.
وهذا الذكر بالاسم المفرد لا أصل له، ولا يدلُّ على مدحٍ ولا تعظيم، وكل ذلك من البدع والمحدثات المخالفة لطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، ولم يعمل به سلف الأُمَّة، فالخير كلُّ الخير في اقتفاء أثرهم واتباع هديهم.
قال ابن تيمية: "وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له فضلًا عن أن يكون من ذكر الخاصَّة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد"
(2)
.
وقال ابن القيم: "فإنَّ الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلًا، ولا مفيد شيئًا، ولا هو كلام أصلًا، ولا يدلُّ على مدحٍ ولا تعظيم، ولا يتعلَّق به إيمانٌ ولا ثواب، ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملة.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 227.
(2)
المرجع نفسه 10/ 227.
فلو قال الكافر: (الله، الله) من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلمًا فضلًا عن أن يكون من جملة الذكر، أو يكون أفضل الأذكار، وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال: الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالاسم الظاهر، أو الذكر بقوله:(هو، هو) أفضل من الذكر بقولهم: (الله، الله)، وكل هذا من أنواع الهوس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات"
(1)
.
وإذا كان حال أحدهم ذاكرًا مختليًا في الاسم المفرد -كما زعموا- فمتى سيتدبر آيات الله عز وجل ويدرك معاني الأحاديث النبوية، ويعمل بها على هدي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم "فإنَّ طريق السُّنَّة علمٌ وعدلٌ وهدى، وفي البدعة جهلٌ وظلمٌ، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس"
(2)
.
ولا شكَّ أنَّ ترديد هذا الاسم إلى جانب ما فيه من البدع، فهو تعدٍّ في الدعاء بجهر الصوت الجماعي، ولا يوجد لا في الكتاب ولا في السُّنَّة ما يدل على الاجتماع على الذكر جهرًا ولا علانية.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(3)
.
قال الشيخ السعدي: "ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكلُّ هذا داخلٌ في الاعتداء المنهي عنه"
(4)
.
ولقد نهى نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الذين رفعوا صوتهم بالتكبير، رغم أنهم لم يرفعوه
(1)
طريق الهجرتين، ص 498 - 499.
(2)
الإبداع في مضار الابتداع، ص 78، وينظر: المدخل، لابن الحاج 2/ 242.
(3)
سورة الأعراف: 55.
(4)
تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 1/ 291.
بصوتٍ واحد، ولكن امتثالًا للآية.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فكنَّا إذا علونا كبَّرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أيُّها النَّاس، اربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا ولكن تدعون سميعًا بصيرًا»
(1)
.
ومن حيث الكيفية فإنَّ الشارع إذا ندب لأمرٍ لا بدَّ أن يؤتى بالكيفية التي شرعها، ولا يزاد عليها ولا ينقص، قال الشاطبي: "إنَّ الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرًا في الجملة مما يتعلَّق بالعبادات مثلًا، فأتى المكلَّف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص، أو مقارنًا لعبادة مخصوصة والتزم ذلك بحيث صار متخيلًا أنَّ الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعًا من غير أن يدلَّ الدليل عليه، كان الدليل بمعزلٍ عن ذلك المعنى المستدل عليه.
فإذا ندب الشرع إلى ذكر الله، فالتزم قومٌ الاجتماع عليه على لسانٍ واحدٍ وبصوتٍ واحد، أو في وقتٍ معلومٍ مخصوصٍ عن سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدلُّ على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدلُّ على خلافه؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعًا شأنها أن تُفهم التشريع، وخصوصًا مع من يُقتدى به في مجامع الناس كالمساجد، فإنَّها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف فُهم منها بلا شكٍّ أنها سُنن، إذا لم تفهم منه الفرضية فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعًا محدثةً بذلك.
وعلى ذلك ترك التزام السلف الصالح لتلك الأشياء أو عدم العمل بها وهم
(1)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب الدعاء إذا علا عقبة 8/ 101، قم 2992.
كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد؛ لأنَّ الذكر قد ندب إليه الشرع في مواضع كثيرة حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر، بخلاف سائر العبادات كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
(1)
، ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله عز وجل ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات إلا ما عيَّنه الدليل كالغداة والعشي، ولا أظهروا منه إلا ما نصَّ الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه، وما سوى ذلك فكانوا مثابرين على إخفائه وسرِّه، ولذلك قال لهم حين رفعوا اصواتهم:«اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا» وأشباهه ولم يظهروه في الجماعات.
فكلُّ من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولًا؛ لأنَّه قيّد فيه بالرأي، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضي الله عنهم، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفًا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"
(2)
.
والغاية من ترديد الاسم المفرد عند الصوفية ما يلي:
أ الوصول إلى وحدة الوجود
قال ابن عجيبة: "فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عمَّا سوى المذكور، لما يعمر قلبك من النور، وربما قرب يعظم قرب نور المذكور فيغرق في النور حتى يغيب عمَّا سوى المذكور، حتى يصير الذاكر مذكورًا، والطالب مطلوبًا،
(1)
سورة الأحزاب: 41.
(2)
الاعتصام 1/ 249.
والواصل موصولًا
…
وهنا يسكت اللسان، وينتقل الذاكر للجنان، فيصير ذكر اللسان غفلة في حق أهل هذا المقام
…
؛ لأنَّ ذكره باللِّسان وتكلفه يقتضي وجود النفس، وهو شرك، والشرك أقبح من الغفلة
…
والفرض أنَّ الذكر محو في مقام العيان"
(1)
.
وقال أيضًا: "وهو ركنٌ قويٌّ في طريق الوصول"
(2)
.
وعلّق ابن عجيبة على تكرار ابن مشيش للفظ الجلالة بقوله: "كرره ثلاثًا على عدد العوالم الثلاثة: الملك والملكوت والجبروت، فكلُّ مرَّةٍ يعني بها عالَمًا ويترقى إلى عالمٍ آخر حتى يتقرر بالثلاثة في عالم الجبروت"
(3)
.
ب الكشف
(4)
قال ابن عجيبة: "النَّاس في الذكر على ثلاثة أقسام: قسم يطلبون الأجور، وقسم يطلبون الحضور، وقسم وصلوا ورفعوا الستور"
(5)
.
ج- الاستغراق
قال ابن عجيبة: لا يكون الفتح على تحقيق العبد بمقام الرضا إلا بعد تحققه بثلاثة أمور: الاستغراق في الاسم المفرد، صحبته للصالحين، مسكه بالعمل الصالح الذي لم يتصل به شيءٌ من العلل وهو التمسُّك بالشريعة المحمدية"
(6)
.
وهذه الشطحات الصوفية التي يريدون أن يصلوا إليها سبق بيانها والرد عليها في مباحث سابقة.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 119 - 110.
(2)
معراج التشوف، ص 42.
(3)
شرح صلاة ابن مشيش، ص 33 - 34.
(4)
تقدم في مصادر التلقِّي.
(5)
إيقاظ الهمم، ص 426.
(6)
شرح الآجرومية، ص 29.
3 -
شعائر التصوف (لبس المرقعة، التلقين، تعليق التسابيح)
قال ابن عجيبة: لما فتح الله علينا في علم الحقيقة أذن لي الشيخ في الخروج إلى تذكير عباد الله وتلقين الأوراد، فتاب الناس وعلَّقوا التسابيح في أعناقهم ثم استأذنت الشيخ في لبس المرقعة
(1)
.
ويقول أيضًا: "ولما لقنني
(2)
الورد قلتُ له: أنا بين يديك افعل بي ما شئت، فقال: تبارك الله عليك، ثم التفت إلى بعض أصحابه فقال لهم: سيدي أحمد متصفٌ بالزُّهد والورع والتوكُّل والصبر والحلم والرضى والتسليم والشفقة والرحمة والسخاء
…
حتى عد اثني عشر مقامًا فقلت له: يا سيدي هذا هو التصوُّف، فقال: هذا تصوُّف الظاهر وبقي تصوف الباطن ستعرفه إن شاء الله"
(3)
.
وقال: ثم علَّقتُ السُّبحة الغليظة في عنقي، ولبستُ المرقعة ففرَّ الناس منِّي، وتفرَّغتُ لسلوك الطريق
(4)
.
