الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في اللوح المحفوظ شيئًا من الأشياء، بل جميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، مثبتة في اللَّوح المحفوظ، على ما هي عليه، فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به القلم.
وفي هذه الآية دليلٌّ على أنَّ الكتاب الأول قد حوى جميع الكائنات، وهذا أحد مراتب القضاء والقدر، فإنها أربع مراتب: علم الله الشامل لجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الموجودات، ومشيئته وقدرته النافذة العامة لكل شيء، وخلقه لجميع المخلوقات، حتى أفعال العباد.
ويحتمل أن المراد بالكتاب هذا القرآن، وجميع الأمم تحشر وتجمع إلى الله في موقف القيامة، في ذلك الموقف العظيم الهائل، فيجازيهم بعدله وإحسانه، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، أهل السماء وأهل الأرض"
(1)
.
سادسًا: الميزان والحساب
المِيْزَانُ في اللغة: مذكَّر، وأصله من الواو وجمعه (مَوَازِينُ)
(2)
.
قال ابن فارس: "الواو والزاي والنون بناءٌ يدلُّ على تعديلٍ واستقامة، وزنت الشيءَ وزنًا، والزَّنة: قدرُ وزن الشَّيء"
(3)
.
والميزان: هو الآلة التي يوزن بها الأشياء أو ما تقدَّر بها الأشياء خِفَّةً وثقلًا
(4)
.
وقد أشار ابن عجيبة إلى هذا التعريف فقال: "وهو جمع ميزان، وهو ما يوزن به الشَّيء ليُعرف كميته، وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها"
(5)
.
(1)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 255.
(2)
المصباح المنير 1/ 339.
(3)
مقاييس اللغة 6/ 107.
(4)
ينظر: تهذيب اللغة 13/ 176، لسان العرب 13/ 446.
(5)
البحر المديد 4/ 520.
وفي الشَّرع: "ما توزن فيه الأعمال يوم القيامة، وهو ميزانٌ حقيقيٌّ له لسان وكفَّتان ولا يعلم قدره إلا الله"
(1)
.
رأي ابن عجيبة في إثبات الميزان.
يُثبت ابن عجيبة الميزان، كما في قول الله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(2)
.
وأمَّا رأيه في الوزن هل هو للأعمال أم الصحائف، فيرى أنه لصحائف الأعمال، يقول: " {وَالْوَزْنُ} أي: وزن الأعمال، على نعت الحق والعدل، حاصلٌ يوم القيامة، حين يُسأل الرَّسل والمُرسل إليهم، والجمهور على أنَّ صحائف الأعمال تُوزن بميزان له لسان وكفَّتان، ينظر إليه الخلائق؛ إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم، ويؤيده ما رُوِي:«أنَّ الرَّجل يُؤتى به إلى الميزان، فيُنشَر عليه تسعَةٌ وتِسعُونَ سِجلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مدّ البصر، فتخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة، فتوضع السجلات في كفَّة، والبطاقة في كفَّة، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلَّات»
(3)
، وقيل: توزن الأشخاص؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّه ليأتي العظيم السَّمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة»
(4)
، والتحقيق: أنَّ المراد به الإهانة والتصغير، وأنه لا
(1)
ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة 6/ 1245، لوامع الأنوار البهية 2/ 184، ومجموع الفتاوى 4/ 302، تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان 2/ 178.
(2)
سورة الأعراف: 8.
(3)
أخرجه ابن ماجه 2/ 1437، رقم 4300، والحاكم في المستدرك 1/ 710، رقم 1937، وقال: صحيح الإسناد، على شرط مسلم، والترمذي 5/ 24، رقم 2639، وقال: حسن غريب، وابن حبان 1/ 461، رقم 225، واللفظ له، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع، رقم 8095.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، 3/ 257، رقم 4729.
يساوي عند الله شيئًا؛ لاتباعه الهوى.
ثم فصل في الأعمال فقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: حسناته، أو الميزان الذي يوزن به حسناته، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن، فعلى الأول هو جمع موزون، وعلى الثاني جمع ميزان، فمن رجحت حسناته {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} "
(1)
.
ورَأْيُ ابن عجيبة موافقٌ لأقوال أهل العلم، قال البقاعي
(2)
: " {وَالْوَزْنُ} بميزانٍ حقيقيٍّ لصحف الأعمال أو للأعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به"
(3)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: "وأجمع أهل السُّنَّة على الإيمان بالميزان، وأنَّ أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأنَّ الميزان له لسانٌ وكفَّتان، ويميل بالأعمال"
(4)
.
وقال أبو حاتم
(5)
وأبو زرعة
(6)
: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا
(1)
البحر المديد 2/ 465، وينظر: تفسير البيضاوي 3/ 6.
(2)
هو: أبو الحسن، إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّباط برهان الدين البقاعي الشافعي، ولد سنة 809 هـ، محدِّث ومفسِّر، مقرئ، من شيوخه: محمد بن محمد الجزري، وابن حجر العسقلاني، له مؤلفاتٌ منها: تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد، وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، توفي سنة 885 هـ. ينظر: إمتاع الفُضَلاء بتَراجِم القُرَّاء فِيما بعد القرن الثامِن الهجري 2/ 74.
(3)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 7/ 359، وينظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 389.
(4)
فتح الباري 13/ 538، وينظر: أصول السُّنَّة، ص 162.
(5)
هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحافظ الغطفاني، أحد الأعلام، محدِّثٌ حافظ، قال عن نفسه: كتبت الحديث سنة 209 هـ، ولد سنة 195 هـ، وتوفي سنة 277 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 13/ 247، تذكرة الحُفَّاظ 2/ 567.
(6)
هو: أبو زرعة، عُبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ الرازي، مُحدِّث الرَّي، من مؤلفاته: كتاب الضعفاء والمتروكين، توفي سنة 264 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 13/ 65، تذكرة الحُفَّاظ 2/ 557.
وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم
…
أنَّ الميزان حق، له كفَّتان، توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئها"
(1)
.
ومسألة وزن الأعمال أو الصحائف مسألة خلافية بين أهل العلم:
فمنهم من قال: إنَّ الذي يوزن صحائف الأعمال، وهذا القول وصف بالمشهور، ونسب إلى جمهور المفسِّرين، واختاره القرطبي
(2)
، وابن الجوزي
(3)
، وابن عطيَّة
(4)
، والشوكاني
(5)
، واستدلُّوا بحديث البطاقة المشهور
(6)
.
ومنهم من قال: إنَّ الذي يوزن الأعمال نفسها، وهذا ظاهر تبويب البخاري
(7)
، وصحَّحه ابن حجر
(8)
، وهو مفهوم كلام ابن تيمية
(9)
، وابن رجب
(10)
، رحمهم الله.
واستدلوا بأحاديث منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرَّحمن، خفيفتان على اللِّسان، ثقيلان في الميزان
…
»
(11)
.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة 1/ 197.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 7/ 165 - 166.
(3)
زاد المسير 3/ 170.
(4)
المحرر الوجيز 5/ 433.
(5)
فتح القدير 2/ 97.
(6)
تقدم، ص 571.
(7)
باب قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} وأنَّ أعمال بني آدم وقولهم يوزن، 6/ 2749.
(8)
فتح الباري 13/ 672، قال: والصحيح أنَّ الأعمال هي التي توزن.
(9)
مجموع الفتاوى 4/ 203.
(10)
جامع العلوم والحكم 2/ 16، عند الحديث الثالث والعشرين.
(11)
أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، 4/ 2011، رقم 6406.