وهذه الأقوال التي ذكرها ابن عجيبة تبيِّن أنَّ بعض الصوفية اتخذوا لهم شعائر ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تعرف في عهد الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعين.
يقول ابن تيمية: "قد عُقل بالنَّقل المتواتر أنَّ الصحابة لم يكونوا يُلبسون مريديهم
(5)
خرقة، ولا يقصُّون شعورهم، ولا التابعون، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين
…
وقد علم كلُّ من له علمٌ بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحدٌ يلبس سراويل، ولا يُسْقَى ملحًا، ولا يختصُّ أحدٌ بطريقة تسمى
(1)
ينظر الفهرسة، ص 49، 54.
(2)
شيخه البوزيدي، سبقت ترجمته.
(3)
الفهرسة، ص 45، 56، 83.
(4)
الفهرسة، ص 83.
(5)
يعني ابن تيمية بمريديهم أصحابهم أو تلامذتهم من التابعين؛ لأنَّ المريد هو تلميذ الشيخ عند الصوفية.
الفتوة"
(1)
.
وللأسف فالبعض لا زالت عنده لوثة التصوف إمَّا تقليدًا للآباء، أو جهلًا بالعلم الشرعي، فتراهم يلبسون الخرقة زاعمين أنَّها لبس النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن تيمية: "وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشايخ المريدين فهذه ليس لها أصل يدلُّ عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسُّنَّة ولا كان المشايخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يلبسونها المريدين
…
وأمَّا جعل ذلك سُنَّةً وطريقًا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك"
(2)
.
أمَّا القول الحق في ذلك فيتضح بموقف السلف من علمائهم ومشايخهم.
قال ابن تيمية: "لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون، وتعلَّموا منهم، وتأدَّبوا بهم، واستفادوا منهم، وتخرَّجوا على أيديهم، وصحبوا من صحبوه منهم، وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة
…
وقد انتفع بكلٍّ منهم من نفعه الله، وكلهم متفقون على دين واحد، وطريق واحدة، وسبيل واحدة، يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلَّغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا قبلوه، ومن فهم من القرآن والسُّنَّة ما دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة استفادوه، ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه، فإنَّ هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(3)
.
(1)
منهاج السُّنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية 8/ 47.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 511.
(3)
سورة التوبة: 31.
ولم يكن أحدٌ منهم يجعل شيخه ربًّا يستغيث به، كالإله الذي يسأله ويرغب إليه، ويعبده ويتوكل عليه، ويستغيث به حيًّا وميتًا، ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كلِّ ما أمر، فالحلال ما حلَّله والحرام ما حرَّمه، وكانوا متعاونين على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، متواصين بالحق، متواصين بالصبر"
(1)
.
وقال ابن الجوزي: "وقد قرَّروا أنَّ هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ وجعلوا لها إسنادًا متصلًا كله كذبٌ ومحال
…
انظروا إخواني عصمنا الله وإياكم من تلبيس إبليس إلى تلاعب هؤلاء الجهلة بالشريعة وإجماع مشايخهم الذي لا يساوي إجماعهم بعرة"
(2)
.
وفعل الصوفية هذا فيه مصادمة لنصوص الوحي التي جاءت مستفيضة بالحثِّ على التزين واللِّباس الحسن، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
(3)
(4)
.
واستحسن النبي صلى الله عليه وسلم إظهار الزينة في غير إسراف ولا مخيلة، فقد قال صلى الله عليه وسلم للرَّجُل الذي قال يا رسول: الرَّجُلُ يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال»
(5)
.
وإنَّك لو سبرت كتب السُّنَّة لوجدت فيها أبوابًا كثيرةً خاصَّةً بالتجمُّل والزينة،
(1)
منهاج السُّنَّة النبوية 8/ 47 - 48.
(2)
تلبيس إبليس، ص 236.
(3)
سورة الأعراف: 31.
(4)
سورة فاطر: 12.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/ 65، رقم 275.
ولوجدتَ مؤلفيها يدعون إلى مجانبة الغلو، ويحذرون من أهل الأهواء في اعتقاداتهم الباطلة في لباسهم، وشعائرهم البدعية، ويعدون ذلك من ضعف الإيمان، ومتابعة الأمم السابقة.
وفي ذلك قال الآجري
(1)
: "من تصفَّح أمر هذه الأُمَّة من عالم عاقل، علم أنَّ أكثرهم العام منهم يجري أمورهم على سنن أهل الكتابين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى سنن كسرى وقيصر وعلى سنن أهل الجاهلية، وذلك مثل السلطنة وأحكامهم وأحكام العُمَّال والأمراء وغيرهم، وأمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية، والأكل والشرب والولائم، والمراكب والخدم والمجالس والمجالسة، والبيع والشراء، والمكاسب من جهات كثيرة، وأشباه لما ذكرت يطول شرحها تجري بينهم على خلاف السُّنَّة والكتاب، وإنما تجري بينهم على سنن من قبلنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والله المستعان، ما أقلَّ من يتخلَّص من البلاء الذي قد عمَّ الناس، ولن يميِّز هذا إلا عاقلٌ عالمٌ قد أدَّبه العلم"
(2)
.
واتخاذ الصوفية المرقعات شعارًا للزُّهد والتقشُّف مخالفة للشرع، بل الواجب على العبد أن يظهر أثر نعمة الله عليه، وهذا هو الذي أمرنا به نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
قال رجل: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني سيء الهيئة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هل لك من شيء؟» قال: نعم من كلِّ المال قد آتاني الله، فقال:«إذا كان لك مال فليُرَ عليك»
(3)
.
(1)
أبو بكر، محمد بن الحسين بن عبد الله، وقيل عبد الله الآجري البغدادي المكي، والآجري نسبته إلى درب الآجر وهي محلة ببغداد، وقيل نسبته إلى الآجر: وهو من طبيخ اللبن، له مؤلفات منها: كتاب أخلاق العلماء، أحكام النساء، الأمر بلزوم الجماعة وترك الابتداع، توفي سنة 360 هـ وعمره 80 عامًا وقيل 96. ينظر: وفيات الأعيان 4/ 114، تاريخ بغداد 2/ 239، معجم البلدان 1/ 51، سير أعلام النبلاء 16/ 135 شذرات الذهب 3/ 35.
(2)
الشريعة 1/ 322.
(3)
أخرجه النسائي، كتاب الزينة، باب ذكر ما يستحب من لبس الثياب وما يكره منها 8/ 196، والترمذي 4/ 207، وقال: حديثٌ حسن، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/ 394، رقم 1320.
وقال ابن بطة
(1)
: "ومن البدع
…
لبس الحرير والديباج وتخريق الثياب"
(2)
.
ويقول أيضًا: "فلو أنَّ رجلًا عاقلًا أمعن النظر اليوم في الإسلام وأهله لعلم أنَّ أمور الناس تمضي كلها على سنن أهل الكتابين
…
ومتى فكَّرت في ذلك وجدت الأمر كما أخبرتك في المصائب والأفراح وفي الزي واللباس
…
كل ذلك يجري بخلاف الكتاب والسُّنَّة"
(3)
.
ولعلَّ في هذا الردِّ غُنية، حتى يراجع المبتدع نفسه، ويعود إلى طريق الصواب؛ لأنَّ المبتدع كما هو معلوم معاندٌ للشرع، فهو يزداد من الله بُعْدًا والعياذ بالله، إن لم يتداركه الله بتوبةٍ قبل الموت.
قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(4)
.
وأمَّا تعليق السُّبحة في العنق فهي من المحدثات، يقول ابن تيمية رحمه الله:"وأمَّا اتخاذه -أي التسبيح بالمسبحة- من غير حاجة، أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك: فهذا إمَّا رياءٌ للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة، الأولُ محرَّم، والثاني أقلُّ أحواله الكراهة؛ فإنَّ مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذِّكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب"
(5)
.
(1)
أبو عبد الله، عُبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان وقيل حمران بن عمر بن عيسى المعروف بابن بطة العكبري، ولد سنة 304 هـ، من مؤلفاته: المناسك، الإمام ضامن، الإنكار على من قصَّر بكتب الصحف الأولى، ومن شيوخه: عمر بن الحسين الخرقي، وأبو بكر النيسابوري، والآجري، توفي سنة 387 هـ. ينظر: البداية والنهاية 11/ 343، الكامل في التاريخ 7/ 493، أسد الغابة 3/ 365، تاريخ الإسلام 27/ 107.
(2)
الشرح والإبانة، ص 342 - 343.
(3)
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية 4/ 572.
(4)
سورة النور: 63.
(5)
مجموع الفتاوى 22/ 506.
ويقول المناوي: "أمَّا ما أَلِفَه الغَفَلَةُ البطلةُ من إمساك سبحة يغلب على حباتها الزينة وغلو الثمن ويمسكها من غير حضور في ذلك ولا فكر ويتحدث ويسمع الأخبار ويحكيها وهو يحرِّك حبَّاتها بيده مع اشتغال قلبه ولسانه بالأمور الدنيوية فهو مذمومٌ مكروهٌ من أقبح القبائح"
(1)
.
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله
(2)
: "وإنَّه إذا انضاف إلى السُّبْحةِ أمرٌ زائدٌ غير مشروع، مثل جعلها في الأعناق تعبُّدًا، والتغالي فيها من أنها حبل الوصل إلى الله، ودخول أي معتقد نفعًا وضرًّا، وإظهار التنسُّك والزهادة، إلى غير ذلك مما يأباه الشرع المطهَّر، فإنَّه يحرم اتخاذها، بوجهٍ أشد
…
ومن وقف على تاريخ اتخاذ السُّبحة، وأنَّها من شعائر الكُفَّار من البوذيين والهندوس والنصارى وغيرهم، وأنَّها تسرَّبت إلى المسلمين من معابدهم، علم أنَّها من خصوصيات معابد الكفرة، وأنَّ اتخاذ المسلم لها وسيلة للعبادة بدعة ضلالة، وهذا ظاهرٌ بحمد الله تعالى، وهذا أهمُّ مَدْرَكٍ لِلْحُكْم على السُّبْحَة بالبدعة،
…
وتحقق مناط المنع فيها: التشبُّه"
(3)
.
(1)
فيض القدير 4/ 355.
(2)
بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى، من قبيلة بني زيد القضاعية، ولد عام 1365 هـ، من مشايخه: الشيخ صالح بن مطلق، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أُسندت إليه الكثير من المناصب، عُيِّن قاضيًا في المدينة النبوية، ثم إمامًا وخطيبًا للمسجد النبوي، ثم وكيلًا عامًا لوزارة العدل، له تصانيف عديدة منها: فقه النوازل، أجهزة الإنعاش وعلامة الوفاة، حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات، براءة أهل السُّنَّة من الوقيعة في علماء الأُمَّة، كانت وفاته عام 1429 هـ. ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، ص 15.
(3)
السبحة تاريخها وحكمها، ص 101.
شبهة من اتخذ السُّبحة شعارًا والرَّد عليه:
قال البناني
(1)
: "إنَّ العقد بالأنامل إنما يتيسر في الأذكار القليلة من (المائة) فَدُوْن، أمَّا أهل الأوراد الكثيرة، والأذكار المتصلة، فلو عدَّوا بأصابعهم لدخلهم الغلط، واستولى عليهم الشغل بالأصابع، وهذه حكمة اتخاذ السُبْحة"
(2)
.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "ليس في الشرع المطهَّر أكثر من المائة في عدد الذكر المقيَّد بحال أو زمان أو مكان، وما سوى المقيَّد فهو من الذكر المطلق، والله سبحانه وتعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
(3)
، وتوظيف الإِنسان على نفسه ذكرًا مقيَّدًا بعددٍ لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم هو زيادة على المشروع، ونفس المؤمن لا تشبع من الخير، وكثرة الدعاء والذكر، وهذا الأمر المطلق من فضل الله على عباده في حدود ما شرعه الله من الأدعية والأذكار المطلقة، بلا عددٍ معيَّن، كلٌّ حسب طاقته ووُسعِه، وفَرَاغه، وهذا من تيسير الله على عباده، ورحمته بهم.
وانظر لَمَّا ألزم الطرقية أنفسهم بأعدادٍ لا دليل على تحديدها؛ وَلَّدَ لَهُمْ هذا الإِحداث بِدَعًا من اتخاذ السُّبَح، وإلزام أنفسهم بها، واتخاذها شعارًا وتعليقها في الأعناق، واعتقادات متنوعة فيها رغبًا، ورهبًا، والغلو في اتخاذها، حتى ناءت بحملها الأبدان، فَعُلِّقَتْ بالسُّقوف والجدران، وَوُقِّفَت الوقوف على العَادِّين بها، وانْقَسَمَ
(1)
هو: أبو بكر، بن محمد بن عبد الله البناني الفاسي الرباطي، متصوف، مولده ووفاته في رباط الفتح، أصله من فاس، له في التصوف أكثر من ستين كتابًا، منها: رسائله المسماة مدارج السلوك إلى ملك الملوك، الغيث المسجم في شرح الحكم العطائية، بلوغ الأمنية في شرح حديث «إنما الأعمال بالنية» ، توفي عام 1163 هـ. ينظر: الأعلام 2/ 70.
(2)
منحة أهل الفتوحات والأذواق، ص 9.
(3)
سورة الأحزاب: 41.
المتعبِّدون في اتخاذها: نوعًا وكيفيةً، وزمانًا ومكانًا، وعددًا، ثم تطورت إلى آلةٍ حديدية مصنَّعة، إلى آخر ما هنالك مما يأباه الله ورسوله والمؤمنون، فعلى كل عبدٍ ناصحٍ لنفسه أن يتجرَّد من الإِحداث في الدين، وأن يقصر نفسه على التأسِّي بخاتم الأنبياء والمرسلين، وصحابته رضي الله عنهم "
(1)
.
4 -
صلاة التسابيح
أ كيفيتها عند ابن عجيبة
قال: "أربع ركعات تقرأ فيها الفاتحة والكافرون والعصر ( .... )
(2)
والإخلاص، وبعد ذلك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسة عشر مرة، وفي القيام وفي الركوع والاعتدال والسجود، والجلوس بينهما، والاستراحة بينهما والتشهد وبعدها قبل السلام يدعو
…
"
(3)
.
ب ما يستند عليه في مشروعيتها
ومستند المجيزين لها ما رواه أهل السُّنن عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعبَّاس بن عبد المطلب: «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ أَلَا أُعْطِيكَ أَلَا أَمْنَحُكَ أَلَا أَحْبُوكَ أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ عَشْرَ خِصَالٍ، أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَقْرَأُ في كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ في أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ قُلْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ خَمْسَ
(1)
ينظر: السبحة تاريخها وحكمها، ص 104.
(2)
لم يتضح لي من المخطوط.
(3)
مخطوط الأنوار السنية والأذكار النبوية ل/6.
عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِى سَاجِدًا فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ في كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ في أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا في كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ففي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ففي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ففي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ففي عُمُرِكَ مَرَّةً»
(1)
.
وهذه الصلاة التي تعرف عند أهل العلم بصلاة التسابيح قد اختلف فيها أهل العلم: فمنهم من ينكرها ولا يرى مشروعيتها كالإمام أحمد
(2)
، ومنهم من يقول بمشروعيتها كالحنفيَّة والشافعيَّة، وسبب ذلك اختلافهم في صحة الحديث الوارد فيها، فمنهم من صحَّحه، ومنهم من حسَّنه، ومنهم من ضعَّفه، ومنهم من جعله في الموضوعات كابن الجوزي فقد عدَّه من الأحاديث الموضوعة التي لا تثبت وذكر له ثمان طرق كلها حكم عليها بعدم الثبوت
(3)
.
والذي رجَّحه بعض أهل العلم عدم مشروعيتها وأنَّ الحديث الوارد فيها ضعيفٌ ولا يصحُّ، قال العقيلي:"ليس في صلاةِ التسبيح حديثٌ يثبت"
(4)
.
(1)
أخرجه أبوداود، باب صلاة التسابيح 1/ 499، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة، باب صلاة التسابيح رقم 1386 - 1387 والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة التسابيح 2/ 348، رقم 481، وقال: هذا حديثٌ غريب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح، ولا يصح منها شيء، وأخرجه البيهقي من حديث أبي رافع (3/ 52)، وقال الألباني: إنَّ الحديث ثابت في جميع طرقه ولا ينزل عن مرتبة الحسن، وهو عندي صحيح بمجموع طرقه. ينظر: صحيح الجامع الصغير 2/ 1314.
(2)
ينظر: المغني 2/ 98.
(3)
ينظر: الموضوعات 2/ 144.
(4)
الضعفاء الكبير 1/ 124.
والعقيلي هو: أبو جعفر، محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، سمع جدَّه لأمه يزيد بن محمد بن العقيلي ومحمد بن إسماعيل الصائغ وأبا يحيى بن أبي مسرة، وعلي بن عبد العزيز البغوي، ومحمد بن خزيمة، وكان مقيمًا بالحرمين، وحدَّث عنه أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي، ويوسف بن الدخيل المصري وأبو بكر بن المقرئ، له تصانيف منها: الضعفاء الكبير، كتاب الصحابة، كانت وفاته عام 322 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 3/ 833.
"وقال أبو بكر بن العربي
(1)
: ليس فيها حديثٌ صحيحٌ ولا حَسَن"
(2)
.
وضعَّف هذه الصلاة الحافظ أبو الحجَّاج المزِّي
(3)
.
وضعَّفه الهيثمي
(4)
في مجمع الزوائد
(5)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "كلُّ صلاةٍ فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السُّور أو التسبيح، فهي كذبٌ باتفاق أهلِ المعرفة بالحديث، إلا صلاة التسبيح فإنَّ فيها قولين لهم، وأظهر القولين أنها كذب، وإن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم، ولهذا لم يأخذها أحدٌ من أئمة المسلمين، بل أحمد بن حنبل وأئمة أصحابه كرهوها وطعنوا في حديثها، وأمَّا مالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم فلم يسمعوها بالكليَّة،
(1)
هو: أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي الإشبيلي المالكي، القاضي، له تصانيف منها: العواصم من القواصم، عارضة الأحوذي في شرح الترمذي، أحكام القرآن، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، توفي عام 543. ينظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1294، 1081، شذرات الذهب 4/ 141.
(2)
عارضة الأحوذي 2/ 226 - 227.
(3)
ينظر: التلخيص الحبير 2/ 7.
والمزِّي هو: أبو الحجاج، جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزِّي، من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، كان محمود السيرة، من تلامذته الحافظ ابن كثير وهو زوج ابنته، توفي عام 742 هـ. ينظر: البداية والنهاية 14/ 191.
(4)
هو: أبو الحسن، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، نور الدين، المصري القاهري، ولد عام 735 هـ، له كتب وتخاريج في الحديث، منها: مجمع الزوائد ومنبع والفوائد، ترتيب الثقات، لابن حبان، وتقريب البغية في ترتيب أحاديث الحلية، كانت وفاته عام 807 هـ. ـ ينظر: الأعلام 4/ 266.
(5)
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 284 - 285.
ومن يستحبها من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فإنما هو اختيارٌ منهم، لا نقلٌ عن الأئمة"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح، وقد رواه أبو داود
(2)
والترمذي
(3)
، ومع هذا فلم يَقُل به أحدٌ من الأئمة الأربعة، بل أحمد ضعَّف الحديث ولم يستحب هذه الصلوات، وأمَّا ابن المبارك
(4)
فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها قعدة طويلة بعد السَّجدة الثانية، وهذا يخالف الأصول فلا يجوز أن تثبت بمثل هذا الحديث، ومن تدبَّر الأصول علم أنه موضوع"
(5)
.
(1)
منهاج السُّنَّة 7/ 434، وضعَّف إسنادها ابن حجر من جميع الطرق، ينظر: التلخيص الحبير 2/ 7 - 8.
(2)
هو: أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران السجستاني الأزدي، الإمام الجليل صاحب السنن، من سجستان الإقليم المعروف المتاخم لبلاد الهند، ولد سنة 202 هـ، سمع من سعدويه وعاصم بن على والقعنبي وسليمان بن حرب، وروى عنه الترمذي والنسائي وابنه أبو بكر بن أبى داود وأبو على اللؤلؤي وأبو بكر بن داسة وأبو سعيد بن الأعرابي، وله مصنفات منها: كتاب السنن، توفي أبو داود في سادس عشر شوال سنة 275 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/ 293.
(3)
هو: محمد بن عيسى بن سورة بن الضحاك السلمي الترمذي، كان أحد الأئمة الذين يُقتدى بهم في علم الحديث، مبرّزًا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان، تلميذ البخاري، ولد في قرية بوغ سنة 209 هـ، وسمع من: قتيبة بن سعيد، وأبي مصعب، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وإسماعيل بن موسى السدي، وسويد بن نصر، توفي سنة 279 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 2/ 154، شذرات الذهب 3/ 327.
(4)
هو: عبد الله بن المبارك المروزي، مولى بني حنظلة، فقيه خراسان، ثقة ثبت، جمع الحديث، والفقه، والعربية وأيَّام الناس، ولد سنة 118 هـ، وتوفي في رمضان سنة 181 هـ، وله ثلاث وستون سنة. ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 739، الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1/ 281.
(5)
مجموع الفتاوى 11/ 579.
ونقل المباركفوري
(1)
كلام المنذري
(2)
في المسألة "قال الحافظ المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس المذكور: وقد روي هذا الحديث من طُرُقٍ كثيرة وعن جماعة من الصحابة وأمثلها حديث عكرمة هذا وقد صححه جماعة منهم الحافظ أبو بكر الآجري
…
وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي
(3)
،
وقال أبو بكر بن أبي داود
(4)
سمعت أبي يقول: ليس في صلاة التسبيح حديثٌ صحيحٌ غير هذا"
(5)
.
وأمَّا ذكره المنذري في تصحيحه لهذا الحديث فقد تعقَّبه الحافظ ابن حجر
(1)
هو أبو العلا، محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، ولد ببلدة مبارك بور سنة 1283 هـ، واشتغل بالتدريس في المدرسة الأحمدية ببلدة آره، فدرَّس وأفاد زمانًا، ثم انتقل إلى مدرسة دار القرآن والسُّنَّة في كلكته، فدرَّس بها مدة، ثم اعتزل التدريس وانقطع للتأليف، وأقام عند العلامة الشيخ شمس الحق العظيم آبادي ثلاث سنين، وأعانه في تكميل عون المعبود، ثم عاد إلى وطنه مباركفور ولزم بيته عاكفًا على التصنيف والتأليف، توفي سنة 1353 هـ. ينظر: الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام، عبد الحي فخر الدين الطالبي 8/ 1272.
(2)
هو أبو محمد، عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، زكي الدين المنذري، عالم بالحديث، والعربية، من الحفَّاظ المؤرخين، ولد سنة 581 هـ بمصر، وقرأ القرآن على الأرتاحي، سمع من أبي عبد الله الأرتاحي، وعبد المجيد بن زهير، ومحمد بن سعيد المأموني، وروى عنه: الدمياطي، والشريف عز الدين، والشيخ محمد الفزاز، له تصانيف عديدة منها: الترغيب والترهيب، التكملة، شرح التنبيه، توفي سنة 656 هـ. ينظر: الوافي بالوفيات 6/ 202.
(3)
هو أبو الحسن، علي بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، الشيخ المقرئ المسند العابد المقدسي الصالحي، قيِّم جامع الجبل، ولد سنة 617 هـ، وسمع من البهاء عبد الرحمن، وابن الزبيدي، وابن غسان، وجعفر الهمداني وارتحل لسماع الحديث فسمع ببغداد من الكاشغري، وجماعة، ونسخ الأجزاء بخط ضعيف، وصحب الشيخ الفقيه ببعلبك مدة حصلت له الشهادة بأيدي التتار سنة 699 هـ. ينظر: المعجم المختص بالمحدثين 1/ 157 ..
(4)
هو أبو بكر، عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني، من كبار حفَّاظ الحديث له تصانيف، كان إمام أهل العراق، وعمي في آخر عمره، ولد بسجستان، ورحل مع أبيه رحلةً طويلة، وشاركه في شيوخه بمصر والشام وغيرهما، واستقرَّ وتوفي ببغداد سنة 316 هـ. ينظر: تذكرة الحُفَّاظ 2/ 298، تاريخ بغداد 9/ 464.
(5)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 2/ 598.